لم يقل الكثير حين سألته عنها، تأمل كأسه لوهلة.. حدق في مكعبات الثلج إلتي بدأت تذوب في قاعه، ثم تجرع نصفه دفعة واحدة، وقال: «حبيبتي سنيه.. يعجبني هذا النوع من الويسكي، ما اسمه . هل يقدمون أصنافاً جيدة من السمك في هذا المطعم»؟
بلاك ليبل، أجبته: أنت من طلبته، هو نوع جيد من الويسكي، وهذا المطعم الايطالي يُعد الانواع الافضل من الأسماك المشوية، وماذا عن سنية؟
حبيبتي أجبتك، كرر الماغوط .
حبيبته هي، زوجته وأم طفلتيه والحارسة الوفية لفوضاه.. أعرف هذه الحقائق المتداولة ولكنني رغبت بالمزيد، كنت أريد من محمد الماغوط أن يفتح قلبه في تلك الليلة من عام 1999 في فيينا ويقول أكثر، عنها.. عن الشاعرة المتفردة التي كانتها حبيبته، عن دمشق، بيروت أو مصياف، لكنه لم يفعل، بل تابع طقسه الأثير متنقلاُ بين ثيمات عديدة : يلعن الفكرة التي أوجدت أجهزة الأمن تارة. يلعن أدونيس وحظه العائلي العاثر الذي جمعه به / سنية صالح هي شقيقة خالدة سعيد زوجة أدونيس/ تارة أخرى . ويكثر من الشرب والنكات البذيئة والأسئلة.
من هي سيسي، سأل الماغوط فجأة؟
حبيبتي، أجبته بسرعة وخبث، فضحك وهو يقبض على عكازه مهدداً .
حدثته عن الإمبراطورة النمساوية الشهيرة اليزابيث الملقبة بسيسي/ 1837، 1898/ بدقة واختصار: هي الروح الأجمل للامبراطورية النمساوية المجرية العريقة، صورتها الأنيقة والفاتنة، هي عكسها، عكس سطوتها وقوتها.. شاعرة، كاتبة، وقتيلة، طعنها فوضوي إيطالي في جنيف السويسرية، ولم يكن يعرف حينها بأنه قد اغتال أميرة شاعرة، وحيدة، قريبة من قلوب الناس ومغردة خارج السرب..
ــ شاعرة! قاطعني الماغوط بدهشة
ــ نعم، شاعرة، تركت العديد من القصائد واليوميات الجميلة إلتي نُشرت بعد وفاتها بعقود .
مرت سنوات عديدة على ذلك اللقاء الاستثنائي بالماغوط في فيينا، ولكن نظراته المحدقة في الفراغ حين انتهيت من الحديث عن سيسي لا تُنسى أبداً، كأني أراها الآن، حادة وحزينة، قلقة ومرتبكة، وكأن صاحبها قد استعاد في لحظه واحدة ظله الأجمل وراح يناجيه.. هل وصفت سنية صالح أمامه وأنا احكي له عن سيسي..
ربما فعلت، ولم أكن أعرف؟
وسنيه مثل سيسي، أميرة وحيدة، نقية السريرة والرغبات وعلى تواصل كثيف بأناها المتفردة، تلك الكثافة إلتي حملتها إلى مطارح وجودية عصية على الاختراق والكشف، مانحة إياها، هي الأنثى الشاعرة والمرهفة، قدرة لافتة على ولوجها والاشتباك بثيماتها المثيرة والمربكة: الحب والموت.. عزلة الكائن، والحرية البعيدة. شاعرة خجولة كانت سيسي، وشاعرة بأدوات حاذقة لم تعرف الشعرية النسوية العربية مثلها من قبل كانت سنية. ولعلها مثلها، كانت خجولة، أو مكتفية بتلك الكثافة الروحية العالية وما تخطه من وحيها. ماتت الأولى بطعنة في القلب، وماتت الثانية بين مخالب السرطان، ولكن الحكاية لم تكتمل بالموت، فالروح الشفيفة للأميرة باقية ومحلقة في الكون، مثل عذوبة هذه الروح التي أودعتها سنية هذا الفضاء اللانهائي وغابت.
هل فكر الماغوط بكل ذاك وهو يستمع لحكاية الأميرة النمساوية، هل استعاد ملامح حبيبته الجميلة وروحها السجينة وهو يكمل كأسه الثالثة ويحدق في سقف المطعم الإيطالي..
ربما فعل
في مصياف السورية ولدت سنية صالح/ 1935ـ 1985/، بين الجبال العالية المجاورة للسماء والهواء الطليق على هواه، حيث لا جدران ولا حواجز، حيث الطبيعة لم تزل في سرير الولادة، على سجيتها ونقاء صورتها البسيطة، العذبة والبسيطة وغير الخاضعة لغير شروطها الأولى التي تلتف حول فكرة واحدة، رغبة واحدة: الانعتاق.
شاعرة خجولة كانت سيسي، وشاعرة بأدوات حاذقة لم تعرف الشعرية النسوية العربية مثلها من قبل كانت سنية. ولعلها مثلها، كانت خجولة، أو مكتفية بتلك الكثافة الروحية العالية وما تخطه من وحيها.
مصياف سنيه صالح هو المرجعية إلتي لا يمكن تجاوزها عند قراءة أو دراسة النصوص الملهمة للشاعرة، فهناك تختبئ الدوافع المؤسسة لانشغالاتها النصية، كما متاعبها الروحية الصارخة، هي التي كانت طليقة في مصياف، ثم صارت سجينة في دمشق أو بيروت. غادرت سنيه مصيافها لإكمال دراستها في دمشق ثم بيروت.. غادرت الفضاء الحر إلى العمران والجدران في المدينتين. غادرت العلاقة البكر بما يوفره المكان الأول من إحالات لذيذة على الحرية وسافرت إلى أمكنة تحيل بقسوة على السجون والافق اللامرئي، حيث السماء بعيدة في دمشق، بعيدة في بيروت، ولكنها قريبة من اليد في مصياف ومشرعة أمام طيورها المحلقة بلا قيد أو شرط :
«ايها الطائر المحلق عبر الآفاق
تذكر، أن الرصاص في كل مكان
تذكرني أنا المسافرة الأبدية».
تابعت سنية دراستها وحياتها في المدن المغلقة وصارت شاعرة معروفة بحسها المختلف وغير المعتاد. ثم صارت زوجة لشاعر فوضوي سوف يعلو ظله إلى حدود ثقيلة وغير عادلة تجعل من الشاعرة المتميزة محض زوجة له، وليست الصوت النسوي الشعري الأكثر حيوية وجمالاً في وقته! سنيه صالح، هي زوجة محمد الماغوط، هكذا يُضاف إلى إسمها عادة، وهي إضافة ظالمة وماكرة تقلل من حضورها الشخصي الاستثنائي في الشعرية العربية وتجعلها (زوجة شاعر مشهور) لا أكثر! تلك ضربة ثانية وموجعة أعقبت خروجها من فضاء حريتها الأول، مصياف، إلى جدران المدن، وأوقعتها في حبائل التناقض المرعب بين ما تود أن تكونه، حرة وطليقة وشاعرة. وذاك الذي وجدت نفسها فجأة في القلب منه: زوجة وفية ومحبة لزوجها الشقي، الشهير، عالي الظل والحضور. فتراجعت خطوات، خطوات كثيرة وكئيبة، لتواصل عزف المونولوج الأثير وتكتب بألق مبدع وفريد من وحيه :
«إطوني كما تطوي أوراق الشعر
كما تطوي الفراشات ذكرياتها
من أجل سفر طويل
وأرحل إلى قمم البحار
حيث يكون الحب والبكاء
مقدسين».
في رثاء الماغوط الموجع والأخاذ لحبيبته إلتي رحلت مبكراً «سياف الورود»، نقرأ هذا الاعتذار الكاشف عن رحلة العذابات الطويلة التي مرت بها سنية صالح عبر علاقتها الإشكالية به :
«ثلاثين سنة، وأنت تحملينني على ظهرك كالجندي الجريح
وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك
أزوره متثاقلاً
لأنني لم أكن في حياتي كلها
وفياً أو مبالياً
بحب أو شرف أو بطولة».
هذا اعتذار المحب من الحبيب كما يمكن له أن يُقرأ، شفيف وموجع، ولكنه متأخر أيضاً ولا يرد الأمور إلى نصابها الطبيعي المفترض والمنتظر، ولا يخفف من الآلام التي مرت بها سنية صالح أبداً أو يبعد عنها هواجس القلق والشعور المدمر بالوحدة والصمت، ولن يعيدها إلى الحياة، لن يعيد محمد الماغوط إلى الحياة / 1934، 2006 . ولا يمنحنا، نحن القراء والنقاد وكتاب السير، حق محاكمة تلك العلاقة الطويلة بين الزوجين، الشاعر والشاعرة. فتلك حكاية أخرى قد تتكفل المذكرات التي خلفتها سنية صالح بقصها ذات يوم منتظر، وهي موجودة فعلا حسب عديد القراءات إلتي مررت بها، ومحفوظة في عهدة ابنتيهما سلافة وشام وحاملة لهذا العنوان اللافت: «سنية صالح، من أنت؟» ولكنها لم تنشر بعد؟
سنية صالح.. من أنت؟
هذا سؤال سيدة رقيقة وحائرة، سؤال الشعر والشاعرة، وهي وحدها التي تمكنت من العثورعلى إجابة ممكنة له:
«أنا الهباء
ولكنني ملكة الأسمال والأزقة
أنا الهباء
ولكن قلبي ملتقى الطرق الخرافية
أنا الهباء
ولكنني الأسلاك التي تأوي إليها الطيور المذعورة
أنا الظلام
وعندما يعبرني اللصوص والقتلة ومزيفو النقود
تقبض عليهم أحلامي».
