في الأيام العشرة الأخيرة من الشهر المنقضي توتر بشدة سوق الذهب في العالم، بعد أن سمح بايدن أن تستخدم أوكرانيا منظومة صواريخ الجيش الأمريكي الأطول مدى في ضرب روسيا؛ ففعلت في 19 من الشهر الماضي، وردت روسيا بضرب إحدى مدن أوكرانيا بصاروخ روسي جديد متوسط المدى خارق لسرعة الصوت بعد ذلك بيومين. وكانت النتيجة أن سعر الذهب قفز في يوم الضربة الروسية بنسبة تتراوح بين 1.3 إلى 1.5 في المئة. في اليوم التالي كشف الرئيس الأمريكي المنتخب إسم المرشح لتولي مسؤولية وزارة الخزانة الأمريكية الملياردير اليهودي سكوت بيسينت الذي يدير واحدا من أكبر صناديق التحوط المالي في العالم. ونظرا لأنه يعتبر واحدا من أنصار سياسة التشدد المالي وخفض الإنفاق فقد هبط سعر الذهب فورا بنسبة تقترب من 3 في المئة! وعلى الرغم من أن الرجل قال في مقابلة تلفزيونية بعد ترشيحه أنه «لا يعرف» عندما سئل عن النتائج المحتملة لسياسة ترامب على معدل التضخم، فإن مديري صناديق الذهب قرروا التخلص من كميات كبيرة من المعدن النفيس، ما شكل صدمة بيعية كبيرة أدت إلى استمرار الهبوط في الأسعار لمدة 24 ساعة طويلة. وعندما أشرقت شمس اليوم التالي عاد سعر الذهب إلى التماسك، ثم اتجه إلى الارتفاع. فما هي حقيقة هذا التوتر الحاد في سوق الذهب؟ هل فقد المعدن النفيس بريقه أم أن مضاربات مديري صناديق الذهب تقف وراء هذا التوتر واتساع نطاق التغير السعري بين يوم وآخر؟
العوامل التي تقرر سعر الذهب
الذهب سلعة من نوع خاص جدا، فهو مخزن للقيمة، وهو أداة ضمان آمنة، وهو سلاح للتحوط من التضخم، وهو وسيلة للحماية من تقلبات أسعار العملات، وهو أحد أعمدة الاستقرار النقدي لأي عملة، وهو معدن الزينة كما يبدو في صناعة الحلي والمجوهرات، وهو أيضا واحد من مكونات صندوق الهدايا الثمينة التي يستخدمها الأثرياء لقضاء مصالحهم عند الحكام وأصحاب المناصب الرفيعة. ومع ذلك فإن ندرة الذهب وزيادة الطلب عليه لا تجعل أسعاره تتحرك دائما في اتجاه صاعد. أحد الأسباب هو أن مديري صناديق الذهب لا يحبون المنحنيات التي تتحرك في اتجاه واحد، وإنما هم يفضلون أن يسير المنحنى في اتجاه متقلب، بين الصعود والهبوط. ومن الناحية التكنيكية التجارية البحتة فإن مديري صناديق الذهب يستطيعون إطلاق موجة ارتفاع في الأسعار، أو موجة هبوط، بضغطة زر واحدة على لوحة مفاتيح شاشة المعاملات. ذلك أن أمر البيع داخل واحد من هذه الصناديق يطلق إشارة حمراء على كل شاشات المعاملات في الصناديق الأخرى في كل أنحاء العالم. فإذا ضغط مدير واحد من تلك الصناديق مهما كانت بعيدة على أزرار لوحة المعاملات أمرا بالبيع، فإن الضغوط على السعر تزداد ويهبط أكثر. فإذا بادر آخرون إلى إصدار أوامر بالبيع أيضا، فإن كل شاشات المعاملات في سوق الذهب سوف تكتسي باللون الأحمر، من دون أن يوجد سبب منطقي أساسي وراء ذلك.
بالطبع الأمور لا تسير بهذه الطريقة البسيطة، لأن مديري صناديق الذهب سوف يتبادلون المكالمات والرسائل الإلكترونية للتحقق من الأسباب. وأحيانا ما تكون الأسباب واهية. وفي أحيان أخرى يكون الدافع هو إثارة السوق وخلق حالة من النشاط؛ فصناديق الذهب ستربح عمولتها في الحالتين على السواء، البيع والشراء. ولذلك فإن أي مستثمر في سوق الذهب يجب أن يقدر نطاق التغير السعري المقبول له على ضوء المتغيرات الأساسية في السوق، وأن يضع في اعتباره أن نسبة من السعر الجاري تخضع لتأثير المضاربة، بعيدا عن كل المتغيرات الأساسية، التي تتمثل في ظروف العرض والطلب، واتجاه معدلات النمو والتضخم، والعلاقة بين أسعار العملات والسياسات النقدية، والأوضاع الجيوستراتيجية حول العالم.
وقد ارتفع سعر الذهب مع التصعيد الصاروخي للحرب في أوكرانيا التي تنتقل الآن إلى مرحلة جديدة تشبه مرحلة حرب المدن في الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. لكن السعر انخفض بعد ذلك خوفا من أن ارتفاع التضخم المتوقع مع سياسات ترامب الاقتصادية سوف يؤدي إلى رفع أسعار الفائدة، ومن ثم ارتفاع قيمة الدولار والعائد على سندات الخزانة، ما يؤدي إلى زيادة دوافع الانتقال في سوق المضاربات من الذهب إلى الدولار.
هذا التحليل قد يفيد المستثمرين في الأجل القصير، لكنه لا يقدم للمستثمر رؤية طويلة الأجل، لأن سوق الذهب محكومة في الأجل الطويل بعوامل أساسية تشكل معا خطوطا للدفاع عن قيمة المعدن النفيس، باعتباره مخزنا للقيمة وسندا لقيمة العملات لدى البنوك المركزية المختلفة، ومُدخل الإنتاج الرئيسي في صناعة المجوهرات. إضافة إلى ذلك فإن ظروف العرض والطلب محكومة على المدى المتوسط بكمية إنتاج الذهب سنويا، ومعدل الزيادة في الطلب. ونتيجة للظروف الجيوسياسية وسعي الكثير من دول العالم خصوصا دول «عالم الجنوب» إلى تنويع سلة احتياطي النقدي الأجنبي لديها وتخفيف الاعتماد على الدولار، فإنه من الملاحظ زيادة طلب البنوك المركزية على الذهب بمعدلات غير مسبوقة. هذا من شأنه أن يقود إلى زيادات متواصلة في الأسعار، يجب أن تقابلها زيادات في الإنتاج من أجل إعادة التوازن بين العرض والطلب. حتى الآن لا يبدو أن معدلات نمو الإنتاج تسير بمعدلات خطية مع الزيادة في الطلب.
هناك أيضا متغير سنوي موسمي يرتبط بموسم الخطوبة والزواج في الهند، وأيضا في الصين، خصوصا بعد أن سمحت الحكومة الصينية لمواطنيها قبل ثلاثة أعوام شراء سبائك الذهب. هذا الموسم يقع فصليا كل عام بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، حيث تتماسك أسعار الذهب. لذلك فإنه يجب على المضاربين تجنب الشراء في هذا الموسم، تجنبا للخسائر المحتملة في حال تراجع الأسعار. ومع ذلك فإن قرار الاستثمار في الذهب لا يجب أن يقوم على حساب التوقعات في متغير واحد فقط، وإنما يجب أخذ التوقعات بالنسبة لكل المتغيرات في الاعتبار. وتكشف مؤشرات تداول الذهب وتغيرات السعر في السوق خلال الربع الثالث من العام الحالي عن الحالة الفعلية للسوق، وليس التوقعات، الأمر الذي يمكن أن يساعد على فهم آليات تحركات السعر في الأجل القصير، على الأقل حتى نهاية العام الحالي.
تقرير مجلس الذهب العالمي
طبقا لتقرير مجلس الذهب العالمي للربع الثالث من العام الحالي فإن إجمالي الطلب على المعدن النفيس وصل إلى مستوى قياسي يتجاوز 100 مليار دولار لأول مرة على الإطلاق، مرتفعا بنسبة 5 في المئة على أساس سنوي إلى 1313 طنًا، وهو رقم قياسي في الربع الثالث. وعلق الخبراء على ذلك بأن زيادة كمية وقيمة الطلب تعكس حقيقة قوة الاستثمار في بيئة أسعار مرتفعة قياسية.
