ينظر «روجِه بويفِه» Roger pouivet إلى الفضيلة الأخلاقيّة بوصفها موقفًا يتمّ تشييده على أساس قدرة طبيعيّة، قد تجعل الشخص متفوّقًا من الناحية الفكريّة. بيد أنّها تحفِّزه على البحث عن الحقيقة، إذ تصبح المسؤوليّة الإبستيمية La responsabilité épistémique شأنًا تربويًّا، وليست إعادة نظر جذريّة في الاعتقادات وبحثًا عن أساس مطلق.
إنّ الفضائل الفكريّة أو الإبّيستِمولوجيّة هي إذًا قدرات إنسانيّة وسمات تخصّ الطبع، وتضمن على قدر الإمكان -أي بشكل يقبل الوقوع في الخطإ- القيمة المعرفية لاعتقاداتنا. ومن بين أهمّها نجد:
الحياد الفكريّ: الانفتاح على جميع الأفكار وإبداء الرغبة في الإنصات لها من أجل فهمها، واحترام الاختلافات الفكريّة التي تنجرُّ عنها. ويقابلها التحيّز الفكريّ/الوحدة الفكريّة.
الرصانة الفكريّة: تَوخِّي الحذر تجاه الأفكار الشديدة الحماس، واحترام السلطة الفكريّة لذوي الكفاءة العلميّة.
الشجاعة العلميّة: فحص الأفكار المتداولة الشائعة وإخضاعها لمحكّ النقد والعقل. ويقابلها الكسل الفكريّ والشلل الفكريّ.
الانسجام الفكريّ: القدرة على إيجاد الوسيلة المناسبة للبحث من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويقابلها التشتّت الفكريّ.
وتكشف مراسلات «سبينوزا» –الصادرة ترجمتها حديثا عن دار الرافدين (2022) بتوقيع الباحث والمترجم الأنيق باسل الزين- عن حرصه الشديد على التشبث بالفضائل تلك. الأمر الذي يبدو واضحاً أشد الوضوح من خلال تمسكه بأوليّات المنهج العقلاني المطبوع بعلم الرياضيات، بما هو المصدر الذي تنهل منه تشتى المعارف الحسيَّة المجردة، وبما هو المدخل الرحب المؤدي صوب خلاص الإنسان وسعادته. يقول هنري أولدنبرغ Henri Oldenburg واصفا حال «سبينوزا» في رسالة خطها له بتاريخ 16 -26 آب، 1661: «إنَّ علم الأمور الجديَّة، الذي يجتمع مع اللطف والتهذيب (كل تلك الخصال الحميدة التي منحك إياها الفن والطبيعة) ينطوي في ذاته على عناصر جذب كثيرة تجعله محبوبا من كل إنسان نزيه تلقى تعليما حرا».
ومن ثم مأتى الحاجة إلى نقل المراسلات هذه إلى اللِّسان العربي، لا سيما وأنها تمكن من:
● الوقوف عند بعض مناحي اللَّبس والالتباس في الجهاز المفاهيمي المركب الذي يَنْظُمْ تأليف سبينوزا، قصد توضيحه ورفع ما يعتوره من غموض، بالنظر إلى قيمة الأسئلة والتوضيحات والمناقشات والانتقادات التي تلقاها سبينوزا من مجايليه سواء كانوا فلاسفة أو مفكرين أو علماء، إذ تبينوا كما يقول المترجم: «مواضع الالتباس في فلسفته، ووقفوا على بعض متناقضاتها، بالحجة، والبرهان، إلى حد يمكن القول معه إنَّ المراسلات هذه تشمل إضاءات لا غنى عنها لسبينوزا أولا، ولقارئه ثانيًّا، ذلك أنَّ النقد البناء يتيح للفيلسوف فرصة إعادة صياغة ما التبس وتوضيح ما احتجب من فلسفته».
● ترسيخ الفضائل المعرفية التي تحلَّى بها سبينوزا في عصره: الفهم، والتقصي، والرصانة الفكرية، والتدبر المنطقي، والهدوء الفلسفي، إلخ، ونبذ الرذائل المعرفية المتمثلة في: الجهل والتعصب وضيق الأفق، إلخ.
● سعة اطلاع سبينوزا (الفلسفة، اللاهوت، الفيزياء، الرياضيات، الفلك، إلخ).
● سعة صدر سبينوزا، إذ تنطوي مراسلاته على أبعاد إنسانية نادرة قوامها: العلاقات الوجدانية، والصداقات الرصينة. في رسالته إلى وليم فان بلينبيرغ Willem Van Bluenbergh بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 1665، يقول «سبينوزا»: «في الواقع من بين الأشياء التي لا تقع في مجال قدرتي، هو شرف تكوين علاقات صداقة مع الأشخاص الذين يطلبون الحقيقة بمحبة وصدق، مع كل ما تحظى به هذه العلاقات من أهمية، إذ أعتقد أنه لا يوجد في العالم بأسره شيء ما يمكن أن نحبه بثقة، من بين الأشياء التي تتجاوز قدرتنا، سوى هؤلاء الأشخاص. في الواقع، من المحال أن يختفي الحب الذي يُكنونه لبعضهم بعضا، ذلك أنه يتأسس على الحب الذي يحمله كل واحد منهم للحقيقة، مع العلم أنهم لا يعتنقون هذه الحقيقة نفسها متى أمكن لهم تبنيها. ويتعلق الأمر بالحب الأكثر سموا والأكثر ملائمة الذي يمكن أن نجده في الأشياء التي تتجاوز قدرتنا. إذ ما من شيء آخر، بما في ذلك الحقيقة، قادر على توحيد الآراء والمشاعر المتباينة. وعليه، لن أقول شيئا عن الفوائد الجمة التي تنجم عنها، كي لا أشغلك كثيرا بأمور تعرفها جيدا بدون شك. ومع ذلك، إذا ما عرضت لها حتى الآن، فذلك كي أظهر لك بوضوح كم يروقني، وسيروقني في المستقبل، أن أحظى بفرصة أن أضع نفسي في خدمتك».
فيما يفيد استقبال مراسلات «سبينوزا» عربيا؟
من نافلة القول، إنَّ فن المراسلات يُسهم إسهاما حميداً في تيسير سُبُل صوغ دليل خاص بفلسفة كل فيلسوف، إذ يُسلط الضوء على جهازه المفاهيمي، ويكشف عن اللبس التي يعتور بعض مناحيه المستعصية على الفهم، ومن أجل ذلك كتب الباحث والمترجم باسل الزين قائلا: « تندرج مراسلات سبينوزا في هذا السياق، إذ إنها توفر للقارئ العربي دليلاً خطه سبينوزا نفسه، ومجايلوه الأكثر تفقهاً وتعلماً. في هذا السياق، من البديهي القول إن فلسفة سبينوزا عصيّة في بعض مواضيعها على الفهم، جراء تعمد الفيلسوف حجب بعض أفكاره، أو تمويهها بالنظر إلى البيئة المتشددة التي كان يحيى فيها… وخوفا من مزيد من الاضطهاد. بهذا المعنى، تأتي هذه المُراسلات، التي تعهد أصحابها بالمحافظة على سريتها، لتوضح ما احتجب وتكشف ما استتر». ليس تزيدا في القول إن التقابس والتحاور مع الآخر هو الشكل الفلسفي الممتاز، على أن الأفكار أكثر ما تكون فلسفية عندما يستطيع من يفكر فيها من الداخل أن يبحث عن وجهها الخارجي. وليس هناك ما يساعد على هذا القلب أكثر من الحوار والتقابس. فالحوار كما يقول جابر عصفور» ـ دائما – لغة الأكفاء، الواثقين بأنفسهم، الراغبين في تطوير أنفسهم، الطامحين إلى توسيع آفاق معرفتهم، المؤمنين بأنهم لا يمتلكون المعرفة المطلقة أو اليقينية، بل المعرفة النسبية التي تغتني -دائما- بالتّفاعل.
وثقة المحاور بنفسه لا تعني أنه المالك الوحيد للحقيقة، أو صاحب العلم اللَّدني الذي لا يدانيه أحد، أو العارف الأوحد الذي لا بد أن يتعلم منه الآخرون الذين لا بد أن يكونوا أدنى منه، كأنَّه الصورة المقلوبة للملتحي، الذي يقذف من حوله بصفات الكفر أو الإيمان. إن ثقة المحاور بنفسه تعني ثقته بغيره، كما تعني أنه لا يمتلك القدرة – وحده – على صنع المعرفة، فالمعرفة نتاج مشترك يتجاوز الفرد، والفرد لا يتعرف شيئا إلا في فعل جدلي، تتجاوز فيه الأنا نفسها إلى غيرها، حيث يقع الآخر الذي يسهم في صنع معرفة الأنا. هذا الفعل الجدلي يبدأ بحوار الفرد مع نفسه، ويمتد إلى حواره مع غيره».
يحدّ الحوار بما هو فعل مستمر في الزمن – أو بما هو فعل لا يعرف انقطاعات وتوقفات – من سطوة النهايات المغلقة، وعنف الإجابات الجاهزة، وسقم المسلمات المطلقة، إنه فعل حيوي لا يكف عن تحويل الأجوبة إلى أسئلة جديدة، تتصدى لمناورات آباء الكهنوت الذين يسعون إلى تأبيد قدسيَّتهم الساحقة، بتكريس ثقافة الخنوع والعبودية، والإذعان والتصديق، والسكون والتقليد، فنحن نتحاور لكي نغذي شكوكنا لا لكي نزيد من وطأة يقينياتنا، فمن البديهي أنه «لا حوار دون حرية، أعني الحرية التي يتجاوب فيها الفرد مع المجتمع، وتحكم العلاقة بين المبدع والمتلقي، وأشكال الخطاب بين المفَكِّر والمفكَّر، الحرية التي تنتقل من خارج الفرد إلى داخله، والتي تختفي معها كل القيود السّياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية.
إنَّ منطق الحوار يبدأ من المنطقة التي لا تنطوي على تسليم بشيء سوى حق العقل في أن يختار لنفسه فعل معرفته، وأن يصوغ مدى هذا الفعل بملء إرادته، وأن يؤسّس معرفته -أن يصنعها وينتجها- بنفسه وبقدرته التي هي علامة خلقِه وشعار إبداعِه، فلا معرفة خارج صنع الإنسان واختيارِه. واختيار المعرفة يعني اختيارَ غايتِها وقيمتِها التي لا تفارق الوعي المتجدد بضرورة الانتقال بالإنسان من مستوى الضرورة، حيث لا حوار، إلى مستوى الحرية، حيث الحوار ولوازمه الإبداعية… وبقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الإرهاب. وإذا كان الإرهاب إلغاء لوجود الآخر، ونفياً لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدرات التسليم والتصديق، ومسكنات الإذعان والاستسلام، ومبرِّرات بطريركية الفكر أو مطريكية الثقافة. إن الإرهاب يتولد من رفض لغة الحوار وشروطه، أي من تسلطية الصوت الواحد، من الإيمان بأن ما تقوله وحدك هو الحق، وأنَّ الحق ملك خاص لك، ومن التسليم بأن فردا ما، فكرا ما، زعيما ما، يمتلك ما يجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأننا إزاء مجلى النبي الملهم، أو الصورة البشرية للحقيقة الكلية».
باحث من المغرب