سقوط الأبد: كيف سيكون حال الثقافة في سوريا الجديدة؟ «2»

تمكن حافظ الأسد في فترة الثمانينيات من القضاء على كل المنافسين له في السلطة، وبالأخص بعد ما عرف بمجزرة حماة، التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين. في هذه الأثناء، وتحديدا عام 1984، وضع أول تمثال للأسد أمام مكتبة المدينة العامة، وظهر الأسد في التمثال جالسا مع كتاب على حضنه، ليوحي للناظر بأنه العالم الذي يضرب به المثل. لاحقاً لاحظت الأنثروبولوجية الأمريكية ميريام كوك في كتابها «سوريا الأخرى: صناعة الفن المعارض» أن كلمة الثقافة في سوريا غدت مرتبطة بظاهرة عبادة الرئيس، وأن النظام السوري كان كغيره من الأنظمة الفاشية، يسعى إلى كبت أي أفكار بديلة.
مع ذلك، استطاع عدد من المثقفين السوريين من مقاومة هذا الخطاب، عبر اللجوء لأفكار ورسائل بديلة في الأفلام والأدب والفن، أو الدعوة إلى إجراء تغييرات واسعة، دون الخوف من الاعتقالات والسجن. ولم يتغير واقع المؤسسات الثقافية مع قدوم بشار الأسد، الذي فرّ قبل عدة أيام. إذ بقي النظام يسعى لدعم سرديته، مع ذلك كان العالم يتغير، وأخذت الصحون اللاقطة، والإنترنت لاحقا، تتيح لشرائح واسعة من السوريين التعرف على ثقافات وتجارب أخرى، مختلفة عن ثقافة بلادهم. ترافق ذلك أيضا مع ولادة أجيال جديدة، أكثر ارتباطا بالعالم وثقافته، وهي عوامل لعبت دوراً في اندلاع ثورة 2011 الشعبية ضد النظام.
جاء صباح يوم 8/12/2024، ليعلن هروب الأسد الابن، وسقوط نظامه، بعد 14 عاما من صمود الشارع. وخلال دقائق، بدا أن كل شيء يتغير، وأخذ الآلاف من السوريين يحتفلون بإسقاط تمثال الأسد وهو يحمل كتابا. فالنظام الذي أحكم سيطرته على حياتهم، كان قد فرّ في آخر الليل، دون أن يتمكن حتى من أخذ ألبوماته وأرشيفه الإجرامي.


وقد خلق هذا التحول الكبير، تحديات وأسئلة جديدة، في أوساط المثقفين، حول أدوارهم وأدواتهم، وكيف يعيدون الانخراط في المجتمع، والتعبير عنه بسرديات جديدة بعيدة عن السرديات الأيديولوجية، التي قدسها بعض المثقفين أيضا.
في هذا السياق، يذكر الأكاديمي السوري أحمد جاسم حسين، أنه علينا الاعتراف اليوم بأن دور المثقف العقائدي، سواء الماركسي، القومي، أو الديني قد انتهى، وأن على هذا المثقف إعادة ترتيب رؤيته، وتعريف دوره، وقراءة أدواته، فالبلاد في الفترة المقبلة تحتاج إلى المثقف الذي يتماشى مع قراءة حركة الواقع، ومعرفة وفهم لماذا يختار الناس بعض التوجهات. وهذا الدور هو ما يؤكد عليه أيضا الأكاديمي السوري في جامعة نيويورك محمد عثمان خليل، الذي يرى ضرورة إعادة النظر في مفهوم ودور المثقف، وهو دور معني بالأساس بالشأن العام، فالإنسان المثقف وفق تعبيره، هو الشخص النشيط في الفضاء الاجتماعي الذي يعيش فيه.
وعند الحديث عن الثقافة في سوريا، لا شك أن الأنظار تتجه أيضا إلى دور المؤسسات الثقافية، فخلال الستينيات وما بعد، عرفت سوريا في ظل المد القومي بروز عدد من المؤسسات الثقافية، ومنها مؤسسة اتحاد الكتاب العرب، التي بدت في سنواتها الأولى ناشطة وفاعلة على مستوى تنظيم العمل الثقافي، إلا أن هذا الواقع تغير في السبعينيات، مع قيام النظام بتجيير كل المؤسسات لصالح سرديته.
من هنا يعتقد الحسين أنه من الواجب في المرحلة المقبلة إعادة النظر في دور وآليات عمل هذه المؤسسات، فهي إن كانت تمتلك صلابة وقاعدة لوجستية جيدة، إلا أنها مغرقة في المقابل في البيروقراطية، والتسطيح أيضا. كما من الواجب دفع هذه المؤسسات للعمل على حفظ الذاكرة السورية. فخلال 55 عاما، كانت لدينا ذاكرة رسمية ، في حين اليوم كل عائلة لديها قصة، ومن الواجب حفظ هذه القصص والتاريخ.

حفظ تراث سوريا:

وكان مثقفون وناشطون سوريون قد دعوا في الأيام الماضية، إلى ضرورة تحويل عدد من سجون النظام السوري لمتاحف، لتكون شاهدا ورادعاً لتكرار هذه المشاهد في المستقبل. وفي مقابل هذه الدعوات، لا يخفي بعض المثقفين أيضا قلقهم على مستقبل تراث كامل في سوريا، المتعلق بالآثار والمواقع التاريخية في البلاد. فخلال الثورة السورية، والحرب التي شنها النظام على المدن، ودخول «داعش» أيضا على خط المواجهات، كانت مناطق سورية قديمة في حلب، وتدمر، والرقة، قد تعرضت للتدمير والنهب. وهنا يرى الأكاديمي السوري عبد الرزاق معاذ المدير الأسبق للمديرية العامة للآثار والمتاحف، قبل مغادرته البلاد عام 2013 بسبب الأحداث، ضرورة دعم وتدعيم مديرية الآثار في البلاد، لحماية التراث السوري. ويقر معاذ بأن المهمة لن تكون سهلة، خاصة أن إحضار الخبرات السورية من الخارج، يحتاج بلا شك إلى توفير دعم مالي. كما أن مديرية الآثار تعاني من نقص حاد في الكوادر، مع ذلك بالوسع المساعدة على حل هذه المشكلة، من خلال إعادة تأهيل سريعة لبعض الكوادر، كما أنه بالوسع الاستفادة من التعاون مع بعض المؤسسات الفرنسية والأمريكية أو الألمانية، التي تمكنت في السنوات الأخيرة، بالتعاون مع باحثين سوريين على الأرض، من رصد كل الأضرار التي تعرضت لها المناطق الآثرية، في سوريا.

الكتب.. ضحايا منسية

يعتبر الكتاب والمكتبات، من الضحايا المنسية في العقود الأخيرة في سوريا. إذ تعرضت دور النشر والكتب لحملات قمع شديدة، ساهمت في تراجع وتدهور دورها. وقد شهد عالم الكتاب بعيد عام 2000 تخفيفا محدودا من الرقابة، مع ذلك ظل سوقه محاصرا. ومع قدوم الثورة، وشن النظام السوري لاحقا حربا على المدن، كان واقع الكتاب والمكتبات يزداد ترديا، وهو ما ظهر بشكل أوضح بعد عام 2016، من خلال ما يصفه البعض بمرحلة «إبادة المكتبات» في مدينتي دمشق أو حلب مثلا، حيث اضطر الكثير من المكتبات ودور النشر، إما إلى إغلاق أبوابها، كما حدث مع مكتبة نوبل الشهيرة، التي تحولت الى مركز للصرافة، أو إلى نقل أعمالهم نحو دول أخرى مثل تركيا ومصر، ولذلك يرى بعض القائمين على عالم النشر السوري، أن سقوط النظام قد يكون بمثابة فرصة لإعادة إحياء دور الكتاب في البلاد.. ويعتبر الروائي والناقد السوري هيثم حسين، واحداً من آلاف المثقفين السوريين، ممن اضطروا لمغادرة بيوتهم، وبعد تنقلات عديدة، استقر في مدينة لندن. وفي السنوات الأخيرة، ساهم حسين في تأسيس دار نشر رامينا، التي أخذت تعنى بالتعريف بأدب الأقليات والمهمشين، الكردية على وجه الأخص، ومحاولة الترجمة لعدة لغات. إلا أن ما تطمح له الدار اليوم، هو أن تتوسع أيضا في إصداراتها، في ظل الأسئلة الجديدة التي أخذ يعيشها المجتمع السوري بعد سقوط النظام، ويذكر حسين لصحيفة «القدس العربي»، بأنه في حال استقرت الأمور في البلاد، فإنه سيعمل على دعم الكتاب والمبدعين الذي يعبرون عن التنوع السوري، ويسلطون الضوء على الأصوات التي تعرضت للقمع والتهميش، مع ترجمة هذه الأعمال وتقديمها بلغات مختلفة، الكردية والعربية والسريانية على وجه الخصوص، لإحياء التراث الثقافي السوري، وجعله متاحا للأجيال الجديدة. ويضيف حسين أن على السلطة دعم قطاع النشر، وتغيير واقع المؤسسات الثقافية، التي تحولت إلى أوكار أمنية، وأن تكون حرية التعبير حجر الزاوية لأي إصلاح، إذ لا يمكن لدور النشر العمل بفاعلية في بيئة يخيم عليها الخوف أو الرقابة. من جانبها تعتقد الناشرة السورية سمر حداد صاحبة دار أطلس، والتي بقيت صامدة في البلاد، أن أول خطوة يجب القيام بها في المرحلة الحالية والمقبلة، تتعلق بموضوع إلغاء دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، وضرورة تأسيس نقابة للناشرين، بدل اتحاد الناشرين السابق الذي أسسه النظام، والذي من المفروض حله، وإجراء انتخابات ونقابة، يكون القائمون عليها ممن لديهم خبرة جيدة عن عالم النشر.
كما تعتقد حداد أنه لا بد من أن يكون هناك دعم لدور النشر في الفترة المقبلة، وصناعة النشر عموما، كأن تقوم نقابة الناشرين بإجراء دورات تدريبة لصناع الكتاب، وبالأخص لمن يدخلون المهنة دون خلفية سابقة. كما تعتقد حداد أنها ليست مع فكرة نشر كتب تناسب المرحلة الحالية السريعة، ولذلك فهي تفضل مراقبة الأمور. وحول إن كانت هناك أي مخاوف من وجود سلطة ذات خلفية إسلامية، تؤثر على صناعة الكتاب، تعتقد حداد، أن هناك بعض المخاوف بالطبع، لكن لو حدث ذلك، فيمكن أن نعود إلى ممارسة الرقابة الذاتية قبل النشر، وإيجاد الحلول، كما كنا نفعل في فترة النظام السابق.

