يتجلّى الموت كحدث محتوم في الحياة، بيد أنه شكّل بؤرة سؤال فلسفي يُحيلنا إلى عدّة قضايا وجودية، لذلك تحوّل الموت إلى حبكة وموضوع في الأدب، لما يختزله من رمزيّة ودلالات شتّى، فيغدو القارئ أكثر وعيا بهذا الحدث الدرامي رغم الهاجس والقلق المرتبط به منذ الأزل.
إن جوهر الطبيعة الكونية يتمثل في ثنائية الحياة والموت ليتخلّله طرح عدة تساؤلات عن ماهية الوجود والعدم، وربما نجح الأدب في إيجاد نافذة يطلّ منها على معنى الموت كموضوع لإثارة العاطفة الإنسانية. وقد عمد العديد من الأدباء إلى الوقوف على ثيمته المعنوية بما أنه تشكيل لفاجعة لا فكاك منها، إذ تروم النفاذ إلى الذاكرة رغم سلطة النسيان مع مرور الزمن، بنقل التجربة إلى عالم شعوري والتركيز على بعده النفسي، من خلال الكتابة المغايرة، ما يوازي استجلاء صور واقعية، وتوليد معان مُراوحة بين الوجع والطرافة.
في هذا السياق تأبى الكاتبة التونسية بلقيس خليفة إلا أن تُجسّد ذلك من خلال مجموعتها القصصية «ميتة مُبتكرة» الصادرة عن دار ميارة للنشر والتوزيع في تونس 2021، وقد نالت عنها الجائزة الوطنية للقصّة 2022. تتميز المجموعة بجملة من القسمات المشتركة، بقطع النظر عن الطرح الأساسي وهو الموت، لينشأ معنى ذا شحنة دلالية في فضاء الشعور بالفقد، ونعي الأحياء الذين غادروا دون رجعة رغم تباين الحوادث والصلة والعمر. لكن صورة الأثر وطرافة الصياغة عموما، استراتيجيات اعتمدتها القاصّة بكلّ حرفيّة، فضلا عن شجون القصص، وسلاسة السرد وشتى المؤثرات الفنية المعتمدة في طبيعة بنائها اللغوي وتحويرها التصويري.
تتجسّد الأحداث كأسرار مقتبسة من السماء لتمنح القارئ تلك الشفافية المذهلة مع الأفكار وتطويعها في هوّة الشعور، ليرفل الشخوص فوق برج يناطح السحاب، ثم يتكوّر في الغياب المطلق كحقيقة راسخة وذائعة. ويتضّح هذا المضمون منذ القصة الأولى «على صهوة غيمة» التي تُصوّر موت الأب على لسان صبيّ. ورغم مرور السنين ظلّت صوره حاضرة بقوّة في الذاكرة. كما تتفعّل عناصر مُتسّمة بالواقعية، وأخرى تستدعي الرموز لتبتكر عوالم الموت. فكشفت القاصة عن مقدرة في تشييد موجودات موازية للجوانب النفسية والذهنية، التي يبلغ مداها في المواقف الدراميّة والحوادث العصيبة وقولبة الحبكة، لتتلاءم مع الثيمة الأساسية للسرد، وهذا ما يتجسد في المقطع الآتي: «لا شك أن الحياة في السماء أكثر سهولة من الحياة على الأرض، وإلا لما صعد كل المتعبين والمرضى إلى هناك.. لا شك أن هناك أماكن يستريحون فيها ويمدّدون ظهورهم ويأكلون وينامون.. ولا شك أنهم لا يتألمون ولا يحزنون ولا يتذكّرون.. و‘لا لما اختاروا البقاء هناك».
وتحت عنوان» العقاب» عبّرت الكاتبة عن مشاعر مكتظة بالحسرة والألم لطفلة شقيّة هدّدتها والدتها بالرحيل دون رجعة إذا واصلت العبث والفوضى وعدم الانضباط، وبعد مرور عشرين سنة على رحيل مفاجئ للأم، لم تستطع أن تغفر لها غيابها عن اهمّ محطات حياتها الدراسية، فيما ظلّت في انتظار دائم ولكن الأم لم تأت. ويُحسب للقاصة قدرتها على تطويع الأحداث وفق سيمائية النص السردي والإحالة على جملة من المعاني الانسانية المضمرة.
والجدير بالذكر في قصة «إسعاف» أنها ابتكرت مناخا إبداعيا مثيرا وغامضا، لكنه جاذب، لتبرهن على ديناميكية لافتة لهذا الجنس الأدبي. فغالباما تكتب ما لا يتوقّعه القارئ، إلى جانب اقتناص المشهدية المكثّفة، من خلال الوصف والمكاشفة والخيال السردي وإن بدت أحيانا موصولة بإرهاصات الواقع. ومن ثم ينزع السرد القصصي نحو «مونولوج» ملائم للحبكة، حيث تعرض الكاتبة سلسلة من المؤثّرات الفنيّة في سياق لغوي لا ينسلخ عن الأبعاد النفسية والاجتماعية المراد إيصالها. ولم تغفل بلقيس خليفة عن سرد قصص ذات خصوصية فنية/ رغم تكرار موضوع الموت، لكن عبر التشكيل السرديّ القائم على عناصر ورموز متعددة من خلال حالات مُتبدّلة ومُتغيّرة، بل أكثر من ذلك تضيف إلى الدراما جانبا عاطفيا متوهجا وساطعا، لتعبّر عن مشاعر الحنين والفقد، فتجنح إلى الكشف عن أحاسيس مزدوجة في مظهرها التعبيري والتجريدي أيضا، وهو ما يظهر بجلاء في قصة «حِساءُ اللحم المفروم والنعنع: «لا أحد يُجيد إعداد طبق الحساء باللحم المفروم مثل ماما. حتى جدّتي التي يبعد بيتها عن منزلنا شارعين، فقط كانت تقول لنا ذلك دائما عندما انتقلنا للعيش معها، وتعرف أنها علّمت أمي الطبخ ولكنها تفوّقت عليها. رغم أن حساء جدتي كان لذيذا أيضا. وكانت هي الأخرى تضع فيه النعنع المُجفّف. ورغم أني كنت كلما قَدّمتّه لنا، آكله على مهل كما كنت أفعل في بيتنا ذي الحديقة الخلفية التي وضعت فيها القطة جراءها في ذلك اليوم الربيعي البارد. أملأ ملعقتي ببطء ثم أبتلعها كأني أمتصها. وأمدّ يدي الباردة على الطاولة في المكان الخالي بجانبي لعلني أشعر بدفء ماما ليلة أعدت لنا الحساء الأخير». وبلا شكّ أن فنّ القصة القصيرة يتماهى مع الواقع والمُتخيّل ويتّصل بعالم المعيش الملموس. وهو ما يتجلّى في قصة «آخر الناجين» من خلال التطرّق إلى ظاهرة الهجرة غير النظاميّة «الحَرْقَة» من بلدان شمال افريقيا، وعلى وجه الخصوص تونس، إلى بلدان أوروبا، وذلك عبر قوارب الموت، وتتجسّد في هروب الشباب من واقع أليم بسبب البطالة والتهميش الاجتماعي، بحثا عن فُرص حياة أفضل. فبطل القصة «ناجح» رسم أحلاما كثيرة لتغيير واقعه: «سأنجو وما أن أصل إلى إيطاليا سأتّصل بأمي وأطلب منها أن تسامحني لأني خذلتها وغادرت من دون أن أودّعها. سأنجو وسأتّصل بمريم وأخبرها أني سكّير ولصّ ولكني لا أغدر بامرأة أحببتها ووعدتها بالزواج. سأنجو وسأعمل وأجمع المال وأشتري سيارة وأفتتح مشروعا في قريتنا الفقيرة النائية وأشغّل فيه رفاقي القُدامى»، لكن خُطّته باءت بالفشل حين غرق المركب في عرض البحر وأعاده الموج الهادر إلى الشاطئ جثّة هامدةً مع عدد من الضحايا، ليترك موته لوعةً ووجعا عميقا في قلوب أهله وأحبائه بدءا بالأم المكلومة، وفي هذا السياق يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش «الموت لا يُوجع الموتى، الموتُ يُوجع الأحياء». وفي قصة «ميتة مُبتكرة»، تُحوّل القاصّة فاجعة الموت إلى اختراع بشري يوازي ابتكار الإنسان لنهايته المحتومة، خصوصا على شبكات التواصل الاجتماعي التي شملت كل مناحي الحياة، وقدرة الأحداث المأساوية المُتداولة على شدّ المجتمع الافتراضي لفترة أطول وعلى إثارة أكبر عدد من «التفاعلات» وكأن مواقع الشبكات الاجتماعية تعيد صياغة وتشكيل «الوعي الإنساني»، على حدّ تعبير أمل شمس المـتخصّصة في علم الاجتماع. ولكن الأمر يمضي لما هو أبعد من صياغة حكايات الموت المُبسَّطة، لأن المعنى يصبح أجلى وأكثر صراحة حين يتداخل مع الواقع ويفكّك الحقيقة الموجعة، فتوردها القاصّة بأسلوب ينسجم مع أغراض النص القصصي، كأن تتفق مجموعة من الشباب على القيام برحلة ثم يقررّون إسقاط الحافلة التي تُقِلّهم من مكان شاهق بالجبل فتتناثر جُثثهم أسفل الوادي، أو تختار بنتان التظاهر بالنوم عندما تلتهم النيران المبيت الجامعي، الذي يقيمان فيه فتحترقان داخله. لكن تبقى فكرة الموت الأكثر ابتكارا هي فكرة الفتاة الصغيرة التي كانت تتبع أمها بينما هي تجمع قوارير البلاستيك المُستعملة، ثم يخطر لها فجأة أن تقفز داخل قناة كبيرة لصرف المياه المُستعملة»، وكأنّ الإنسان لا ينجح في اختراع ذاته ونزع ثوب العدم عنه، وهو ما يُمهّد لموته ضمن سياق اجتماعي هشّ تحفّه المخاطر، في عالم خالٍ من المضمون الإنساني، تشوبه الهموم والقسوة، دون مراعاة للذات البشرية وحقّها الطبيعي في الحياة، وهو ما غيّر مُقومّات «الإقامة في العالم» من منظور الواقعية الفجّة إلى الواقعية التراجيديّة. لتنحسر الحياة في مُجسّمات صارمة للعيش، ومُلابسات تبدو فاضحة حين تنقل توابع القلق وإيقاع النهايات المحتومة الشبيهة بالخلاص من الوجود المتأزم، بيد أن المثير في افق هذا النص هو انتشار الموت الذي يأتي على الإنسان نفسه دون مُقدّمات ولا مرور سلميّٕ إلى العالم الآخر. فتتبيّن الأشياء على حقيقتها بشكل جليّ لتبرهن على زيف العالم المتشظي، بسبب انهيار القيم الانسانية ودخولها في عداد الموتى. الأمر الذي حدث مع بطلة القصة التي رغبت في إنزال خبر نعي جارها العجوز ناصر النقٌاش «فالرجل بذل جهدا ليموت بطريقة محترمة ويستحقّ أن يحظى ببعض الاهتمام و»اللايكات». لكن قبل أن تستقرّ في سريرها وتكتب نصّ النعي فكّرت في تنظيف مطبخها ورفع القمامة خارج البيت ليلا، رغم تعوّدها على رميها فجرا. وهو ما كان يقوم به زوجها قبل أن يهجرها لأسباب غير مُقنعة. لكن كلّ شيء حدث بسرعة ومحض صدفة، حين نزلت درجات العمارة وعبرت الشارع لإلقاء القمامة في السّلة المخصصة لها، ليتمّ قتلها من طرف شرطيّ بدل قنص كلبة مُتشردة كانت تأكل من كوم الزبالة. فتصبح الحدث الافتراضي المتداول في مواقع الشبكات الاجتماعية والتلفزيون، فيما يتمّ تبرير إطلاق الرصاص نحوها بسبب خرق حظر التجوال وعدم امتثالها للقوانين. رغم أنها في الواقع حاولت إنقاذ كلبة امّ حتى تتمكّن من إرضاع جرائها.والملاحظ من خلال بعض القصص مثل « لم يفتني القطار « و «عبدو يبتلع البحر» امتلاك القاصة لخاصية مهمّة تتمثّل في ابتكار أفكار غير معتادة، وحذقها للتصوّر أو صياغة السيناريو «Screenplay» ، حتى يكاد النص السردي يتحوّل إلى قصة مرئية نلتقط فيها ديكورا بكامل تفاصيله، ويمكن أن نشاهد الأشخاص والفضاء التي تتحرّك فيه الأحداث. فالعبارات هي التقنية التي توظّفها للوصف والتي تحضر بها الحبكة والتحوّلات الزمانية والمكانية. أو بالأحرى يخضع هذا الإطار التفصيلي بالمطلق للقصة المطروحة من حيث المجريات والخطّ الدرامي باعتبارها السمة الأبرز في العمل السردي.وقد يعتمد كلّ هذا الاشتغلال على المخيّلة الذاتية للقاصة لكنها لا تنفصل عن الصورة الجمعية للمجتمع وتعقيداته التي تتمظهر عبر التردّدات الصوتية للأبطال وتتحوّل إلى شواهد على خسارات الكائن الإنساني وخذلانه، فيتربّص به الموت مرّات ومرٌات ليتحّول إلى كائن منذور للعدم.
الخاتمة
منذ ملحمة «جلجماش» القديمة، شكّل موته الحدث المحتوم، وتفرّدت عن سواها من الملاحم بمعالجة الموت والخلود كثنائية وجودية على حدّ قول الكاتب والأكاديمي د.حاتم الصكر. وكأن الموت يشير إلى محدوديّة الحياة لتتشعّب مكابدات الذات البشرية أمام «حاصد الأرواح» في عالم كسيح تتربّص به الكمائن والمخاطر لتتضاءل فرص النجاة، إزاء مجتمع انساني قاسي أدى لجمود الحياة.وقد اتخذت القاصة من الموت رمزا أساسيا في هذا الكتاب القصصي لتستحضر شتّى الحمولات الفكرية والإنسانية والاجتماعية. وبهذا المعنى وُظّف كحقيقة تُحيل القارئ إلى قضايا وتجارب ذات صبغة وجوديّة لا تخلو من رؤيتها الذاتية للعالم، وفي نفس الوقت ليست بمنأى عن واقعه بما يعتريه من تصوّرات ومشاعر تختزل كلّ تناقضات الحياة، من خلال الاستقصاء السردي المتعالق بالكتابة الإبداعية ووظيفتها التأويلية في تعرية الواقع والعطب الوجوديّ، وأيضا في البحث عن معنى الرحلة والمصير لتتجلّى ثيمة الحياة وأهميتها. وهو ما اختزلته الروائية إيميلي نوثومب في مقولتها : « عندما نجد الفرصة لتفادي الموت، فمن الواجب أن نعيش.
كاتبة تونسية