سؤال الهوية في «سجين الزرقة» للعمانية شريفة التوبي

حجم الخط
0

تتناول رواية «سجين الزرقة « للكاتبة العمانية شريفة التوبي موضوعا مهما في باحة المشهد الثقافي، من خلال إيقاعها القائم على حبكة تسلط الضوء على مجهولي النسب أو أبناء الخطيئة حسب تعدد المسميات، وأحد ركائزها الأساسية التعرض لمسألة التفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي، وهم بهذا يدفعون ثمنا باهظا نتيجة أخطاء غيرهم، لاسيما أن تمثيل الأحداث السردية بما ينطوي عليه من تفاصيل دقيقة تعكسه ضمنيا المقاسمة التي تنحو في إشراك المتلقي وإقحامه ضمن عوالمها، وجوهر بؤرة الالتقاء يتجلى في حمل الهمّ الأنطولوجي معا، فتبدأ رحلة البحث مستندة إلى آليات تفكيك بنية المجتمع العماني المصغر، عبر مظاهر الحكي المتنوعة في أبعادها السوسيولوجية والسيكولوجية والتاريخية، لذا، فمجال النقاش أو السجال كما هو طالع من العمل الفني الصادر عن الآن ناشرون وموزعون في عمان/الأردن 2020، يتحدد في علاقة المتخيل بالواقع، ويترتب عن هذه الحركة المدججة بحوافز الوعي النقدي تعديل أشكال العلاقات الاجتماعية، إذ أن عملية البناء يتم بمقتضاها زحزحة الشروط والقوانين والصور بنماذجها الحاكمة على الوعي، من أجل خلق دينامية تضمن للذوات الانخراط والتكيف والبقاء.
الرواية تحمل في جوفها مأساة حقيقية بثيماتها التي تدور أحداثها حول موضوع مجهولي النسب أو أبناء الخطيئة، وما يعانون منه من صور الاغتراب وحالات التردد والتخبط والممارسات العقيمة، ويتعلق الأمر، بالشخصية الرئيسية راشد وعلاقته بأمه شمسة، فكانت علاقة يسودها الخواء الروحي والجفاف العاطفي، وقد اتخذتهما الكاتبة شريفة التوبي رمزان يعكسان داخل المتن الحكائي صورة مصغرة عن المجتمع العماني، فتتعرض والدة راشد لعملية اغتصاب واعتداء وحشي من قبل زوج أمها بعدما توفي أبوها، وهي أسرة تتكون من ابن وبنتين وكانت أكبرهم، فحملت سفاحا بمولود اسمه راشد، هو أحد هؤلاء الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم محاصرين وسط هذه الجريمة التي لم يكن فيها المتسبب أصلا، فعاش تجربة مريرة عبر رحلة طويلة دام عمرها الزمني ثلاثون عاما بحثا عن أمه حتى يضمن لنفسه مكانة داخل مجتمعه، وهو شكل من أشكال القيمة، بوصفها مرحلة حاسمة تتيح له انتماء ووجودا؛ يكون جديرا بالاستحقاق عضويا ووظيفيا، أو كما يسميه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو بـ»النحن» بالمعنى الذي يعيد فيه ترتيب علاقته مع الآخرين في حقل التجربة الإنسانية، لأن لغة الهجاء والنظرات الدونية ما فتئت تطارده، وبالتالي شكلت له عائقا أنطولوجيا على صعيد التدبير والممارسة، إذ يؤكد في صيغه التواصلية على استحالة الفعل الإنساني، وتأسيسا على ذلك، نستهل حديثنا في هذا المقام بالمقطع السردي الآتي «هذه هي المرأة التي كنت تبحث عنها طوال هذه السنوات، هذه من كانت سببا في وجودك الشقي في هذه الحياة، هذه هي من جعلتك تدفع ثمن جريمة لم ترتكبها، وتخلت عنك وابتعدت، لكني دفعته مناصفة معك يا حبيبي، وما زلت أدفعه، الثمن كان باهظا يا راشد».
وهذا ما يفسر لنا أشكال العنف بتجاربه الصاخبة، وعلى نحو خاص، فإن النكسة تشير إلى ضياع حقيقي، يهدد حياة الأفراد بسبب المعاملة غير العادلة داخل الواقع الاجتماعي العماني، فالفوارق الاجتماعية وسياسة الإقصاء وانتشار ثقافة الغاب شكلت عاملا رئيسيا في إرساء قيم مبتذلة ومنحطة، فراشد وجد أساليبها وممارساتها صورا متأصلة في نفوس المجتمع العمّاني الصغير، نتيجة هشاشة الرؤية التي أفرزتها الوقائع المتشابكة، ما جعل من شخصية شمسة بفعل الضغوطات والذهنيات المتوارثة التخلي عنه مرغمة مسلوبة الإرادة والقوة «لقد صدقت ما قالوه لي أن في البعد خيرا لي ولك؛ فسلمتك للحياة وأنا غير آمنة منها عليك، لم يكن بعدك عني اختيارا، إنما أجبرت عليه..» وتضيف أيضا «لم أكن شجاعة بما يكفي لأدافع عنك، ولأكون معك، لم أكن شجاعة لأن أضحي بنفسي من أجلك، وأواجه بك الدنيا وما فيها، وأتحدى بك السجن والجلاد والحياة والموت، ألف سوط كان يجلدني يا راشد، وألف قيد كان يقيدني». فالملفوظ اللساني في نمطه التعبيري، يهدف إلى تمرير الفكرة بشكل قصدي من قبل الكاتبة، وبالتالي، كان القناة الموجهة لبوصلة المتلقي، فيرى بعينه الفاحصة أن المكون البيولوجي المختلف، قد فعل فعلته بحضوره الطاغي على الحياة الاجتماعية، وبشكل أساسي، يقوده إلى خلاصة مفادها التشوهات التي تطال هذا الأفق في مجالاته التداولية، ما يسمح للأطراف المتضادة بممارسة الهيمنة وتحقيق الغلبة على الطرف الثاني المهزوم بيولوجيا، وبالتالي، يقف سدا منيعا في تحقيق المشاركة المتكافئة.

