غالباً ما تكون النهاياتُ المفتوحة المدهشة الناجحة في الروايات أحدَ أهم أسباب نجاحها؛ ليس لكونها تأتي من خلق قوة وعمق جريان الرواية لها، بأحداثها وشخصياتها وتشبيك علاقاتها، وسحر الثيمة التي تربط وتُوجِّه مياه الجريان فحسب. وإنما لكونها كذلك، تعيد شغف القارئ للتفكير، تحت ضغط قوة الإحساس التي ولّدتها، في الأحداث التي مضتْ والشخصيات التي تطوّرت والعِبَر الكامنة في الحكاية الجارية. والأهمّ الذي تُولّده هذه النهايات، ولا يفكّر فيه القارئ بقدر ما يعيشه، هو انفتاح داخله على شخصيته وأحداثه هو نفسه، وعلى البيئة التي أثّرت وصنعتْ ما هو عليه وما أدت إليه هذه الأحداث؛ وغالباً ما يؤثر الانفتاح المدهش في دفعه للتأمّل بجروحات نفسه، وبيئته، وفي وضعه ربّما على عتبات التشافي الشخصي الذي يقود غالباً لفعل مساهمته في تشافي بيئته كذلك.
رواية الفلسطيني علاء حليحل «سبعُ رسائلَ إلى أم كلثوم» ربما تصلُح نموذجاً عن الرواية المدهشة بنهايتها المفتوحة التي تخدع القارئ لأول وهلة بانغلاقها على موتٍ صادم، لكنها سرعان ما تفتح بهذا الصدم نفسها على نفسه، كاسرةً الباب ومسفوحةً بقوّةٍ تدفعه للتفكير والتأمل في النفس وجروحاتها. ثم في الواقع الذي يساهم في صنعها وتعقيدها، ورسم اتجاهاتها بظلّ تخفّيه كشيطانٍ في تفاصيلَ دقيقةٍ لا تُرى، وفي أجواءِ أحداثٍ تُنْسي بفورتها وقيمها النبيلة ما ستؤول إليه. كما حدث ويحدث في ثورات الربيع التي تكتشف بقاء صقيع الشتاء داخلها عند تحقّقها، وعند استلام صقيع التطرّف الديني القاتل للثورات مقدّراتِ مصيرِها، سواء باتفاقه مع صانعيه الفاعلين الخارجيين وعسكره الداخليين لتدمير الربيع، أو باستخدام الصانعين له حصانَ طروادةٍ لإعادة إنتاج الاستبداد.
وربّما لم يأتِ عبثاً استخدام حليحل لعنواني فصليه الأول والثالث الأخير في الرواية: «ربيع في الشتاء» و«شتاء في الربيع» عبثاً، رغم أن زمن روايته هو عام الانتفاضة الفلسطينية المذهلة 1987، من حيث كونه يُذكّر ويدفع للتأمل بمآل ثورات الربيع العربي، وما يحدث في فلسطين الآن، وربّما يدفع للأمل الذي لخّصه لينين، كمثالٍ، بأن ثورة عام 1905 التي فشلتْ كانت بروفة لنجاح ثورة 1917.
للوصول إلى نهايته المفتوحة المدهشة بصدْمها، يضع حليحل محوراً حساساً، هو نهوض المرأة الفلسطينية هاجر من مستنقع قيم المجتمع الذكوري التي كسرتْها، بأخلاقٍ متخلفةٍ تعامل المرأة التي تقيمُ علاقة حبٍّ لا تنتهي بالزواج، كعاهرةٍ تنهشها الإشاعات، وتغضّ الطرف عن نذالة الرجل الذي خذلها. وفي هذا النهوض يُجَلّي عبر حكاية هاجر وعائلتها أسلوب المجتمع الذكوري بالحصار وكسْر الكرامة، حيث يقوم ابن عمها مصطفى الطامع بها أصلاً، والذي نال تربيةَ الجهل ومشيَ حيط الحيط من أبيه المحايد الساكت على إذلال الاحتلال الإسرائيلي، بالزواج منها. مستغلاً فرصة حصارها وانكسارها، ومُتبِعاً ذلك بما حمل من قيم الذكورة الفارغة، بالسيطرة عليها من خلال مراعاتِها أمومتها لولدين وإجبارِها على ترك وظيفة مُدرّسة الأدب العربي لصفوف الثانوي، في قريتهم بالجليل الأعلى.
وعبر الحكاية المشوقة كذلك، يقوم حليحل بتجليةِ نهوض هاجر من مستنقع الذكورية الذي قمع حريتها وموهبتها في الكتابة، من خلال إشعال جمرة حبّها، بقدوم حبيبها السابق جمال الذي هجرها إلى ألمانيا، لحضور احتضار والده المريض. ولكنْ ليس لعيش ذكريات الحبيب والعودة لأسر «قيده الذي أدمى معصمها، مع التساؤل لمَ تبقيه وما أبقى عليها» فحسب، وإنما لحرقه كذلك وسط آلام شغفها به وآلام معاناتها من زوجها مصطفى الذي يخذلها بجبن مواقفه، مقارنةً بشجاعة أبطال الانتفاضة الجارية في الضفة الغربية على بعد أقل من ساعة خلف الخط الأخضر؛ وكذلك جُبنه في إخفاء تزويده الانتفاضة بالأحجار من محجره عنها.
مثلما يخذلها بكسر كرامة ولديه، سواء بالمعاملة القاسية وسيطرة الخوف، أو بالانصياع لقيم التأديب بالضرب في المدرسة، أو في خوف ولديه القاتل من غضبه على تربيتهم لجروٍ لطيفٍ تحت أوهام قيم نجاسة الكلب، أو في الأخطر الذي تكمن فيه تفاصيل الشيطان/ التمييز بين الولدين واستمالة ابن العاشرة يزن الأكبر القابل للتطويع باحترام وحب الأب، وإغداق النقود عليه لاستخدامه غرضاً في ما لا يستطيعه تجاه طرد الكلب الذي يقوم به رغم حبّه له، وتجاه زوجته التي اشتعلت فيها روح الحرية ويعرف ضمناً دونيته مقارنة بتعليمها وشجاعتها. وتجاه ابنه نور الأصغر بروحه المتمردة غير القابلة للتطويع، والذي تضطر أمه لحمايته، وإعادة الكرامة له بضرب المعلمة التي ضربته، وإغداق الحنان عليه، دون انتباهٍ إلى مشاعر خذلان التمييز التي تنتاب يزن، وتودي به إلى مأساة قابيل وهابيل.
في هذا الصراع العائلي الذاتي، وتحت صراعٍ عام مع المحتل، في سريان الكشف الخفي عن قيم الذكورية التي تساهم في بقائه، وتُفشل أسلحة مواجهته؛ يُبْرز حليحل قوةَ الرواية، وحنكةَ معالجة شخصياتها، وذكاءَها في الوصول إلى نهايتها المفتوحة، بخبرة مداخلة العناصر، وشبك البنية وتتويجها بعنوان مدهش في بساطة لمعته الأولى، وفي عمقه الذي يكتشفه القارئ فيما بعد. حيث يتجسد العنوان ثيمةً بالمرأة التي كانت رمزاً لحرية النساء وموُلّداً لقوّتهن في مواجهة قيد الذكورية، ومثلاً يُذكي في بطلة الرواية جمرَ اشتعالها بالحرية في رماد سكون وخذلان حياتها الزوجية/ كوكب الشرق، أم كلثوم، التي تُوجّه لها هاجر سبعَ رسائل في خطابها لها.
تُكسر روتينية هذا السرد بمقاطعات صيغة سرد المخاطَب عبر رسائل البوح، خلال سرد الراوي العليم لحكاية خذلانها من حبيبها الأول الهارب، ومن زوجها المنصاع المتخاذل، وحبها لولديها، ومحاولاتها في أن يكونا حرّين من تشويه علاقات القرية المتخلفة الراضخة للاحتلال تحت الخط الأخضر (ليس دون معالجة عميقة لأشكال الرضوخ وتوهج الخلاص منه تحت الرماد، بشخصيات الحياديين والخائفين من التهجير القسري والمتعاملين مع العدو والثوار). وهذا مع عملها في أن يكونا وطنيين يؤمنان بتحرّر فلسطين، حيث يشتعل ابنها الصغير نور غضباً مكبوتاً من رؤية الحادثة الشهيرة بتكسير جنود الاحتلال لأيدي أسير فلسطيني في التلفاز خلال الانتفاضة، ويبوح لأمه قبل النوم وهي خارجة من الغرفة: «يمَّا.. بدّي أصير فلسطيني»/ توقفت هاجر ونظرت إليه ملياً، بحب وفخر./ «بس إنتِ فلسطيني يمَّا.. كلنا فلسطينية.»/ «أنا بورجيهن! معاي كوم بنانير اللي شريتيلي اياهن.. ونقّيفة خالي ثابت. بتصيب عن ميتين متر».
وينضد حليحل الرواية بهذا العنوان كما عِقدٍ ساحرٍ مشوّقٍ، يتدفق فيه البوح مبرزاً فعل أم كلثوم الحارق للذكورية في نفوس ذكور وإناث العالم العربي، بالحبّ المتمرّد على القيد، من خلال كتاب سيرتها الذاتية الذي تقرأه هاجر وتتمثل قيمه، وكاشفاً أحداث وشخصية هاجر التواقة إلى الحب والتحرر من قيد مؤسسة الزواج الذكوري التي تأسر المرأة بخدمة المنزل والأمومة. وهذا في تماثلٍ مع كسرها لجدار الرسميّة بينها وبين من تبوح لها، وكأنها تخاطب ذاتها التواقةَ أن تكونَها بـ: «حبيبتي سومة»، منذ أول رسالةٍ تختم فصلها الأول، وتبوح لها فيها عن رغبتها في أن لا يكبر ولداها الحرّان خوف مسخهما رجلين مماثلين لأهل قريتها. وعن نظرتها إلى تحويل المجتمع الأمومةَ قيداً للنساء، مع البوح لها باستمرار شوقها لجمال وشعورها المرّ بخذلانه ونفورها من تكرار الخذلان بـ «حبّ إيه اللي انت جايّ تقول عليه».
وفي تقاطعات سرد الراوي العليم للحكاية برسائل هاجر يفتح حليحل للقارئ نهر بوح متداخل لحياة أم كلثوم بحياة هاجر، يجري فيه التساؤل الذي يثير تفكير القارئ في فلسفة الاحتمالات، بالرسالة الثانية عن ماذا كان يحدث لو لم تولد أمّ كلثوم:
«سأقول لكِ ماذا كان سيحدث لو أنك لم تولدي، أو أنك ظللتِ مغنية تواشيح وأدعية: كان الحبّ سيكون أخرسَ عند عشرات الملايين من الناس الذين لا يعرفون كتابة الرسائل ولا نظْم القوافي ولا التعبير بكلمات يرونها كبيرةً لا تلائم مقاس افواههم؛ كان التنفّس سيكون أقلَّ متعةً لأن الملايين لن يشعروا بلهب الآهات التي تخرج من حنجرتكِ وتستقرُّ في أعماق صدورهم؛ كان الماء سيكون أقلَّ عذوبةً لأن ملايين العطاشى الذين يردّدون الكلمات عن ظهر قلب، لن يعرفوا طراوةَ المياه الباردة التي تنزل الجوف بعد ترداد مقطع (حفضل أحبك من غير ما أقولّك). كما تجري فيه بلْوَرة علاقة أَسْر الحب المَرَضِيّة في تعلّقها بجمال في (ياما كنت أَتمنى أقابلك بابتسامة، أو بنظرة حب، أو كلمة ملامة)».
وتجري في الرسالة الثالثة عودة الروح في: «حبيبتي سومة./ إنها الانتفاضة!/ شعبي ينتفض!» و «ما أجملك يا سومة حين غنّيت لفلسطين كلمات نزار قباني: «أصبح عندي الآن بندقية/ إلى فلسطينَ خذوني معكمْ/ إلى ربىً حزينةٍ كوجه المجدليّةْ/ إلى القباب الخضر.. والحجارة النّبِيّة». ومعاني الوطن وارتباطه، في شاعرية أخاذة، بالأفق، ورأيها برواية أميل حبيبي «المتشائل»، في مقارنتها من هو الأحسن حالاً، الذي هَجَر أو هُجِّر أم الذي بقي تحت تنكيل الاحتلال؛ وشعورها بالنسبة لزوج حيادي متخاذل جبان أمام الاحتلال قويٍّ على أولاده مثل مصطفى الذي «يقتلني بخنوعه». إضافةً إلى شعورها بما يستحق الحياة على هذه الأرض، في مماثلة لمعاني محمود درويش في المقاومة.
ويجري في الرسالة الرابعة بوحُ هاجر لسومة عن أحلامها الخارجة عن المنطق، مع كشف تفاصيل عن حياة أم كلثوم؛ حبّها للقطارات ووسامُ الكوماندو الذي قلّدها إياه رشيد كرامي، ووضْعها الملحَ في عينيها كي لا تذهب إلى الكُتّاب، وعن حياتِها هي تحت الحكم العسكري الصهيوني والخوف من التهجير، والترهيب والرشاوي.
ويجري في الرسالة الخامسة بوحُها عن رحيل جمال، واشتياقها له، وزواج ابن عمها مصطفى لها درءاً للفضيحة، والأهمّ ضياعُ نور في الوادي تحت المطر بحثاً عن جروه المطرود سراً بأمر أبيه لأخيه، وتوفّز مصطفى الذي يلاحقه الشعور بالذنب ويراه في عيني هاجر التي تهجس بفعلته، للبحث عن ابنه. وإيجاد يزن لنور بعد ليلة بحثٍ لا مجديةٍ نائماً في برميل ركس أعلى تلة البلوطة، وكُرهُها الذي نما حجراً في قلبها لمصطفى، حيث: «الكراهية يا سومة حين تنضج جبلٌ من الإرادة والتصميم والجبروت. الكراهية من فولاذٍ، من حجرٍ. وقلبي الآن حجرٌ، فمن يعطيه لطفل فلسطيني يلقيه على دبابةٍ؟!».
ويجري في الرسالة السادسة بوحُها عن حكمة الحياة والموت والتساؤل عمّاذا يترك الإنسان، وقرارها بالعودة إلى التدريس في الثانوية، وحبّها لتدريس الشعر، الذي «يمنح المعنى الدقيق لكل المعاني التي لم نستطع تعريفها بأنفسنا، وحيث: «الشعر هو الدليل غير العلمي القاطع على وجود الأرواح»، وعيشُ الأرواح في رؤيتها، كما لو كان حليحل يهجس بالتشابك: «معنا لكن في عالم موازي لنا» حيث: «الأرواح أشجارنا الباطنية».
وتجري قبل مقاطعة سرد الراوي العليم ووصوله إلى خاتمة الصدم التي تفتح الرواية حين تغلقها، في الرسالة السابعة، تساؤلاتُ هاجر عن معنى الحياة وعن «ماذا لو كان المعنى لا معنى له».
علاء حليحل: «سبعُ رسائلَ إلى أم كلثوم»
الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2023
255 صفحة.