الصدفة جاءت بفيلم قديم كنا نجري وراءه في السينمات الشعبية ونحن أطفال وصبية في الإسكندرية، هو فيلم «سر طاقية الإخفاء» الذي أخرجه نيازي مصطفى. رأيت أمامي برلنتي عبد الحميد فضحكت، وأنا استرجع ما قاله نجيب محفوظ في حوار تلفزيوني بعد زلزال عام 1992، حين سألوه عن شعوره في البيت حين وقع الزلزال فقال، «كنت منتظرا برلنتي عبد الحميد تقع عليّ». وبرلنتي عبد الحميد، رحمها الله ورحم كل من فارقونا ممكن سيأتي اسمهم، كانت تسكن وقتها في العمارة نفسها التي يسكن فيها نجيب محفوظ، لكن في طابق أعلى من الطابق الأرضي الذي يقطن فيه. برلنتي عبد الحميد ليست في حاجة إلى حديث عن كيف كانت بهجة السينما في أفلام رائعة مثل «رنة الخلخال» «درب المهابيل» «نداء العشاق» وغيرها، مما أثار خيالنا وأمتعنا وأدهشنا.
كانت نموذجا للأنوثة الطاغية لا ينافسها فيه غير هند رستم، وهما معا تبدوان توأمين في التكوين والحديث أحيانا. لن أمشي وراء النوستالجيا وأتحدث عن توفيق الدقن وعبد المنعم إبراهيم اللذين كانا من أساتذة التمثيل المسرحي أيضا، ولا ينسي أحد لتوفيق الدقن مسرحيات مثل «سكة السلامة» لسعد الدين، و«الفرافير» ليوسف إدريس، أو مسرحية «علي جناح التبريزي وتابعه قفة» لعبد المنعم إبراهيم التي كتبها الفريد فرج. توفيق الدقن الذي اتقن أدوار الشر حتي طارده أحد الجزارين بالساطور حين ذهب يشتري منه لحما، لاعتقاده أن ما يقوم به من تمثيل لأدوار الشر هو حقيقة. صار إيماني بأن النوستالجيا لم تعد حنينا نفسيا، بل دهشة للإجابة على سؤال أين ذهب هذا كله. تكون العودة حنينا حين يكون ما حولك أفضل، إذ يظل للقديم نكهته في عمر أقل، لكن الآن حين تنظر حولك تفتقد جديا كثير من الجمال الروحي، وأول ما تفتقده هو الإنتاج السينمائي الذي كان يوما هو المصدر الثاني للدخل القومي بعد القطن وانتهى هو والقطن.. لقد قامت ثورة يوليو/تموز عام 1952 فجعلت من كل ما قبلها سيئا، ولم تكن ساذجة فلم تتوقف عند الإعلام بصحفه، التي صارت تحت الرقابة فقط، لكنها فعلت ذلك في الدروس التعليمية، سواء التاريخ أو ما كان يسمى في ذلك الزمان، التربية الوطنية، التي لا أعرف هل ما زال يتم تدريسها أم لا.
كانوا يعرفون أن الأطفال في الخمسينيات، وكنت أنا منهم، سيكبرون، ولا بد أن يحملوا هذه الأفكار الجديدة التي ترى الحق في ما يجري، وما قبله خيانة للوطن. لقد أحاطونا بإنجازات عظيمة مثل المدارس والمستشفيات والمصانع والإصلاح الزراعي والجمعيات التعاونية وغيرها، وصدقنا أن «العلبة فيها فيل» حتى جاءت الصدمة عام 1967 بهزيمة يونيو/حزيران، التي اكتشف الكثير من أبناء جيلي، أن ما رأوه صحيح حقا، لكن ماعرفوه خطأ، فالثورة قضت على التجربة الليبرالية، وملأت المعتقلات بالمعارضين، ولم يعد قادتها يرون أو يعرفون إلا ما يفعلون، ومن ثم لم يعرف زعيمها ما أخفاه أو أخفوه عن الشعب نفسه، وهو أن قدراتنا الحربية لا تستطيع أن تواجه إسرائيل، بينما حشود من جيشنا في اليمن. انتقل إليهم الحماس الذي نقلوه إلينا، فصدقوا أنهم سيرمون بإسرائيل في البحر، فوصلت إسرائيل إلى قناة السويس.
أنظر حولي الآن فلا أجد فرقا في ما أسمع من أفكار وتبرايرات، فعصرنا هو الأفضل مما قبله، وأن كل ما نعانيه توارثناه مما قبله، وأجد أن ما حولي لا يختلف فيما يخص حرية الرأي التي كان الافتئات عليها سببا في ضياع كل ما أنجزه السابقون.
لن أستمر وأحكي عن الخداع بعد ذلك في السبعينيات، فرغم حرب أكتوبر/تشرين الأول وعبور القناة، انتهى كل شيء إلى المقاولين وتجار الخردة، ليفوزوا بما أنجزه شباب الوطن في الحرب العظيمة وقادة الحرب العظام، وأعلن السادات كلمته الشهيرة، إن من لن يغتني في عصري لن يغتني، فاغتنى اللصوص وافتقر الشعب وصارت طوابير الشباب على السفارات العربية لا تنتهي، هجرة للعمل في الخليج واسماء الهاربين بأموال البنوك تتردد دائما. ربما لا ينتبه أحد إلى أن هجرة من نوع آخر قد حدثت بعد الهزيمة في 1967 إلى دول مثل كندا وأستراليا، وسعيد الحظ إلى أمريكا، وكان مهاجروها شبابا من المتعلمين مسلمين ومسيحيين. بالنسبة لي كانت هذه أول مرة أسمع أو أرى ذلك، إذ كان حولي عدد من الأصدقاء سعوا ونجحوا في الهجرة إلى كندا واستراليا فأدهشني الأمر. أخذني الحماس للوطن للانتماء إلى جماعة ماركسية، سرعان ما اكتشفت أننا نحرث في البحر، فلا مدينة فاضلة في هذا العالم تحت حكم مركزي يمسك في يديه كل شيء ويعد الأنفاس على البشر. لاحظ أن هذا الاكتشاف بالنسبة لي كان في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ولم يكن للحكم المركزي فرصة أن يعرف في ما يفكر الأجنّة في بطون أمهاتهم، كما هو الآن بمراقبة الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي. في النهاية بدا لي الأمر مادام أحد لا يستفيد مما جرى ويظل يلقي اللوم على من سبقوه، ولك فقط أن تستمتع بما يُنجز لكن لا تقول فيه رأيك، وأن هذا قدر. وإن كنت أتوقف وأعلن أن ما يفعله المصريون من صمت وانتظار القدر ليس يأسا، وأنه ليس «آفة حارتنا النسيان» كما أعلن نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا» لكنه الانتظار للأمل. يبدو كثيرا كأنه في انتظار جودو لكنني رأيته يحدث أكثر من مرة، على رأسها الخروج الكبير في مظاهرات يناير/كانون الثاني 1977 ثم الخروج الأكبر في يناير عام 2011. كنت أنظر إلى الميدان وأمشي فيه بين الآلاف المحتشدة وأقول، ليسوا جميعا ثوارا ولا سياسيين لكنهم كانوا ينتظرون.. لم ينسوا.
أنظر حولي الآن فلا أجد فرقا في ما أسمع من أفكار وتبرايرات، فعصرنا هو الأفضل مما قبله، وأن كل ما نعانيه توارثناه مما قبله، وأجد أن ما حولي لا يختلف فيما يخص حرية الرأي التي كان الافتئات عليها سببا في ضياع كل ما أنجزه السابقون. درس كل التغيرات المادية وكيف ضاعت في كل الدنيا، هو الاعتراف بأن ضياعها كان، لأنها واكبت افتئاتا على حرية الرأي. أنظُر إلى إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية من فضلك. تعجز عن التفسير لماذا غاب ذلك حقا عن السلطة في كل عصر. طبعا يمكن لعشرات التعليقات أن تجد تفسيرا للأمر، لكن بعد سبعين سنة من ثورة يوليو عام 1952 تتساءل ألم تكن كل هذه السنين كافية لشيء جديد؟ ألم تكن سبعون سنة كافية لإدراك أن التجربة الليبرالية التي تم وأدها أولى بالرجوع إليها، حيث كانت يد المجتمع الأهلي أساسا في النهضة مادية وروحية، لكن ذلك كله قد يعيدك إلى أسماء عظيمة بقي من بعضها تماثيل فقط، ولم يبق للآخرين شيء، وتتساءل أين ذهبت الكتب التي كتبها طه حسين عن الثقافة والتعليم، وغيره من الكتّاب.
أعرف أنه يوما كانت النهضة متأثرة بالبحر المتوسط، وأن كل ذلك اختفى مع التحول إلى القومية العربية – بالمناسبة أين ذهبت الآن، وسوريا تم تدميرها والعراق واليمن وفلسطين تفقد من أرضها كل يوم، والجري إلى إسرائيل على قدم وساق، ثم التحول إلى الإسلامية، بالمناسة السعودية تخلع ملابسها القديمة، وأطرف ما قرأته تغريدة على تويتر تقول، إن السعودية تخشى أن ينتقل المد الوهابي من مصر إليها – أترك ذلك كله وأضحك من الصدفة التي جعلتني أرى فيلم «سر طاقية الإخفاء» وكيف ضحكت، لأن الطاقية لا تزال موجودة ولم نعرف سرها بعد.
أجل.. لقد مات توفيق الدقن ولم يعلن عن السر، لكنني رغم عشرات المرات التي رأيت فيها الفيلم جلست أمامه أضحك، وأخذني مما حولي حتى عدت وأنا أكتب هذا المقال.
٭ روائي مصري
استاذنا الكبير عبد المجيد. منذ أن قرأت روايتك لا احد ينام في الاسكندرية عرفت انك مولع بالسينما لأنك تذكر فيها الافلام التي عرضت في فترة قص الرواية, ونحن تربينا على السينما المصرية. وكما تعرف ان الكثير من ابطال السينما المصرية كانوا سوريين وهذا فخر لنا اننا ساهمنا في هذه السينما العظيمة. إذا عطست مصر يصيب الزكام كل الامة العربية. ولهذا السبب سارع الهلعون من الربيع العربي إلى ارجاع مصر الى حكم العسكر ولو استمرت مصر في ثورتها لكنست كل هذه لانظمة العفنة
شكرًا أخي ابراهيم عبد المجيد. مقال جميل وصراحة لطيفة وكلمات تدخل إلى الذهن بهدوء وتعطي الراحة في التفكير حول هذا الواقع الدي عشناه ونعيشه. السينما والفن في مصر عمومًا كان سباقًا وساهم في رفع المستوى الثقافي العربي ومهد لارتباط روحي مع المصريين، ولهذا كانت صدمتنا كبيرة بل اصابتنا المهانة ،بالنسبة لجيلي، بزيارة السادات التي خذل بها الشعوب العربية كلها. وصدمتنا كانت أقوى عندما شاهدنا أن بعض الكتاب أوالفنانين أو النخبة لحقت بقطار المهانة! بل صارت تشارك السادات وتحمد سياستة الخيانة والفساد التي كان يتبجح باسلوبه المعروف لتغطيتها. الشيء الذي بقى يربطنا بالشعب المصري العظيم هو رفض التطبيع مع الصهاينة. لكن مأساتنا أصبحت أكبر بل أصبحت المآسي هي التي تجمعنا معًا بعد فشل الربيع العربي. يطول الحديث هنا لكن للقصة بقية بالتأكيد.