سقوط بغداد وتوقيع معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي!

عشر سنوات على غزو العراق. تم نشر مئات المقالات وعشرات الكتب وعرض عشرات الافلام الروائية والبرامج الوثائقية، في جميع ارجاء العالم. وبدا كأن العالم يعيش، بهذه المناسبة المؤلمة، صحوة للضمير والنفس، بعد ان دفع العراق وما يحدث فيه الى ارشيف الذاكرة المظلمة خلال العامين السابقين بحجة انسحاب قوات الاحتلال وانتظار ان يتعلم الرضيع، اي الديمقراطية التي ولدها الاحتلال، ان يحبو. عشر سنوات على غزو العراق و 45 عاما على مجزرة ماي لي التي ارتكبتها قوات الغزو الامريكي في القرية الفيتنامية. ليثبت الاحتلال، مرة تلو المرة، ان للهمجية وجها واحدا لا يتغير، مهما مرت السنين.
تضمنت المراجعة التطرق الى كافة مستويات الغزو ومن بينها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والأمنية والحقوقية، سواء ممن وقفوا بجانب الغزو باعتباره تحريرا او من ناهضوه باعتباره عدوانا واحتلالا غير شرعي.
وبين الطرفين برزت نقاط اختلاف جوهرية في النظر الى القيم الاخلاقية والانسانية. وامتدت حرب المواجهات بين الفريقين، كتابة وتصويرا وتوثيقا، الى اللغة نفسها، عربية كانت أم انجليزية، كما غيرها من اللغات، لتزيد من حجم المصطلحات والرموز والشعارات التي تراكمت خلال سنوات الاحتلال بالاضافة الى اقتباسها وتحويرها لمصطلحات كانت تستخدم في الحروب الاستعمارية السابقة كما في الحرب الامريكية ضد فيتنام.
من بين المصطلحات شائعة الاستخدام في امريكا وبريطانيا، منذ 2003، مصطلح ‘حرب العراق’ الحامل في تركيبته اللغوية تجريد غزو العراق من عدوانيته ولا شرعيته وتقديمه باعتباره فعلا عاديا ومقبولا او حربا شنها العراق على امريكا او شارك فيها على قدم المساواة مع امريكا وبريطانيا وكل قوات ‘التحالف’. وهو ذات الاستخدام المضلل لمصطلح ‘حرب فيتنام’ المخفف لطبيعة الحرب العدوانية الامريكية ضد الشعب الفيتنامي ‘لكي لا نرى انفسنا كهمج ولكن لنرى انفسنا محاصرين من قبل همج’، كما تقول الكاتبة والصحافية الامريكية باتريشيا جونزاليز.
وتحت حملة التضليل اللغوي المنهجية ذاتها تندرج مصطلحات غزو واحتلال العراق، وابرزها: التحرير، الحرب على الارهاب، عملية حرية العراق، الارهابيون، الاسلاميون المتطرفون، المثلث السني، الشيعي المتطرف، انجاز المهمة، الصحوة، ابناء وبنات العراق، الاضرار الجانبية، الحرب الاهلية، الحرب الطائفية، المناطق المتنازع عليها والديمقراطية. وعلينا الا ننسى اطلاق الغزاة اسماء مثل ‘علي بابا’ و’حجي’ و’حجي جيرل’، احتقارا، على العراقيين.
وفي ظل حكومات الاحتلال المتعاقبة اضيفت بهارات اللغة العربية (لغة المتعاون) على الانجليزية (لغة المحتل) او تم تداخلهما بحكم الترجمة بلهجة محلية لتعكس موقف المحتل المتعجرف والمستهين بالمواطنين. فطفت على السطح مصطلحات من بينها: الانتخابات الديمقراطية، الشفافية، المصداقية، المصالحة الوطنية، حكومة الشراكة الوطنية، فرق الذئب والعقرب وسوات. فرق القوات الخاصة، فرق الرد السريع، النزاهة، اجتثاث البعث، دولة القانون، حملة الفرسان، المحاصصة الطائفية، والدستور.
يتطرق د. وميض جمال نظمي، استاذ العلوم السياسية المخضرم، في مقالة له نشرت عام 2009، الى استخدام المصطلحات ضمن معالجته لاستهداف العلماء والاكاديميين: ‘الذين بلغ عددهم 5500 عالم، في تصريح مشهور لمتحدث رسمي عن سماحة السيد علي السيستاني، ونعترف بان احصائياتنا لم تصل لمستوى هذا الرقم المرعب، ولكننا نثق بصحة معلومات السيد السيستاني.
كل هذا وقوات الاحتلال لم تقدم احدا للتحقيق عن مئات جرائم الاغتيال وحكومتنا الوطنية (حكومة الوحدة الوطنية ورائدة المصالحة ودولة القانون وشفافية الديمقراطية) لم تكشف لنا عن واحد من قتلة الاطباء والمهندسين، واساتذة الجامعات والصحفيين (بمن فيهم نقيبهم) وصولا الى الحلاقين والكناسين والخبازين لانشغالها بمطاردة (التكفيريين والبعثيين) الذين مازالوا قادرين على اختراق (اجهزة الدولة والصحوات وتفجيرات بغداد الاخيرة) على حد تصريحات (كبار المسؤولين العراقيين)’.
من بين المصطلحات التي باتت مؤشرا واضحا للموقف الفردي والحزبي من الاحتلال هو توصيف يوم احتلال بغداد في التاسع من نيسان/ابريل 2003. فمعظم ساسة ومسؤولي ‘العراق الجديد’، يصفون احتلال بغداد بانه تحرير.
ولا ادري من الذي استخدم مصطلح ‘سقوط بغداد’ لاول مرة الا انه بات مكررا من قبل الكثيرين. واضيف المصطلح الى موقع الويكيبيديا (الموسوعة الحرة) باعتباره حدثا متكررا ‘عبر التاريخ بدءا من شباط/ فبراير 1258 على يد هولاكو وانتهاء بـ ‘يوم الأربعاء 9 نيسان (أبريل) 2003، بعد أن تمكنت القوات الأمريكية من التقدم لوسط بغداد’ (لاحظوا نعومة التعبير اللغوي). وساهم موقع البي بي سي العربي، عام 2004، في تحوير المصطلحات حين أجرى حوارا حول ‘ سقوط بغداد أم تحريرها’، ملغيا في عنوانه واقعة الاحتلال ومفرغا الاحتلال، في آن واحد، من مضمونه البشع المرتبط باذهان شعوب البلاد العربية عموما.
وبينما يتساءل الشاعر العراقي فاضل السلطاني عن معنى ‘السقوط’ بالتحديد، قائلا: ‘السقوط’ ـ كما يسميه العراقيون ولا تعرف بالتحديد ماذا يقصدون، سقوط صدام أم سقوط بغداد أم الاثنين معا’، يقول الروائي زهير الهيتي (في موقع ميدل ايست اون لاين) ان الكثير من العراقيين كانوا وربما لا يزالون يربطون بين سقوط بغداد وسقوط الطاغية، ‘وهذا برأيي خطأ فادح ندفع أكلافه لحد الآن وسندفعها في المستقبل، فالنظام لم يكن بغداد وهي لم تكن يوما مجيرة باسم احد ما، ومن لا يعترف باغتصاب بغداد إما جاهل أو لغرض في نفس يعقوب’. واذا كان د. وميض نظمي جريئا في وصف اليوم بانه ‘يوم العار الوطني’، فان كتاب الحزب الشيوعي/ الليبراليين الجدد، يطلقون على غزو وتدمير العراق اما اسم حرب ‘تحرير العراق’ أو ‘التغيير’، أو ‘بعد 2003’ وهو التعبير الذي يفضل حميد مجيد، أمين عام الحزب الشيوعي، استخدامه في كافة مقابلاته، لئلا يغضب احدا. وهو ذات التعبير الذي تستخدمه قناة الحرة (المدعومة أمريكيا) في برامجها كجزء من سياسة القوة الناعمة. فبمناسبة مرور عشر سنوات على الغزو قدمت قناة الحرة برنامجا بعنوان ‘عقد من التغيير’ استضافت فيه د . مهدي الحافظ، المناضل الشيوعي، عضو سكرتارية الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وعضو رئاسة المجلس الوطني للسلم والتضامن، سابقا، ووزير التخطيط في حكومة الاحتلال الاولى لاحقا. وتجدر الاشارة هنا، تذكيرا للرفيقين الحافظ وحميد مجيد، بان يوم التاسع من نيسان، عام 1972، كان يوما مشهودا لهما، في الماضي القريب، عندما كانا ‘ضد الرجعية والامبريالية’، اذ احتفل ‘العراق والاتحاد السوفيتي، يومها، بواحد من اهم التطورات الاساسية في العلاقة بين البلدين، معاهدة الصداقة والتعاون’. فيا لها من مفارقة مضحكة مبكية، ان يتم استبدال الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي بالتعاون مع ضده الامبريالي الامريكي ‘بعد التغيير’!
لقد افرز الاحتلال، خلال العشر السنوات، ساسته ومثقفيه من العراقيين، كما عمل على تخريب الدولة ومؤسساتها مستهدفا الثروة الوطنية الحقيقية، ولا اتحدث هنا عن النفط بل عن الاكاديميين والمثقفين والعلماء والاطباء وعقول اطفاله وشبابه. ومع طبقة المنتفعين من ‘العملية السياسية’، كما تجار السوق السوداء المنتشرين اثناء الحروب والنزاعات، برزت لغة تمويهية مضللة مهمتها ستر المواقف الباطنية للمثقف والسياسي.
واذا كانت اللغة هي تجسيد الافكار ومستودع العقل البشري لاحتوائها على جوائز الماضي واسلحة فتوحات المستقبل، في ذات الوقت، كما يقول المفكر الانجليزي كولريدج، فإن حرباوية اللغة المستخدمة، لاستعمار العقل واستغباء الناس ولتبرير التخريب، ومسح التاريخ والهوية والذاكرة الجماعية، فان رد الجماهير، في انتفاضة التظاهرات والاعتصامات المستمرة، قائلين بصوت واحد ‘لن نستسلم’، واضح وضوح الشمس ولايحتاج مفسرين متفذلكين.

‘ كاتبة من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية