سهرات الموسيقى السيمفونية تبهج «ليالي تونس» فرق تونسية وصلت للعالمية وتمرست على هذا النمط الموسيقي

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»:  شكلت «ليلة الكبار» التي أقيمت في مسرح الأوبرا الكبير بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي بتونس العاصمة والتي ستتكرر، على ما يبدو، في عدة مسارح تونسية، أحدث مبادرة في المجال الموسيقي مع مفتتح هذه السنة الجديدة 2025. وقد أثث الحفلات الأوركسترا السيمفوني التونسي الذي نجح في جمع كبار قادة الأوركسترا ممن تألقوا في السنوات الأخيرة في هذا النمط الموسيقي وقادوا عازفيهم في حفلات ناجحة واستثنائية.

ويشكل عرض «ليلة القادة أو الكبار» لحظة من الألفة والاجتماع بين المايسترو والعازف وعاشق الموسيقى السيمفونية، وهو ما يجلب جمهور الفئة الراقية ممن يعشقون هذا الصنف الموسيقي الذي له أيضا مهرجاناته الدولية في تونس وفي مقدمتها مهرجان الجم الدولي للموسيقى السيمفونية. وتناوب على قيادة العازفين على الركح الأوبرالي خلال هذا الحفل البهيج خمسة قادة صعدوا على المنصة لتوجيه موسيقيي أوركسترا تونس السيمفوني، وهم على التوالي المايسترو شادي القرفي والمايسترو محمد المكني والمايسترو فادي بن عثمان والمايسترو محمد الرواتبي والمايسترو لطفي السعيدي.
ومن المقرر أن تتوسع هذه المبادرة الرائعة من أجل الاحتفاء بقادة أوركسترا آخرين، ولما لا مشاركة قادة آخرين عالميين كبار في هذه الحفلات يتم تكريمهم في تونس التي بدأ العالم تدريجيا يعرفها بهذا النمط الموسيقي الغريب عن تقاليدها، إضافة إلى الأنماط المألوفة النابعة من تاريخها وثقافتها وعمقها الحضاري. وقد سبق لأسماء عالمية أن حلّت بتونس لقيادة حفلات سيمفونية عالمية خصوصا في إطار فعاليات مهرجان الجم الدولي للموسيقى السيمفونية ولديها تواصل مستمر مع نظرائها في البلاد وتعبر في كل مناسبة عن رغبتها في القدوم لإحياء الحفلات وقيادة عازفي الموسيقى السيمفونية من التونسيين وغيرهم.
واقترح البعض أن يكون هذا الحفل العالمي بمناسبة حدث تونسي هام على غرار عيد الاستقلال أو عيد الجلاء، أو بمناسبة احتضان تونس لحدث سياسي أو رياضي أو فني، أو حتى بمناسبة تنظيم هذه السلسلة من السهرات الموسيقية التي ستزيد قادة الأركسترا المحليين (أو المايستروات) خبرة بالاحتكاك مع الأسماء العالمية. فجمهور العاصمة ومدن أخرى متعطش لهذا الفن الراقي باعتبار أن أهم المهرجانات المخصصة لهذا الفن يقام بالمسرح أو القصر الأثري المهيب بمدينة الجم التابعة لولاية المهدية بالوسط الشرقي للبلاد ولا يتمكن أغلب المواطنين من حضور عروضه رغم القطار المخصص للمهرجان الذي توفره الشركة التونسية للسكك الحديدية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأوركسترا السيمفوني التونسي الذي أحيا هذه السهرة الراقية هو فرقة كلاسيكية موسيقية أسّستها وزارة الشؤون الثقافية سنة 1969. وضمت الفرقة في البداية 60 عضوا وازداد هذا العدد مع الوقت، وتقوم بتنظيم حفلات سواء في إطار المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية بالجم جنبا إلى جنب مع فرق عالمية على غرار فرقة فيانا التابعة لوزارة الثقافة النمساوية وغيرها. كما تنظم هذه الفرقة عروضا بالعاصمة وذلك بمسرح الأوبرا بمدينة الثقافة أو بالمسرح البلدي، ويتم استدعاؤها من قبل عدة دول لإحياء حفلات موسيقية سيمفونية خارج تونس بعد أن نال عازفوها و«مايسترواتها» ومنشدوها و«كورالها» شهرة واسعة رغم أن هذا الصنف الموسيقي غربي بالأساس. وتبدع هذه الفرقة في عزف المقطوعات الموسيقية لمشاهير الفنانين العالميين مثل بيتهوفن وموزارت ودوفراك وأوفنباش وشهد لها كبار الموسيقيين بمهارة عازفيها وعلو كعب المنشدين المتعاملين معها على غرار الفنان التونسي حسان الدوس. كما أن لهذه الفرقة إنتاجها الخاص باعتبار أن عازفيها وقادتها ومنشدوها هم من أساتذة الموسيقى ومن خريجي المعهد العالي للموسيقى بتونس المشهود له بجودة التعليم والتدريس في المجال الموسيقي وتحظى شهاداته العلمية بالاحترام والاعتراف محليا ودوليا، وبالتالي لا تعوزهم الكفاءة للخلق والإبداع.

منافسة إبداعية

ولتونس أيضا فرقة أخرى وصلت إلى العالمية هي فرقة أوركسترا قرطاج السيمفونية التي يقودها في الوقت الحاضر المايسترو حافظ المكني، وقد افتتحت بدورها العام الجديد بعرضين بالمسرح البلدي بالعاصمة. ولقي الحفلان إقبالا جماهيريا واسعا ما جعل البعض يتحدث عن تنافس بين الفرقتين وفي مسرحين مختلفين بنفس المدينة، وكأنها مباراة في كرة القدم حامية الوطيس يصعب التكهن لمن ستكون الغلبة.
فالأولى تنسب نفسها إلى تونس، والثانية تنسب نفسها إلى قرطاج، وفي ذلك الكثير من الدلالات نظرا للتنافس التاريخي بين مدينتي قرطاج وتونس اللتين التصقتا وتداخلتا بحكم التمدد العمراني. ففي حين كانت قرطاج عاصمة البلاد قبل الإسلام، فإن مدينة تونس هيمنت في مرحلة أولى على المشهد كعاصمة لشمال تونس الحالية بعد الفتح الإسلامي، وأصبحت في مرحلة ثانية الحاضرة المهيمنة على كامل البلاد بعد تخريب غزاة بني هلال لمدينة القيروان موطن الإسلام الأول وعاصمته في تونس وفي كامل بلاد المغرب الإسلامي.
تاريخيا، تدمرت مدينة قرطاج على يد القائد الأموي حسان بن النعمان الذي نقل مركز الثقل في شمال البلاد إلى مدينة تونس غير البعيدة عن قرطاج، ومنذ ذلك التاريخ وتونس تنمو وتزدهر على حساب قرطاج. وجاء الاستقلال فأعاد لقرطاج اعتبارها فأصبحت تضم القصر الرئاسي وبدأ البعض يدعو إلى أن تتحول عاصمة البلاد مجددا إلى قرطاج، لكن مدينة تونس هي التي بقيت تهيمن على التسمية الإدارية للولاية التي تضم المدينتين وعلى كامل البلاد وبقيت قصبة مدينتها العتيقة تضم مقر رئاسة الحكومة.
وبالتالي فإن هذا التنافس بين قرطاج سيدة المتوسط في عصور ما قبل الإسلام بآثارها ومجدها الإمبراطوري التليد، وبين تونس المدينة العتيقة الإسلامية بمعالمها وعلى رأسها جامع الزيتونة المعمور وجامعته العريقة، تجسد في هذا التنافس بين الفرقتين المنتميتين إلى الولاية ذاتها. فكلاهما مبدع وله من المميزات الشيء الكثير ولا يمكن تفضيل هذا على الآخر، ولعل الحل يكمن في دمجهما في فرقة واحدة أو في إحيائهما لحفلات مشتركة مثلما اشتركت قرطاج وتونس في تسمية مطارهما الدولي في العاصمة الذي سمي مطار تونس قرطاج الدولي.
لقد أحيا أوركسترا قرطاج السيمفوني حفلين إثنين وأمتع وأطرب هواة الموسيقى الكلاسيكية والسيمفونية بمعزوفات شتراوس وجونود وأوفنباخ، مع مكافأة إضافية تتمثل في العديد من رقصات الفالس من فيينا عاصمة النمسا وأحد أهم معاقل الموسيقى الكلاسيكية. وستكون جوقة أوركسترا قرطاج السيمفونية بقيادة مراد جعلول موجودة أيضًا في أمسيات أخرى واعدة تؤثث ليالي تونس التي تشهد نشاطا سيمفونيا وكلاسيكيا لافتا وعودة إلى الموسيقى الراقية هربا من صخب التلوث السمعي التي أفرزته بعض الأنماط الحديثة المحسوبة على الموسيقى.
ولعل هذا الإقبال الجماهيري اللافت على سهرات الموسيقى السيمفونية الراقية وعلى الحفلات المتواصلة لهذا النمط الموسيقي الذي لم ينقطع مع نهاية مهرجان الجم الصيفي يقتضي اهتماما أكبر بهذا الفن الراقي من قبل سلطة الإشراف. كما يقتضي تثمين الكفاءات المحلية في هذا المجال وتشجيعها على مزيد الإنتاج والإبداع خدمة للسياحة الثقافية التي لها عشاقها ومريدوها الذين يأتونها من كل من كل شبر من أصقاع هذه الأرض.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية