تُعتبر سوريا واحدة من أقدم المراكز الحضارية في العالم، حيث شهدت نشوء وتطور العديد من الحضارات المتعاقبة. هذا التنوع الحضاري ترك بصمة واضحة على أرضها، إذ تحظى سجلات التاريخ السورية بكنوز أثرية تعود إلى آلاف السنين، ما جعلها شاهدا يروي قصصاً عن الحضارات التي عاشت فيها، وتكشف عن تطور الإنسان وعلاقته ببيئته.
فيما تعتبر محافظة إدلب من أقدم المناطق المأهولة بالسكان في سوريا، وتتميز بتنوع آثارها الذي يعكس تاريخاً حافلاً امتد لآلاف السنين، إذ شهدت المحافظة تعاقب العديد من الحضارات، بدءاً من العصور الحجرية وصولاً إلى الحضارات الإسلامية، ما جعلها تحظى بإرث متنوع ومتعدد من المباني التاريخية والأثرية كالقلاع، والمعابد وحتى المدافن، بالإضافة إلى الأسواق المصممة بطرق مميزة، والعديد من القطع الأثرية الصغيرة.
من أقدم المدن السورية
سرمين، الواقعة في ريف إدلب الشرقي، ليست مجرد مدينة سكانية، إذ تُصنف كواحدة من أقدم المدن السورية التي تحمل تاريخاً حافلاً وآثاراً تعود إلى عصور تاريخية قديمة للغاية، خاصة أن سرمين تستقر على معالم أثرية تعود إلى العصرين الروماني والإسلامي، ما جعلها شاهدا مميزا عن التاريخ وتقلباته وتبدلاته السكانية.
ففي طريقك شرقاً وأنت تخرج من مدينة إدلب، بنحو 7 كم، تترآى لك مدينة سرمين، وسط الأبنية التي أنهكتها الحرب، والتجول في شوارعها وبين أزقتها، تخبرك أنها لم تكن مدينة عادية، إنما كانت عامرة بالأسواق والمصانع والمساجد، زارها الرحالة وكتبوا عنها الروايات والأشعار، ووقفوا في المدينة التي كانت من أكبر حواضر الشمال السوري، والغنية بمعالمها الأثرية وبعدها الحضاري، الموغل في القدم.
مدينة القوافل
تقع على مسافة 7 كيلو مترات من مدينة إدلب، وتتبع لمركز المدينة، ويحدها من الشرق مدينة سراقب، وكانت حاضنة للقرى حتى بلدة كفر حلب شمالاً وجنوباً، حتى معرة النعمان وغرباً حتى مدينة أريحا التي كانت تعاصرها، فقراها ممتدة وأرضها سهلية وخصبة، وأكثر زراعتها القمح والشعير والبقوليات، إلا أن ما يميزها هو انتشار أشجار التين والزيتون فيها على مساحات شاسعة.
كما تتموضع سرمين على طريق القوافل الذي كان يربط بين بلاد الشام وبلاد الرافدين، ما جعلها مركزاً تجارياً هاماً خلال العصور المتبدلة، بالإضافة إلى وقوعها على طريق القوافل داخل الأراضي السورية ما بين محافظتي إدلب وحلب، فموقع المدينة الاستراتيجي على طريق القوافل ساهم في ازدهارها وتطور الحركة التجارية فيها.
الكاتب عبد الحميد مشلح، زود صحيفة «القدس العربي» بمعلومات صادرة عن كتابه «الظاهر والدفون في بلد الزيتون» والذي تحدث فيه عن مدينة سرمين وبعدها التاريخي والحضاري، وذكر في كتابه، أن سرمين مدينة عريقة القدم، ذات شأن، ذكرت في التاريخ، وكانت ممراً لقوافل التجار بين حماة وحلب.
فقدت عزَها الغابر، ويجد الزائر في ضواحيها المغوار، والكهوف القديمة المنقورة في الصخر، وفيها أعمدة منقوشة، ومسجد يقال إنه بني على أنقاض كنيسة، والتي كانت معبداً وثنياً قبل انتشار المسيحية في المنطقة، والذي تم تجديده في العهد الفاطمي، وفق مذهبهم، لذلك هو مبني بتسع قباب فقط، لأن أهلها آنذاك من طائفة كانت لا تفضل الرقم عشرة.
أصل التسمية
تحظى تسمية مدينة سرمين بعدد من الروايات المتباينة والمتقاربة معا، ووفق الكاتب عبد الحميد مشلح فهناك عدة روايات، إحداها تقول، إنها آرامية الأصل كما يرى الأب أرملة وتعني المشرومون، وذكرها ياقوت الحموي، وقال إنها بلدة من أعمال حلب، قيل، إنها سميت بسرمين بن ليفز بن سام بن نوح عليه السلام، بينما قال الدكتور عدنان عطار، إن كلمة سر تعني بالفارسية (الثغر) والأسماء التي تركب معها اسم لشخص الذي سمي الثغر باسمه، فيما قال المياني في كتاب «الأمثال» إن سدوم هي سرمين بلدة من أعمال حلب.
وذكرها الغزي، بأنها من الأماكن التي لها شهرة في قضاء إدلب، وأهلها مسلمون سنة، وكانت بلدة عظيمة ذات أسواق، ومصايف، وخانات، وحمامات.
الحقب الزمنية
شهدت سرمين حضارات متعاقبة تركت بصماتها الواضحة على معمارها وتراثها، وفي معظم المصادر والكتب التاريخية ذكرت سرمين على أنها بلدة مغرقة في القدم، فقد فتحها أبو عبيدة بن الجراح سنة (17) للهجرة، وأصبحت تابعة لولاية قنسرين ومن ثم لولاية حلب.
وسيطر عليها الصليبيون سنة 492 هجرة، وخلال الحروب الصليبية كان يتناوب السيادة عليها العرب والفرنجة.
وفي عام 584 استعدادها السلطان صلاح الدين الأيوبي، في حين دخلها الخوارزمية في عام 638 هجري وخربوها ونهبوا ما فيها، وتوجهوا بعدها إلى معرة النعمان، وفي عام 658 هجري عاود التتار وخربوها ونهبوا خيراتها، وكانت إقامتهم في بلاد العمق وسرمين والمعرة.
عام 666 هجري حرر الظاهر بيبرس سرمين وأرجاء المحافظة وطرد الفرنجة منها، لتصبح تحت حكم المماليك إلى تاريخ معركة مرج دابق 922 هجري، لتصبح بعدها تحت الحكم العثماني مع بقية أرجاء المحافظة.
أما في العهد العثماني فكانت مركزاً إداريا للمنطقة كلها، ووسطاً تجارياً بين حلب وميناء الاسكندرية، ومركز إشعاع فكري في الفقه والتصوف والشعر والطب ومركز لإنتاج الصابون والحرير، وكانت تغرق منتجاتها مصر والشام.
وفي عام 1832ميلادي خضعت سرمين لحكم ابراهيم باشا إلى تاريخ 1840ميلادي، لتعود بعد ذلك للحكم العثماني إلى تاريخ 1918 ومن ثم الحكم الفيصلي، إلى عهد الاحتلال الفرنسي في 1920 وشارك معظم أبناؤها في الحروب ضد الاحتلال والمساهمة في استقلال سوريا.
مصانع الصابون
يقول مروان الطقش وهو أحد سكان مدينة سرمين والمهتمين بتاريخها، في حديثه مع «القدس العربي» إن أقدم ذكر لمدينة سرمين يعود للرقم الفخارية في مملكة ايبلا، في الألف الثالث قبل الميلاد، تحت عنوان المدن التابعة للملكة، وورد ذكرها في آثار أوغاريت على الساحل السوري، وفتحها المسلمون في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، على يد القائد أبي عبيدة بن الجراح، كما ورد في كتاب «الكامل» لابن الأثير.
وأضاف، أن المنطقة فيما يلي العهود الأموية والعباسية خضعت لحكم الدولة الفاطمية الإسماعيلية، وذكر الرحالة بن بطوطة أنه زارها منذ نحو 700 سنة، ووصف موقعها ومذهب أهلها في ذلك الحين، وتحدث عن صناعة الصابون التي تشتهر بها إضافة لمعامل النسيج وأسواقها العامرة.
في العصر الأيوبي، أرسل صلاح الدين الأيوبي ابنه السلطان غازي لاسترجاع المنطقة من حكم الفاطميين عام 580 هجري، وأخضعها لدولته، ما أدى لتقلص الوجود الإسماعيلي فيها، إلى أن جاء السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، عام 665 هجري، وأنهى الوجود الإسماعيلي فيها، وأصبح جميع سكانها من المسلمين «السنة» وفق ذات المصدر.
وأشار الطقش، في تصريحاته لـ «القدس العربي»: في أيام الدولة المملوكية، أطلق على مدينة سرمين اسم سنجق سرمين، وهذا الاسم الإداري، ويعني (لواء) أكبر من منطقة وأدنى من ولاية.
أما في زمن الحروب الصليبية، فقد دخلها الصليبيون ولم يستمر حكمهم فيها، وكانت في حينها تابعة لمملكة أنطاكيا الصليبية.
وذكر الباحث الراحل فائز قوصرة في كتابه «الرحالة في محافظة إدلب» الجزء الأول، أن إدلب قرية تتبع لسرمين فيما مضى، وبدأت أهمية إدلب الحالية بالظهور بعد أن اهتم بها الصدر الأعظم أحمد باشا الكوبرلي (1583-1661).
البعد الديني
من الناحية الدينية المذهبية، فقد كانت معظم الأديرة في القرن السادس الميلادي في منطقة إدلب، تتبع المذهب الأرثوذكسي اليعاقبي، ولم تكن تقيم طقوسها الدينية باللغة اليونانية البيزنطية الرسمية، إنما باللغة السريانية الشعبية في المنطقة، ويبلغ عددها (75) ديراً في إقليمي سوريا الأولى والثانية أي أنطاكيا وأفاميا، وهو المذهب الميتوفيزي، أما دير سرمين فقد كان خلقيدونياً، وهو مخالف لمذهب بقية الأديرة في المنطقة.
آثار سرمين
أهم المعالم الأثرية لمدينة سرمين، وفق مروان الطقش، هي المسجد الكبير، والذي يعود تاريخ بناؤه إلى عهد الدولة الفاطمية، وقد بنوه متأثرين بمذهبهم (9+1) أي أن من تسع قباب وقبة منفردة، ومنذ سنوات تم ترميمه بشكل أنيق.
وذكرها بن بطوطة في رحلته الشهيرة، فقال، إن سرمين ذات بساتين كثيرة وأكثر أشجارها الزيتون، وبها يصنع الصابون الآجري، ويجلب إلى مصر وحلب، وبها يصنع الصابون المطيب الذي تغسل به الأيدي، ويصبغونه بالحمرة والصفرة، وينسج بها ثياب قطن حسان تنسب إليها، وأهلها يبغضون العشرة، ومن العجب أنهم لا يذكرون رقم عشرة، وإذا بلغ السمسار رقم عشرة، ذكر تسعة وواحد، وقال لمسجدها تسع قباب لم يجعلوها عشرة قياماً بمذهبهم.
إضافة إلى الحمامات الموجودة فيها، وأهمها حمام الدرج وحمام المالحة، يوجد فيها قبر الصحابي الجليل ضرار ابن الأزور واخته خولة بنت الأزور، كما فيها قناة لجر المياه إلى المدينة، وآثارها موجودة شمال موقع الدوسة، وما زال بعض معالمها مودود حتى الآن، وتسمى بالعامية «القناي».
وذكر الطقش أن أهم ما يميز سرمين، هو وجود مدينة تحت الأرض مكونة من مغارات وأنفاق وأسواق وآبار وأبواب حجرية، وهي معروفة عند الكثير من الأهالي، ولا يكاد منزل إلا وتحته مغارة أو «جَب» موصول بقناة على مغارة مجاورة، أو تاج حجري (جلَاس).
كما يوجد فيها آثار لمعاصر الدبس المنحوتة في الصخر، ومعامل الصابون المشهورة في أماكن متعددة، كما تحتوي على عدد كبير من المساجد، كما انها تميزت بحياتها الثقافية النشطة، حيث كانت تضم العديد من العلماء والشعراء.
مدينة الضيافة
يشير مروان الطقش إلى أن سرمين عريقة من حيث المدنية المنتظمة البعيدة عن الحالة القروية البدائية، فثقافة أهلها متنوعة ومتنورة، وإذا ما اختير رموز من المنطقة، فإن سرمين تكون حاضرة، كما أن شعبها طيب وخدوم ومضياف، وطباعهم تمتاز بالألفة والكرم.
كما أن أكثر الأكلات الشعبية المحببة لأهلها هي الكبب بأنواعها والمحاشي والمجدرة، إضافة للمأكولات من الإنتاج المحلي كاللفت والعدس بحامض، ومنتجات الخضروات والأشجار، وكانت سابقاً تتميز بزراعة الجبس والقتة والقطن كما يزرع فيها السمسم بكثافة، فجميع أسطح المنازل مليئة بقبب السمسم حتى يتم تجفيفه وغربلته ثم يباع أو يخزن.
سرمين
الحالية تتألم
يسكن في سرمين حالياً ما يقارب 25 ألف نسمة، وحسب أحد أبناء المدينة الإعلامي عبد الله صطيفان، أن السكان يعيشون بحالة رعب، بسبب القصف المتكرر الذي تتعرض له من قبل قوات النظام السوري التي تبعد عنها بضع كيلو مترات في أطراف مدينة سراقب الغربية، وخاصة استهداف سيارات المدنيين في الأراضي الزراعية من قبل الطائرات المسيرة الانتحارية التابعة لقوات النظام والميليشيات الموالية له.
وأضاف المتحدث، أن السكان يعيشون أوضاعاً إنسانية صعبة بسبب الغلاء في الأسعار وخاصة آجار المنازل، فيوجد فيها نحو 700 عائلة نازحة و2300 عائلة من أهالي سرمين، فضلوا البقاء فيها تحت القصف على الذهاب للمخيمات، واستئجار منازل فوق طاقتهم المادية.
كما أن السكان متمسكون بأرضهم من أجل الاستفادة من الزراعة والاعتناء بالأشجار المثمرة التي تحقق لهم مردودا جيدا، مشيراً إلى أن الأهالي يعيشون حالة من الفقر في المدينة.
ويقول إن القصف المتكرر سبب حالة من قلة فرص العمل وشلل الحياة وخاصة في جانب التعليم، فكثير من الأحيان ما يتم تعليق الدوام في المدارس بسبب عمليات القصف، إضافة للدمار المتكرر بالبنى التحتية، الذي قد يعطل الخدمات للناس في كثير من الأحيان.
لفت صطيفان خلال تصريحات لـ «القدس العربي» إلى أن الناس تقصد سرمين بسبب معاملة أهلها الجيدة، إضافة لأسعار اللحوم والخضروات مقارنة بالقرى والبلدات المجاورة، كما أن آجار المنازل بحدها الأقصى لا تتجاوز 1000 ليرة تركية، وهو رقم زهيد في ظل الارتفاع الجنوني لتكلفة المنازل في الشمال السوري.
وتعرضت المدينة للتدمير والنهب خلال الصراع الدائر في سوريا، ما أدى إلى خسارة جزء كبير من تراثها الحضاري.