سلاطين الوجد: بالحب نصل إلى الحقيقة التي نريدها

خلال أسفاري المتتابعة إلى اليمن، وجدت أسماء لقرى ومدن ومناطق وأحياء، تشير إلى الحب والجسد ومشتقاتهما مثل: جبل النهدين، جزيرة النهدين، بيت بوس، وقرية الوجد. هذا ما يقوله الشاعر أحمد الشهاوي في كتابه النثري «سلاطين الوجد.. دولة الحب الصوفي» الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، ويهديه إلى أمه نوال عيسى واصفا إياها بالواجدة الأولى، وإلى ابنه أحمد مطلقا عليه صاحب الوجد، وفيه يقول كذلك إن الوجد مرحلة من مراحل الحب المتطورة، وتدل على مداومة التفكير في المحبوب، وعدم القدرة على نسيانه، ذاكرا هنا ما نُسب إلى الإمام علي بن أبي طالب: من لا وجد له لا دين له، فيما يذكر أن قيس بن الملوح قال: هل الوجد إلا أن قلبي لو دنا/ من الجمر قيد الرمح لاحترق الجمر!
بداية يُعرّف الكاتب مفردة الوجد بأنها تعني السعة ويسر الحال والحب الشديد، والمال الوفير، والحزن والقدرة الكبيرة والعثور على الضالة، بينما التواجد فيه تصنع وتباكي وتمارض وتغابي ونفاق ورياء ومحاولة إدراك وانتزاع إعجاب الناس لابتزاز مشاعرهم وأموالهم. كذلك يرى الشهاوي أن الوجد معناه الحزن، وهو صفة العارفين، ونار الشوق للطالبين، وللوجد مراتب هي التواجد والوجد، والوجود وهو المرتبة العليا والأخيرة، أما الوجدان فهو يطلق على كل إحساس أولي باللذة أو بالألم.

أصحاب السلطة الروحية

هنا أيضا يكتب الشهاوي قائلًا، إن المتصوفة هم أصحاب السلطة الروحية بسلوكهم وأفعالهم ونتاجهم الشعري أو النثري وكراماتهم الصوفية، والتصوف هو الثورة الروحية في الإسلام حسب تعبير أبي العلا عفيفي. أيضا يشير إلى أن المتصوفة استحقوا لقب سلطان، لأنهم سلاطين زمانهم، ولأن كل سلطان صوفي يرى نفسه سلطان زمانه، أو هو هكذا بالفعل، وقد وقع الصدام بينهم وبين سلاطين السياسة من خلفاء وحكام وأمراء، ولذا عاش سلاطين الصوفية تحت سيف هؤلاء المتسلطين، وكانت النتيجة المباشرة أن قُتل منهم من قتل وسُجن منهم من سجن، ومنهم من نُفي ومنهم من عُذب وأهين.
هنا يقدم أحمد الشهاوي إلى قارئ كتابه ثلاثة من سلاطين الوجد، عاش معهم زمنا طويلا ممتدا من حياته، ومع آخرين أثّروا فيه وأثْروا تجربته، وسوف يخصص لهم كتبا أخرى غير هذا الكتاب، مؤكدا أنه لا يكتب عن متصوفة يحبهم بقدر ما يكتب عن أهل له، كان لهم فضل كبير عليه منذ صباه، وهو في قريته كفر المياسرة، حيث يعلن أنه سلك الطريق الصوفي في سن مبكرة، ذاكرا أن محور هذا الكتاب ذو النون المصري، أبو بكر الشبلي، النفري، وقد رأى الكاتب أن هؤلاء كانوا سلاطين زمانهم، ولهم سطوة روحية على من عاصرهم، وكانت كلمتهم مسموعة عند الناس، لأنهم لم يتقربوا من سلطان جائر ظالم، ولم يتربحوا منه. يصف الشهاوي سلاطينه هؤلاء بأنهم رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم، لئلا تمتد إليهم عين فتشغلهم عن الله. هنا أيضا يقول الشهاوي إن الحب العذري ما هو إلا تصوف أو طريق إليه، وما الحب إلا مقام إلهي، والذات العليا للإله تتمثل في الحب، وبالمحبة يقترب الإنسان من الله، وفي الحب يعوّل المرء على القلب، أكثر مما يعول على العقل الذي قد يمثل حجابا كثيفا على الذات حين تفكر، والروح حين تشتغل، فالحب يهتك ما استتر ويكشف ما هو مخبوء أو ما هو سري.

أصل الموجودات

ما يطمئن إليه الكاتب هنا أيضا هو أن الحب الصوفي أصل وجود الحب في العالم، لأنه مظهر للحب الإلهي، لأن الحب بطبيعته أصل الموجودات، الحب المنبثق من الحقيقة والباطن، والمحبة هي من أعمال الباطن، والمتصوفة هم أهل المحبة ويُنسبون إليها، والحب عند المتصوف أسلوب حياة، ودليل المعرفة الصوفية التي تعكس حال القلوب السامية. في «سلاطين الوجد» يقول الشهاوي إن الحب منحة إلهية، وبالحب يستطيع من يحب أن يصل إلى الحقيقة المطلقة التي يريدها ويسعى إليها، ليسكن النقطة الأعلى من فردوس الروح، مثلما يقول إن المرأة مخلوق عال وكائن سام وهي مجلى من المجالي الربانية، وصورة من صور الجمال السماوي القدسي، ومن هنا يأتي تقديس المرأة في الحب. الشهاوي الذي يخبرنا هنا، ونحن نطالع ما كتبه عن سلاطين الوجد، أن الشاعر الصوفي يسلك طريق المعرفة ولا يرى طريقا غيرها، ليعبر عن بواطنه وأشواقه حين يكون في مقام الإشراق، يضيف قائلا، إن الشاعر يعيش حياته متقشفا زاهدا قانعا بما اصطادت روحه في حياته، حيث لا يبحث عن منصب أو جاه، لأنه باع كل ذلك في سبيل أن يكون سالكا في طريق روحية شائكة وشائقة وطويل مداها.

التصوف والصوفي

أحمد الشهاوي الذي يولي الحب اهتماما كبيرا، هائما في ملكوته وسماواته، يقول إن الحب هبة ومنة وعطية ومصادفة إلهية، وليس كسبا، يمكن للمرء أن يحصده أو يتحصل عليه، لكنه بذرة تسقيها السماء بمائها حتى تكبر لتصير شجرة عشق ومعرفة، فيما حين يعرّف الصوفي فيقول إنه عالم رباني تشرق روحه بالأنوار وقد تربى على علم القلوب، وعن التصوف يقول هنا إنه يفتح فيضا من المعاني الرانية، وآفاقًا معرفية لا حد لها أمام الصوفي، إذ يسلك الطريق ببصيرته المعرفية، وتنهمر الإلهامات على قلبه. هنا أيضا يكتب الشهاوي عن العارفين، عن أهل النظر، عن روحه التي تنطق عن هواها، عن وعاظ السلاطين، عمن يقتلون أهل الله، عن القتل في المساجد، وعن الموالد. كما يكتب عن ذو النون المصري، واصفا إياه بأنه رأس الصوفية، الذي زهت به مصر. وعن أبو بكر الشبلي، الذي ودع الذهب ليذهب مع الله، وعن النفري الغامض المختفي ذاكرا مقولته: الحرف خزانة الله، فمن دخلها فقد حمل الأمانة، والحرف دليل العلم والعلم معدن الحرف. بحب كتب أحمد الشهاوي في «سلاطين الوجد» عن هؤلاء الذين أحبهم وعاش معهم وعايشهم، رغم أنه لم يرهم ولم يروه، لكنه رآهم في آثارهم التي تركوها خلفهم، وفي كتاباتهم وأشعارهم وحبهم لله، وحاول هنا أن يُرينا عالمهم وحياتهم وأقوالهم وأفعالهم التي جعلتهم سلاطين خالدين في دولة الحب الصوفي.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية