سفراء معارضون: انقسام في الخارجية السودانية

خلال لقاءاته الإعلامية كان نور الدين ساتي سفير السودان لدى واشنطن، يركز على عدم اعترافه بالمجلس السيادي القائم، وبمجمل نظام ما بعد الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، بما يشمل وزارة الخارجية التي لا يعتبر نفسه معنياً بالتعامل معها أو التقيد بتوجيهاتها. في الوقت ذاته كان ساتي لا يوضح الجهة التي يرفع إليها تقاريره الدبلوماسية مكتفياً بالقول، إنه يمارس عمله بشكل طبيعي وإنه ما يزال معترفاً به.
هذه الحادثة غريبة وفريدة من نوعها، ولا تشبه القصص التي يمكن أن نكون قد سمعنا عنها من قبل عن “انشقاق” الدبلوماسيين. ربما أرادت “قوى الحرية والتغيير”، التي تحولت بين عشية وضحاها من إئتلاف حاكم إلى مجموعة معارضة، استغلال علاقتها بالسفراء الموالين لها، لصنع مشهد درامي مماثل لمشهد المندوب الليبي لدى الأمم المتحدة وهو يعلن إنشقاقه عن نظام القذافي، أو لمشهد السفير السوري لدى بغداد، الذي كان قد أعلن في تسجيل تناقلته وسائل الإعلام انشقاقه عن الحزب والنظام في عام 2012 .
الجديد والمختلف عن الأمثلة السابقة وغيرها، هو أن السفراء السودانيين المعارضين لما حدث من تغيير سياسي، لم يبادروا إلى الاستقالة من مواقعهم، وإنما آثروا البقاء واستغلال هذه المواقع، من أجل حث المجتمع الدولي على ممارسة أقسى ما يملك من ضغوط على السلطة الجديدة. كان ذلك هو الوقت الذي استقبلت فيه الأمم المتحدة طلباً من البعثة السودانية في جنيف بشأن إدراج ملف السودان، ومناقشة فرض عقوبات جديدة عليه، بذريعة تغول العسكريين على السلطة. كان سيناريو الانقسام والتنافس على الشرعية، الذي كان يفترض أن ينتج مؤسسات تابعة للنظام وأخرى “حرة” (على غرار “الجيش الحر” السوري) وارداً. السبب هو أنه لم يكن بإمكان السفراء أن يتابعوا عملهم المعارض من داخل بعثاتهم الدبلوماسية لوقت طويل، لهذا، كان يجب التخطيط لبناء مؤسساتٍ بديلةٍ موازية. في ذلك الوقت رشحت أخبار عن توافق كثير من أنصار قوى الحرية والتغيير، “قحت”، على اختيار نورالدين ساتي رئيس وزراء منفيا أو نائبا لعبدالله حمدوك، الذي كان ما يزال محتجزاً، والذي كانت الدعاية السياسية لـ”قحت” تزعم أن احتجازه هو بسبب رفضه للترتيبات الجديدة.

كانت أغلبية السفراء ملتزمة بمهنيتها وهي تعتبر أن هذه معركة في غير معترك، وأن من أراد طلب السياسة فإن عليه أن يستقيل ويتفرغ لكفاحه

حوادث التنافس على الشرعية، ليست نادرة في التاريخ السياسي أو الدبلوماسي، ولعل أزمة ساحل العاج كانت الأشهر في هذا الصدد، ففي عام 2010 حينما أسفرت نتيجة الانتخابات العاجية عن فوز الحسن واتارا، ما كان من الرئيس لوران غباغبو إلا أن يرفض التنحي، معلناً عدم اعترافه بهذه النتيجة، هكذا مضت البلاد لأشهر طويلة وهي مزدوجة الرأس، لتنتج الأزمة التي تجاوزت التنازع السياسي صراعاً دامياً خلّف الآلاف من الضحايا، قبل أن يحسم لصالح الحسن واتارا، الذي كان يحظى بدعم دولي. مع الدعم الدولي الذي كان يجده رئيس الوزراء عبدالله حمدوك كان بإمكان القصة السودانية أن تمضي باتجاه سيناريو مماثل، فكان منطق السفراء الرافضين للتغيير منطلقاً من كون أن من عينهم هو رئيس الوزراء حمدوك ووزيرة خارجيته مريم المهدي، وأنهم لا يعترفون بالإجراءات التي أدت لإزاحة كل منهما، وهكذا فهم متشبثون بموقعهم، إلى أن تأتيهم توجيهات جديدة ممن يعتبرونهم ممثلين للحكومة الشرعية.
مريم المهدي وزيرة الخارجية السابقة، وممثلة حزب الأمة في حكومة المحاصصة الحزبية كانت تراهن على أن “المجتمع الدولي” لن يسمح بإبعاد حكومتها عن السلطة، وأن حدوث انقسام في وزارة الخارجية وفي غيرها من مؤسسات الدولة، ما بين المطالبين بعودة عبد الله حمدوك والمؤمنين برجاحة إجراءات عبد الفتاح البرهان، لا شك في أنه سيحسم لصالح حكومتها، التي تحظى بعلاقة جيدة مع عواصم مؤثرة. تحركت المهدي، التي كانت تصر على وصف نفسها بوزيرة الخارجية الشرعية، وفقاً لذلك في اتجاهين، الاتجاه الأول هو الإعلامي، ومحاولة الالتقاء بالسفراء والممثلين الدوليين، خاصة الدول الغربية التي كانت بمثابة الراعي لـ”قحت”، والاتجاه الثاني هو الداخلي بمحاولة تثبيت السفراء وحثهم على عدم التعاون مع “الانقلاب” مع التنبيه على ضرورة الضغط على منسوبي البعثات الدبلوماسية بهذا الاتجاه ترغيباً أو ترهيباً. كان من نتيجة ذلك توقيع العشرات من الدبلوماسيين على وثيقة متداولة، رفضوا فيها الانصياع للسلطة القائمة، وكما فعل ساتي رفضوا، في الوقت ذاته، التخلي عن مواقعهم، كما اعتبروا أنهم لن يعترفوا أيضاً بأي إجراء من قبيل فصلهم من الخدمة، أو إعادتهم إلى الخرطوم، طالما كان صادراً من جهة هي، في نظرهم، غير شرعية. الذي حدث هو أن التنازع حول الشرعية ما بين حمدوك وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان لم يستمر طويلًا، فسرعان ما عاد حمدوك لتوقيع اتفاق ثنائي جديد مثّل فيه مرة أخرى الشق المدني في الشراكة الثنائية الانتقالية. نص الاتفاق الجديد على توسيع المشاركة السياسية، وتجاوز احتكار “قحت” لمجال العمل العام.
عودة حمدوك بعثرت الكثير من الأوراق، وعلى رأسها ورقة المؤسسات الموازية، فلم يعد من المنطقي مثلاً اختيار بديل له لتشكيل حكومة منفى. بالنسبة للدبلوماسيين المعارضين، شكّل ذلك أيضاً حرجاً، فلم يعد القول بعدم شرعية النظام السياسي مقنعاً بعد عودة من كانوا يصفونه برئيس الوزراء الشرعي، خاصة أن الرجل أعلن تأييده لقرار حل الحكومة ولم يطالب باستعادتها. لم يكن الارتباك مقتصراً على العاملين في الخارج، وإنما شمل مجمل حاضنة “قحت” التي كانت تقدم حمدوك كرمز للحكم المدني. في ظل وجود هذا الرمز كان من الصعب على “الحاضنة” وصف الوضع القائم الجديد بغير المدني أو غير الشرعي، إلا باللجوء إلى تخوين حمدوك نفسه وإعادة بناء سردية جديدة، وهو أمر صعب، لأنه يتطلب تعريفاً جديدا ومتفقاً عليه للشرعية.
في ظل هذه الأحداث انقسمت وزارة الخارجية إلى مهنيين، كان موقفهم الثابت هو النأي بأنفسهم عن التدافع السياسي، مبررين لذلك بسِيَر الآباء المؤسسين للدبلوماسية السودانية، الذين لم يمنعهم أي تحول سياسي أو انقلاب من أداء ما عليهم من واجبات بوطنية والتزام، وإلى فريق آخر كان أكثر ارتباطا بالسياسة، وهو يصر على ربط مصيره بمصير “قحت” مطلقاً على نفسه صفة “الشريف” ومطالباً الآخرين بأن يحذوا حذوه. لحسن الحظ، كانت الأغلبية ملتزمة بمهنيتها وهي تعتبر أن هذه معركة في غير معترك، وأن من أراد طلب السياسة فإن عليه أن يستقيل ويتفرغ لكفاحه، لا أن يخلق فوضى ويستغل المنابر الدبلوماسية من أجل التعبير عن وجهة نظره الشخصية أو الحزبية، لأنه ببساطة لا وجود في العرف الدبلوماسي لمصطلح الدبلوماسي الناشط، أو المعارض الذي يوظّف علاقاته من أجل الضغط على حكومته. لاحقاً سوف يفضل أغلب الموقعين على وثيقة العصيان الاعتذار عما بدر منهم للاحتفاظ بوظائفهم، في حين سيبقي “سفراء قحت”، خاصة الذين تم تعيينهم وفق تجاوز واستثناء سياسي، على مواقفهم الرافضة.
اليوم، ربما لا يكون أولئك في مواقعهم، لكن لا شك في أن التسييس والأدلجة التي غمرت وزارة الخارجية، كما غيرها من مؤسسات الدولة الحساسة، خلال الفترة الماضية بذريعة الثورة، لم تنته. سوف يلقي هذا على القائمين على هذه المؤسسات مسؤولية عظيمة من أجل إعادتها كمؤسسات مهنية محايدة سياسياً وغير قابلة للاستغلال من قبل أي طرف.

*كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صلاح أبوسن:

    “عبدالله حمدوك، الذي كان ما يزال محتجزاً، والذي كانت الدعاية السياسية لـ”قحت” تزعم أن احتجازه هو بسبب رفضه للترتيبات الجديدة”. هذه الجملة للكاتب تفيد أن احتجاز حمدوك حينها كان لسبب آخر غير رفضه “للترتيبات الجديدة” (الانقلاب) ليت الكاتب شرح لنا ذاك السبب.

اشترك في قائمتنا البريدية