مستقبل الدراما والسينما

تعتبر ساحة الدراما السورية، من أهم الساحات الثقافية، التي قد تشهد تغيرات كبيرة في الفترة المقبلة. فخلال فترة آل الأسد، كان النظام قد تنبه لأهمية ودور هذا القطاع الثقافي، ولذلك أخذ يعمل على تجييره لصالحه. مع ذلك استطاع عدد من الكتاب والمخرجين السوريين أحيانا تجاوز بعض خطوط النظام. وقد شهدت الدراما السورية في العقدين الأخيرة فورة كبيرة، وتجاوزت بعدها المحلي، وأصبح كثير من الممثلين السوريين نجوما عرب وعالميين. كما حاول النظام خلال سنوات الثورة، توظيف عدد كبير من الممثلين والعاملين في الدراما، لصالح دعم سرديته، ما أثار حفيظة واسعة داخل الشارع، وقلب صورة بعض أبطال الدراما، من شخصيات محبوبة، إلى مرفوضة بسبب قربها من النظام، ولذلك تبدو اليوم الدراما السورية، أمام أسئلة جديدة حول مستقبلها. ويرى الكاتب والمسرحي وسيم الشرقي أنه منذ فترة حافظ الأسد، بدا النظام واعيا لأهمية الدراما، ولذلك عمل على استغلال هذا الجانب، وأتاح هامشا صغيراً من الحريات في هذا القطاع الثقافي، من خلال إنتاج مسلسلات ناقدة للواقع مثل مسلسل «مرايا» وغيره، كما أن هناك بعض الكتاب والمخرجين حاولوا أيضا فرض سردياتهم، مثل أعمال حاتم علي التاريخية، التي لم يكن النظام يفضل بعض الرسائل الموجودة فيها، خاصة التي تتحدث عن الديكتاتوريات.
ويرى شرقي أن هناك ثلاثة عوامل يجب النظر فيها للإجابة عن مستقبل الدراما في سوريا. الأول أن التصوير داخل البلاد بات متاحاً، خلافا الفترة السابقة التي كان النظام يحدد فيها النصوص، وأماكن التصوير. والعامل الثاني، يتمثل بوجود كم هائل من القصص والسرديات والحكايا، التي لم يجر الحديث عنها، باستثناء بعض المسلسلات مثل مسلسل (ابتسم أيها الجنرال)، وبعض الأعمال القليلة الأخرى، لكن سوية هذه المسلسلات الفنية لم تكن جيدة أيضا.
والعامل الثالث، يتعلق بالسؤال حول طبيعة من سينتج هذه المسلسلات، إذ ستحاول دول إقليمية، وبالأخص خليجية، إنتاج بعض الأعمال، وهناك اللاعبون الجدد مثل نتفليكس وبعض المنصات الأخرى، التي قد تفتح الأحداث شهيتها للإنتاج عن سوريا، بالإضافة إلى أن هناك من سيرى فرصة لتوفر مواقع تصوير حية من الدمار، وهو ما حاول النظام استغلاله أيضا في الفترة الماضية. ويعتقد شرقي أن من الأشياء الجيدة التي بقيت على الأقل في دمشق، وجود بنية تحتية للدراما التلفزيونية، وعودة بعض الكتاب والممثلين، بالإضافة لوجود المعهد العالمي للفنون المسرحية، ولذلك فهناك طاقة بشرية، ورغبة في القص ورواية الحكايا، وهناك أعمال كثيرة في المستقبل.
أما على صعيد السينما ومستقبلها، وما العوائق التي قد تحول دون تطورها، فترى الناقدة السينمائية ندى الأزهري، أنه لا يمكن الحديث عن مستقبل الثقافة في سوريا إلا ضمن تعابير مثل اعتقد، من المحتمل، لكن هناك شيء مؤكد أن هذا المستقبل سيعتمد على السوريين في المقام الأول، ربما أكثر من السلطة المقبلة، إذ لن نبدع لمجرد أن السلطة ستسمح لنا بذلك، فالمشكلة في نمو أي قطاع ثقافي في سوريا، يكمن في توفر منابع لازدهار الخلق والإبداع. وربما هذا ما وجدناه على صعيد السينما، فحينما خرج السوريون مجبرين من بلادهم، نجحوا في زوايا عديدة من هذا العالم، وبرزوا على صعيد السينما مثلا، من خلال الفيلم الوثائقي.
وعن مستقبل السينما، في حال وجود سلطة ذات خلفية إسلامية محتملة، فترى الأزهري بأن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب فهم أيديولوجية الحكام وطبقتهم الاجتماعية، ففي إيران وأفغانستان مثلا، اللتين حكمتا من قبل جماعات دينية، نرى أن الايرانيين طوروا الثقافة، كون الطبقة الحاكمة كانت تنتمي لأوساط متعلمة، تهتم بالآداب إلى جانب العلوم الدينية، على عكس عناصر طالبان. وفي سوريا الجديدة والقريبة، نرى أن أحمد الشرع من وسط متعلم، لكن لا نعرف ماهية المجموعات من حوله. وفي الوقت نفسه، تعتقد الأزهري، أنه يجب أن لا تكون هناك أوهام واسعة، فالحكم قد يبقى صاحب توجه إسلامي لفترة، وقد ينظر بشك وريبة لعالم الثقافة والمثقفين، لكن ذلك يجب أن لا يمنع الحياة الثقافية من أخذ مجراها، فأي حاكم يتمتع بقدر قليل من الذكاء، يدرك أهمية الفن، لاسيما السينما، كوسيلة دعائية للبلد. كما أن أي رقابة ستفرض، لن تمنع التطور الثقافي، بل قد تحد منه، وقد تدفعه للإبداع بأشكال أخرى، وهو ما حصل في السينما الإيرانية ، بعد قدوم الخميني، التي تطورت رغم كل المعوقات، وهو ما قصدت به، أن الأمر متعلق في المقام الأول بقدرة الشعب على الخلق والإبداع رغم الظروف، كما فعل الإيرانيون.

وماذا عن دور الجامعات؟

يعتبر موضوع إعادة تشكيل الجامعات، واحدا من الموضوعات الأساسية المتعلقة بثقافة البلاد، إذ عمل النظام على إفساد هذه القطاعات، كما أنه فرغها من محتواها الثقافي، وجعلها مكاناً تعليميا فقط. وكان موضوع الجامعات قد آثار في الأيام الماضية، نقاشات واسعة، بعد قيام عدد من الأساتذة والطلاب بأداء الصلوات في ساحة عدد من الجامعات، ما اثار حفيظة البعض. ويرى الأكاديمي خالد حسين، أن الجامعة هي المكان الأكثر أهمية في المدينة، والجامعة كفضاء لا تكتسب دلالاتها العميقة، إلا حين تكون مستقلة تماماً عن السلطة المهيمنة. ويضيف حسين أن الجامعة السورية منذ استلام حزب البعث فقدت هذه الشخصية المستقلة، بل إن الجامعة السورية تحولت إلى فضاء يرزح تحت إرادة البعث، لتنهار بالمعنى العلمي تحت وطأة الفساد والمحسوبية. وبالتالي فإن الأمل مرهون اليوم باستعادة الجامعة لاستقلاليتها حتى تكون فضاءً للتنوير وإنتاج المعرفة وتخريج المبدعين والمفكرين والعلماء والكوادر. ولا يخفي حسين دهشته ببعض الأحداث مؤخراً في ما يخص الجامعة السورية، من قبيل تسمية إحدى الجامعات باسم ديني، أو جعلها أمكنة لأداء الصلاة، اذ يرى في ذلك انتهاكاً فاضحاً في وضح النهار للجامعة ذاتها، من حيث هي فضاء لإنتاج المعرفة وبناء الوعي بالعالم وترسيخ الهوية السورية. ولذلك فالجامعة كما يرى ينبغي أن تكون فضاءً مستقلاً وتنويرياً.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية