تستهدف هذه القراءة مقاربة سرديات الذاكرة ومختلف أبعادها الملتبسة بأسئلة الفكري والجمالي والأنثروبولوجي، انطلاقا من رواية «بأي ذنب رحلت؟» للروائي المغربي محمد المعزوز.
العنوان ومرجعيات الخطاب الروائي:
إن بنية النص الموازي لا يمكن إدراكها إلا من خلال نسق علامات خطابي البداية والنهاية. ولعل الخطابين معا يتمثلان باعتبارهما بنية مُدمجة داخل هذا النسق. فـ«كل علامة يجب أن تدمج وتُفهم داخل نسق شامل للعلامات». ويتأكد تصورنا لخطابي البداية والنهاية كنسق علامات، من خلال اشتغالهما في هذا النص كآلية توليدية مشبعة برمزية الخطاب المرتبطة بسؤال الوجود الإنساني. «تساءل دامع العينين: ماذا يختبئ بعد، وراء الستار؟».
وتأسيسا على ذلك، يمكن القول إن بنية العنوان تتأسس على التناص مع البنية المركبية والدلالية للجملة، الواردة في النص القرآني «بأي ذنب قُتلت؟» وتُشكل في الوقت نفسه امتدادا لخطابي البداية والنهاية، من حيث جوهر سؤال الواقع والوجود. فالعلامة/ العنوان تتجاوز التمثل الأيقوني، إلى بناء مؤشرات تشتغل على تضعيف للدال، كما يظهر من خلال الضمير النسوي المستتر في بنية العنوان. هكذا يتم تحوير بنية العنوان لتَستجيب لعمق المحكي السردي، انطلاقا من المعنى الأصلي المرتبط بالقتل والظلم، الذي يلحق المرأة و»الموؤدة» في النص الأصلي، أي القرآن الكريم، فالبنت /المرأة /الطفولة الموؤدة ترتبط برمزية الظلم باعتبار أنها تُدفن حية داخل التراب، كما نستشف من خلال استراتيجية التناص مع النص القرآني. هذه الحمولة الإنسانية تتجسد بالفعل داخل عمق سرديات الذاكرة وسيكولوجية شخوص الرواية، التي يختزلها الضمير النسوي المستتر في «رحلت»؛ وبالتالي سينكشف لنا، سواء من خلال شخصيات: راحيل أو راشيل أو جيهان وزينب وعيشة، أنها كلها تحضر كعلامات بؤرية، تؤشر إلى الأمومة وذاكرة النسوية، من خلال صورة راحيل في علاقتها بذكورية رؤوف، ومرجعياتها النسوية، التي يتقاطع فيها الجمالي بالإنساني. فتظهر الذاكرة النسوية/راشيل وراحيل وكأنها تضرب في جذور التجربة الإنسانية، وأصول وهوية الوجود الإنساني.
وهكذا تكشف بنية النص الموازي عن بلاغة العلامة، باعتباره بتعبير جيرار جينيت «منطقة التردد بين الداخل والخارج»، أي بين النسق المرجعي لكل من العنوان والشخوص والزمن، وامتدادا لذاكرة تتشكل داخل الزمن الجماعي للأفراد.
رمزية المفارقة الزمنية وسرديات الذاكرة:
يشكل الزمن في هذا النص الروائي جوهر المحكي، بالنظر إلى كونه ملتقى علامات تَدفُق الحكي، انطلاقا من مساءلة المفارقة الزمنية، التي ينبني عليها الحكي في علاقتها بالوضع الإنساني للشخوص، ورمزية المفارقة الزمنية ذاتها التي تتجلى من خلال محكيات التناوب بين التمثلين الواقعي والخطابي. وبالفعل فمساءلة تجربة التناوب في الرواية تتأسس على سردية التناوب، كما يتجلى من خلال سرد حكايات كل من خالد، وراشيل وراحيل ورؤوف وجيهان وعلاقتهم باليسار بين الماضي والحاضر والمستقبل.
إن سرديات الذاكرة بقدر ما تتمثل باعتبارها علامة من علامات المفارقة الزمنية ونسق الشخوص والفضاء السردي، تتشكل كنتاج رمزي وثقافي لتجارب إنسانية تعيش الزمن اليساري، كطقس وسؤال جودي وثقافي وفكري وجمالي: «لكنه على الرغم من ذلك، ومع كل هذه الأحاسيس والأسئلة، فهو يشك بأنه يفكر، بأنه موجود أو بأنه متسائل». إن العلامتين البرنامج التلفزيوني ولوحة راشيل، لا يحضران فقط باعتبارهما حافزا لانطلاق الفعل السردي، بل يشكلان نسق علامات يشتغل على توليد مسارات الحكي وتَشكُّل الخطاب، ومن ثم فهما الرحم النصي المولد لمسارات الحكي، يشتغل فيهما التناوب السردي، بين محكيات تلتقي في كونها شخوصا تنتمي إلى اليسار، وتعيش موتا رمزيا نتيجة ثقل الماضي، الذي يلقي ظلاله على ذاكرة الشخوص والأحداث السياسية التي عرفها المغرب، كما يكشف عن ذلك اعتقال خالد خلال أحداث مايو/أيار 1965 في الدار البيضاء، وأحداث الكوميرا.. إن هذا الماضي السياسي المتوتر، هو الذي جعل هذه الشخوص تشترك في قرار اعتزال كل الجماليات الوجودية. فيعتزل خالد السياسية، وراشيل قبل موتها الفن التشكيلي، وراحيل الموسيقى… إنهم كلهم شخوص وليدة الزمن اليساري وينطلقون من الجمالي والفكري، باعتباره رهان التغيير الاجتماعي ومحاربة الفساد السياسي الذي يمثله رؤوف.
تصبح الكتابة الروائية حقلا لتعدد الخطابات بين البصري والسياسي والواقعي والاجتماعي والشعري، فضلا عن تعدد الأصوات، كما يكشف عن ذلك البرنامج التلفزيوني.
إن ظهور جيهان برمزيتها المرتبطة بالجيل اليساري الجديد/الحاضر، يرتبط بالكشف عن ذاكرة سياسية موسومة بالتوتر، كما يمثلها خالد، الشخصية البؤرية من خلال تجربته السياسية كمناضل كبير في حزب اليسار، وكما يمثلها القطب السالب رؤوف، الانتهازي ورمز الفساد السياسي داخل تجربة اليسار. وهكذا فتردد خالد وجيهان في دخول مغامرة الانتخابات ينبع من ضغوطات تجربة الماضي السياسي، الذي يستمر في خلق توتر مع الحاضر، وفكرة التغيير. إن ظهور شخصية جيهان يرتبط برمزية المفارقة الزمنية، بين زمن الماضي الموسوم بالصراع مع السلطة والحاضر، كما تجسده جيهان التي ترغب في استشراف التغيير وإحياء النضال السياسي.
وتأسيسا على ذلك، يمكن القول إن المفارقة الزمنية المتولدة عن العلامتين/الرحم النصي تشتغل على تكسير خطية السرد، من خلال التناوب على محكيات تشكل مسارات سردية مختلفة. ولذا فمقولة التناوب تنطبع برمزية تتوزع بين مقولة زمن الحكاية، ومقولة زمن الخطاب، كما يتجلى من خلال التناوب على سرد قصتي راحيل وراشيل باعتبارهما علامات تؤشر إلى الماضي، وقصتي جيهان ووليد، وقصة خالد الذي يحاول التحرر من الماضي واستثمار علاقته بجيهان، من أجل الانبعاث من الموت وبالتالي التحول إلى الزمن الحاضر. هكذا تحضر جيهان كاشفة لماضي التوتر السياسي وذاكرة النضال، من خلال ذاكرة خالد نفسها. فيتم استرجاع لحظات خاصة تمتزج برمزية الحياة الثقافية والسياسية. ولعل موقع السارد المطلق المعرفة، سمح برصد تفاصيل خارجية وداخلية تضيء أعماق الذات خالد والقلق الوجودي الذي يعيشه، نتيجة توترات ذاكرة الماضي السياسي وأسئلة الفكر والمجتمع من جهة، ومن جهة أخرى ذاكرة راحيل أيقونة المرأة بكل حمولاتها النسوية الموؤدة والمرتبطة براشيل والظلم الإنساني. فرغم انفصال خالد عن راحيل ظلت تتردد داخل أعماقه كجسد فكري وتصور جمالي للوجود، يتجاوز مقولة العلاقة الزوجية: «كانت راحيل تجد في سارتر ودوبوفوار، أو ما جاور أفكارهما، ملاذها حين تتأمل عالم الموسيقى والفلسفة والحرية والإنسان».
هكذا فالتناوب على التبئير الداخلي للشخصيات البؤرية: راشيل وراحيل وخالد، وجيهان، يكشف التوتر والقلق، الذي ميز ذاكرة اليسار وهذه الشخوص الحاملة لقضايا المجتمع الأمة، كما يجسد الرؤية للعالم، التي تتخذ من الجمالي والفكري طريقا للكشف عن الحقيقة. وفضلا عن الوظيفة التي تنهض بها جيهان الشخصية من موقع علاقتها بالزمن، فإنها تظهر هنا كاشفة ذاكرة راشيل في بعدها الزمني، كما يتجسد من خلال الاسترجاع. فجيهان صحافية حاولت إعداد تقرير حول المبدعين المنتحرين، وهذا ما سيقودها بالصدفة إلى الكشف عن جزء من ذاكرة راشيل، الرحم النصي النسوي الحامل لذاكرة المرأة وقضاياها الوجودية. ومن هنا فعلاقة جيهان بخالد تعتبر امتدادا لعلاقته براحيل، فهي تتجاوز علاقة الاتصال الذكوري الجسدي، إلى رمز للانبعاث وإحياء الأحلام المعطلة ومقاومة الموت.
إن صورة الجسد من منظور خالد تتجاوز البعد الذكوري إلى تمثل وجودي يرتبط بالكينونة وأبعاد الفكر الجمالي: «أليس التاريخ جسدا؟ كل شيء في الكون جسد وتشكيل. حتى السياسة نفسها جسد؛ لأنها مرتبطة بالحكم، والحكم رغبة ولذة مبتدؤها وخبرها، منطق الجسد نفسه وأحكامه».
وهكذا تنقلنا جيهان من خلال الاسترجاع والتبئير الداخلي لشخصية خالد إلى الكشف عن سيكولوجيته المتوترة والموسومة بالصراع بين زمنيين، الماضي /الحاضر والظلام /النور، كما يؤشر ذلك التداخل بين زمني الليل والنهار والمفارقة الزمنية: «ضاق صدره وكأن الهواء ينبجس عن رئتيه؛ حاول تنشق أي شيء الهواء أو ما يشبهه. شيء يجعله يتنفس ويصدق أنه واقف ها هنا، في هذا الطريق المتصل في حوار مع الظلمة والنور…. حاول من جديد أن يتنشق الهواء، فلم تلتقط أنفاسه غير رائحة الليل وبقايا حواس هاربة».
إن الملفوظ أعلاه يكشف تخييل الحواس باعتبارها أحد أبعاد المفارقة الزمنية، وحضور الجمالي كرؤية للعالم من منظور شخوص اليسار، التي تسعى للتغيير الاجتماعي، فيصبح للزمن رائحة تؤدي بخالد إلى الحدس بزمن ذاكرة، سيستعيد كينونتها؛ وهي ذاكرة راحيل الموؤدة. وإذا كان الاسترجاع أضاء لنا ذاكرة راحيل وعلاقاتها مع زوجها خالد وانفصالها عن العالم بعد اعتزالها الفن، فإن المكون الزمني التلخيص، سيمكننا من الوقوف عند الشخصية، كعلامة من علامات الذاكرة النسوية، بالإضافة إلى كونها سيرورة حياتية تراجيدية بدأت من باريس وانتهت في وجدة بانتحار أمها، حيث ستسرقها عيشة لتجد نفسها تعيش اليتم المضاعف مع وفاة معلمتها زينب.
إن الرحم النصي المشترك، كما يتجلى من خلال لوحة راشيل التي تمثل صورة الأمومة النسوية، المتعددة ورمز الرابطة الدموية، فيظهر «تقديس الفنون بوصفها معرفة أنطولوجية». فاللوحة التي أدت إلى الانفصال الوجودي بين خالد وزوجته راحيل، تحمل رمزية ترتبط بالجمالي باعتباره الهوية والرمز والرابط الدموي الحسي، الذي يعيد الاتصال بالعالم، ويجسد تخييل الحواس بما هو رابط متجذر في البعد الإنساني. وهذا ما يتجلى من خلال عودة راحيل إلى الموسيقى، بإلهام من الأب الروحي الذي تكتشفه من خلال الحواس، ما أعاد إحياء أمل التغيير الاجتماعي واستعادة الهوية. فعودة راحيل للموسيقى وتأليفها «هجيع الغازية» يرتبط بالحاسة التي قادتها إلى التعرف على هويتها وذاكرتها. وهي العودة التي سيترتب عنها انتصار الذاكرة والجمال والنسوية على ذكورية كل من خالد ورؤوف، بدرجة أكبر، وذكورية الواقع السياسي بشكل عام، ويكشف عن بداية أحداث يستشرفها السؤال الذي يوقع لنهاية الرواية. وكأننا ننتظر فصلا آخر يبشرنا به السارد، كما يفصح عن ذلك فعل مسرحة الحكي وإسدال الستار، وانفتاح النص الرواية في خطاب النهاية على سؤال وجودي وجمالي يسائل حدود الكتابة الروائية ذاتها. وفضلا عن ذلك فالجمالي هنا يتجاوز كونه يتمثل كسؤال من أسئلة الواقع في الحكاية، إلى بلورة مشروع كتابة روائية جديدة.
وهكذا تصبح الكتابة الروائية حقلا لتعدد الخطابات بين البصري والسياسي والواقعي والاجتماعي والشعري، فضلا عن تعدد الأصوات، كما يكشف عن ذلك البرنامج التلفزيوني. إننا نعاين توازيا بين الفعل السردي المرتبط بالرغبة في التغيير الاجتماعي وتجديد الفكر، وفعل التجديد في الكتابة الروائية، باعتبار أن هذا الأخير يستند إلى كسر خطية الحكي، وتحويل التناوب من مظهره المرتبط بزمن الحكاية ومن بعده كمكون واقعي إلى مظهر جمالي ومكون خطابي يطرح علاقة أسئلة الكتابة الروائية بالمعرفي والأنثروبولوجي والجمالي؛ ومن ثم نجد الرواية سفرا بين تخييل الحواس (لوحة راشيل، موسيقى هزيع الغازية، شعر..) وحقيقة الوجود الإنساني كما تمثله شخوص اليسار وتجربة التناوب.
٭ كاتب من المغرب