تابع الماغوط احتساء المزيد من كؤوس الويسكي في تلك الليلة الصيفية المدهشة، بسرعة الراغب بالثمالة مرة، وببطء من يتذوق ما يحتسيه مرات: «هذا هو الاختراع الإنساني الأفضل منذ شيد نوح السفينة وحتى الآن».
وماذا عن الحب والشعر؟ سألته
«تلك اشياء تُضاف إلى طقوس الويسكي»، أجاب ضاحكاً.
وماذا عن سنية صالح، لم أكرر هذا السؤال الشقي على مسامعه حينها، ولكنني لمحت مرات ومرات ظلها في عينيه، في انحناء جسمه الثقيل، في الأصابع التي ترفع الكأس وترتعش. فلم أسأل من جديد.
ــ خذني إلى قصر سيسي غداً، قال الماغوط ونحن نتوقف لحظات أمام المطعم الإيطالي لوداعه.
سنفعل، أجبته . ثم اشرت إلى البيت الشهير والقريب من المطعم، في الجادة التاسعة من المدينة، وقلت: هذا بيت سيغموند فرويد.. هل ترغب بزيارته؟
ــ فرويد هنا وموزارت في الشارع الخلفي، بيتهوفن وريلكه.. سيسي . يا لها من مدينة عجيبة، سأرجع حتماً لزيارتها مرة أخرى، أجاب بشيء من المرح والتردد.
ولم يرجع، عاد الماغوط بعد أيام قليلة إلى دمشق ومات فيها عام 2006.. عاد إلى سنية صالح، إلى ذلك التوهج الإنساني والشعري الأخاذ، إلى الفرادة التي لم تنل حظها الصحيح من الرعاية والاهتمام.. إلى تلك الفتاة الجميلة التي غادرت مطارحها الطليقة الأولى في مصياف، حيث السماء قريبة حد الشغف، ولم ترجع يوماً إليها. لم يرجع الماغوط إلى فيينا، ولم ترجع سنية صالح إلى مصياف، ولكن الحكاية لم تكتمل بالرحيل الفاجع والمبكر للشاعرة، ولا بالرحيل المؤلم لحبيبها الكبير.. هناك العديد من الحكايات التي وجدت لكي لا تكتمل، لأن سحرها يتدفق مثل نبع أسطوري لا ينضب أو يجف، وسنية صالح واحدة من تلك الحكايات البديعة والمريرة التي وجدت لتبقى، حتى إن تراكم على أهدابها صدأ العزلة.
جميل جداً نائل، رميت على المنسيّة ابنة مصياف ضوءاً، مهما يكن خافتاً فلقد استطاعت بقامتها البهيّة أن تخترق عتمة الوقت والظلم وتتبدّى كما يليق بنجمة.
اشكرك هيفاء هنا وهناك يا صديقتي
مقال رائع يكشف الكثير لمن لم يعرف طبيعة العلاقة بين الماغوط وسنية صالح ورغم انك اختصرت ماعانته هذه الشاعرة الرقيقة فى حياتها وكيف ذبلت وانزوت على يد رجل لايختلف عن كثيرين من امثاله عندما يرتبطون بامرأة مبدعة انا اعرف الكثير وادق التفاصيل من بداية ارتباطه بها والتودد الى اختها خالدة صالح ليرتبط بها بعد طول الحاح وهكذا تحياتى لاسلوبك المثير العذب نائل وتحياتى لشخصك الجميل دائما
اهلا فاطمة العزيزة ، رأيك يفرحني يا صديقتي
مقال ممتع وتفاصيل ذات قيمة، في انتظار أن تأتي سيرة الشاعرة الحبيبة الغريبة. شكرا على هذه الإطلالة العميقة على روح شاعرة أحب رقتها المتمردة في هدوء لغتها وضجيج صمت آخر رهيب، وشكرا لأنك جعلتنا نحدق بأسئلة جديدة إلى نص الماغوط ونص سنية صالح، كما حدقت أنت إلى أحزانه وسخريته المعقدة ألما ومرحا، عن قرب. ومن الصدف أنني سأدرس هذه السنة بعض شعره وشعر سنية صالح. ولعل ما تفضلت به سيضيء قراءتي كي تتلفت إلى ذلك الذي حدث في الحياة وقاله الشعر قولا لم ينقلindicible. تحياتي ومودتي
إطلالة رائعة لمقالة دخلت في عوالم الماغوط كي تستشف منه بارقة معرفة تؤطر حياة كاتبة نظمت الشعر في كنف زوج يملك هالة ..الكلمة لا تموت صوتها يعبر دائما مسارات الحياة .أعجبني أسلوب الكاتب.