وقد أسهمت صناديق الاستثمار في الذهب بزيادة الطلب لغرض الاستثمار بأكثر من الضعف على أساس سنوي إلى 364 طنًا. وكان الطلب مدفوعًا بتحول صناديق الاستثمار في التداول بالذهب بشكل أساسي من المستثمرين الغربيين. وعلى صعيد التداول العالمي، زاد الاستثمار في الذهب 95 طنًا، مسجلة أول ربع إيجابي منذ الربع الأول من عام 2022. أما بالنسبة للطلب على منتجات الذهب الاستثمارية فقد انخفض الطلب على السبائك بنسبة 9 في المئة. مع ذلك فإن إجمالي الطلب منذ بداية العام يظل قويًا عند 859 طنًا مقارنة بمتوسط 10 سنوات الذي يبلغ 774 طنًا. وقد لاحظ المجلس أيضا أن عمليات شراء الذهب بواسطة البنوك المركزية تباطأت في الربع الثالث، على الرغم من أن الطلب ظل قويًا عند 186 طنًا. وبلغ الطلب من البنوك المركزية حتى الآن 694 طنًا، بما يتماشى مع نفس الفترة من عام 2022. بالإضافة إلى ذلك، حقق إجمالي الطلب على الذهب في قطاع التكنولوجيا، حيث يدخل المعدن النفيس في صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات زيادة بنسبة 7 في المئة على أساس سنوي، مدعومًا بنمو قطاع الإلكترونيات مع استمرار طفرة الذكاء الاصطناعي في دعم الطلب على الذهب.
أما بالنسبة للعرض، فقد ذكر التقرير أن إجمالي المعروض من الذهب ارتفع بنسبة 5 في المئة على أساس سنوي، مع زيادة بنسبة 6 في المئة في إنتاج المناجم، وزيادة بنسبة 11 في المئة في إعادة التدوير. هذه النسبة في زيادة المعروض للتداول تعادل تقريبا نسبة الزيادة في الطلب. هذا يفترض استقرارا نسبيا في نطاق التغير السعري. لكن الحقيقة أن الاتجاه العام لأسعار الذهب يشير إلى ارتفاع كبير، تجاوز توقعات أغلبية خبراء السوق. وكانت التوقعات تذهب إلى أن أقصى حدود التغيرات السعرية ستأخذ الذهب إلى 2500 دولار للأوقية، ثم إلى 2800 دولار في عام 2025. ومع ذلك فإن سعر الذهب تجاوز 2700 دولار للأوقية في الشهر الماضي، ما جعل الخبراء يعدلون توقعاتهم في عام 2025 إلى في نطاق 2800 إلى 3200 دولار، وذلك بناء على توقعات تخفيض سعر الفائدة على الدولار. لكن نظرا لتضارب التوقعات بشأن التضخم وأسعار الفائدة مع انتقال الحكم في البيت الأبيض إلى الرئيس المنتخب دونالد ترامب، فإن سعر الذهب سيبقى متأرجحا خلال الأشهر الستة المقبلة، حتى تتضح الصورة تماما بالنسبة لمسار السياسة المالية الأمريكية والحرب التجارية، وكيفية تعامل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مع تداعيات هذه السياسات. ومن ثم فإن قرار الاستثمار يجب أن يكون حذرا ومتحفظا سواء في البيع أو الشراء، مع أن القاعدة الذهبية في السوق تقول انه كلما ارتفعت نسبة المخاطرة ارتفع العائد.
وعلقت لويز ستريت، كبيرة محللي الأسواق في مجلس الذهب العالمي: «شهد الربع الثالث زيادة في الاستثمار ونشاطا خارج البورصة ما دعم الطلب العالمي على الذهب ودفع أداء الأسعار إلى أعلى. وفي حين أدى ارتفاع سعر الذهب إلى تقليص الطلب في أغلب أسواق المستهلكين، فإن خفض الرسوم الجمركية على الواردات في الهند حافظ على ارتفاع الطلب على المجوهرات والسبائك والعملات المعدنية بشكل ملحوظ في بيئة أسعار قياسية». وقالت أن عامل «الخوف من ضياع الفرصة» بين المستثمرين بمثابة المحرك الرئيسي للطلب المتزايد هذا الربع.
وقد أظهر المستثمرون رغبة في الشراء في ظل زخم الأسعار، ويشعرون بالتشجيع من احتمال انخفاض أسعار الفائدة في المستقبل، كما يفكرون أيضًا في دور الذهب كملاذ آمن في مواجهة عدم اليقين السياسي في الولايات المتحدة والصراعات المتصاعدة في الشرق الأوسط. وقالت أنه «بالنظر إلى المستقبل، فإن التغيير التدريجي في تدفقات الاستثمار في الذهب هو اتجاه من المرجح أن يستمر، ما قد يبقي مستويات الطلب والسعر مرتفعة. من ناحية أخرى، شهدنا أكثر من 30 ارتفاعًا قياسيًا للأسعار في عام 2024 وستظل هذه البيئة صعبة بالنسبة للمستهلكين. ومع ذلك، فإن توقعات قوة النمو الاقتصادي هو عامل آخر سنراقبه وقد يرجح كفة الميزان».