ثمار عمليات التجديد تعد عاملا مهما في تحقيق العيش المشترك، والحالة هذه، تكون طرفا مساعدا للكينونة في ربط جسور التواصل، وكمعطى أساسي في تقوية شوكة التماسك الاجتماعي، بما ينجر عنه من ممارسات خالية من البنى الذهنية المعيقة لحركة التقدم على المستويات كافة.

وتبعا لذلك، فإن هذا النموذج وفق رؤية الروائية شريفة التوبي داخل المجتمعات العمانية، يمثل تهديدا أنطولوجيا للكينونة، بحيث يفرض نمطا من العيش باتخاذه طبيعة خاصة، إذ يؤصل في مفهومه الضيق لثنائية العبد والسيد في اندفاعاته اللاشعورية، وعلى وجه التحديد، كونه رؤيا أشبعت بثقافة اللاوعي المنسلة من العادات والتقاليد المتجذرة في المجتمعات العرقية، ويتعلق الأمر، بالمنطق المنحدر من مشكاة التراتب القيمي المتحيز لفكرة التفوق، ويظهر ذلك جليا في المحكي المتعلق بالزواج، عندما طلب راشد يد مريم من أبيها، فجاءته الإجابة على جناح السرعة من والدها على لسان أخيها، باللهجة العمائية قائلا «يقولك أبوي إحنا ما نزوّج غبون» ثم أردفها راشد بقوله تحت نبرة حزينة متيقنة «توقعت رفضي، لكني لم أتوقع أن يكون الردّ قاسيا وجارحا بهذه الدرجة، أسير إلى شقتي، أجر هزيمتي، ألعق جراحي، أتأمل وجهي في المرآة» فالرؤية الدونية في هذا السياق، شكلت عتبة مهمة داخل ثقافة المجتمع العماني، وتجلى ذلك في تعطيل الإرادة عن طريق امتلاك حرية الاختيار، وهنا، الدال اللغوي يحيلنا إلى أن عملية نجاح المشاريع يقتضي منا تقويض عقلية النقاء العرقي مقارنة بمدلولات المواطنة بمعناها الحديث.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى قضية العدالة الاجتماعية ومبدأ المساواة وتحقيق المصلحة العامة، فضلا عن ذلك، عدم وجود التباينات المورفولوجية الفعلية لدى شخصية راشد الداعية إلى تلك القرارات الحاسمة، وهي قرارات تقض مضجع الكينونة، فيصبح لها أثر كبير على مستوى الانتماء والهوية، والهواجس الوجودية والأسئلة المصيرية، يجيبنا المقطع السردي الآتي عن هذه المعضلة «غارق أنا في اللاشيء، وحيد في تلك المنطقة الضبابية التي لا أعرف أين أنا من الحياة فيها، أصوات كثيرة تحدث ضجيجا في رأسي، أصوات بكاء لا أدري من أين تأتي، راشد ابن الخامسة كان يبكي منزويا في إحدى زوايا الغرفة في الليلة الأولى حينما أخذوه من أمه، ينشج ويشهق دون أن يجد حضنا، إنه الشوق ذاته، والغربة ذاتها، والشعور بالضياع ذاته».

وعلى وقع رنين الإخفاقات والانهيارات في انفجاراتها المتلاحقة التي تمارس ضغطا رهيبا على الذات، ما يمكن الإشارة إليه ضمن هذه الأزمة الخانقة، أن هذه الممارسات تمارس عنفا رمزيا، لهذا، تصبح الذات موزعة على عالمين، فبين عالم الواقع والمأمول أصبحت شخصية راشد حاملة لرومانسية؛ يطالها الحزن والشجن الطافح بالخيبات والانكسارات والجراحات، وفي أسوأ الحالات، وجد الاغتراب طريقه لكي ينهش داخله وأحشاءه، فتحولت هذه المعضلة إلى رغبة ملحة في إنهاء العلاقة بالرحيل والهجرة أمام عدة خيارات مطروحة في عقله، «هناك بعد ثالث للسفر، الشوق إلى ما بعده» بتعبير الكاتب السويدي جان ميردال (‏Jan Myrdal‏).
من هذا المنطلق، فإن ثمار عمليات التجديد تعد عاملا مهما في تحقيق العيش المشترك، والحالة هذه، تكون طرفا مساعدا للكينونة في ربط جسور التواصل، وكمعطى أساسي في تقوية شوكة التماسك الاجتماعي، بما ينجر عنه من ممارسات خالية من البنى الذهنية المعيقة لحركة التقدم على المستويات كافة، الموصل بالمجتمعات إلى الشكل المطلوب وهنا، الروائية تطرح موضوع الهجرة كإدانة للآخر، لتضعه ضمن صيغ الاعتراف، وتبرز ملامح هذه الإدانة في الرحلة التي قام بها راشد بالسفر إلى أمريكا، هذا الانتقال الذي كان يرى فيه تشكيل هويته الإنسانية، هروبا من الوعي الزائف بنماذجه الحاكمة، الهوية التي يشق بها طريقه نحو المستقبل، وأهم ما في القضية محاولة إعطاء معنى لحياته، والعلامة الدالة على ذلك قول السارد على لسان راشد «لأول مرة أسافر في حياتي، لأول مرة أرى الصورة على حقيقتها، الأضواء بدت صغيرة وباهتة جدا من الأعلى، أخيرا سافرت وركبت الطائرة، ولم أكن أظن أن الحال سينتهي بي هاربا».

كاتب من الجزائر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية