سوريا الجديدة وحسابات اللاعبين

تواجه المنطقة العربية تهديدات متعددة من دول إقليمية طامعة، إلى جانب القوى الدولية المتدخلة منذ فترة ليست بالقصيرة. وأصبح مكشوفا محاولاتهم فرض مشروعات بديلة، وخطط تقسيم تقوم على تفكيك الدول العربية، وإثارة الصدامات العرقية، والاستقطاب السياسي، ونشر حالة من عدم الاستقرار، التي تعزز فرص القوى الخارجية لاختراق المجتمعات ومؤسسات الدولة، وتدميرها من الداخل والتحكم في مقدّراتها ومصادرة قرارها الوطني السيادي.
ماذا عن سوريا التي تم فيها إسقاط نظام وننتظر البدائل؟ لقد تضاربت فيها مصالح كثير من اللاعبين بشكل واضح وجلي. المحتلّ الإسرائيلي يرغب في تمتين احتلاله للجولان وربما مساحات أخرى. ونراه كيف تقدّم عشرات الكيلومترات بمجرد تراجع الجيش السوري وتخلّيه عن مواقعه، أمريكا التي تحتل شرق الفرات، تواصل نهب النفط منذ سنوات، أما تركيا فتتمسّك بدعم فصائل مسلحة بعينها على حساب الأكراد الذين تعتبرهم إرهابيين.

على صناع القرار السياسي أن يفهموا، في زمن النظام العالمي الجديد، الذي يبحث عن ملامحه، أنه خارج إطار المصالح الاقتصادية والتجارية، لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمين بالنسبة لأمريكا أو غيرها

المحتل الصهيوني استغل عدم الاستقرار والاضطراب في سوريا ومتغيراتها الداخلية لتوسيع وجوده العسكري بمرتفعات الجولان، وقصف أكثر من 100 هدف معظمها مستودعات أسلحة استراتيجية بين صواريخ وطائرات، وأمريكا أيضا دمرت حوالي 75 هدفا في سوريا. ماذا بعد؟ هل يريدونها دولة أقليات تطبيقا لتنظيرات بريجنسكي صاحب نظرية رقعة الشطرنج الكبرى، وهنري كيسنجر الذي تحدث منذ عقود عن مشاريع التقسيم في المنطقة إلى دويلات وكانتونات صغيرة متشرذمة؟ عندما يكون البديل بعد إسقاط نظام أوتوقراطي مطلق هو بدوره مرتهن بالأجندة الخارجية التركية أو الأمريكية، فهل سيحمل مشروعا وطنيا ديمقراطيا جامعا وهو لا يملك استقلاليته؟ الانتصار العسكري والسياسي ستنتهي نشوته، وسيجد من يُقدّم نفسه محررا لسوريا، مطالب المواطن السوري المنهك اجتماعيا واقتصاديا في انتظاره. ناهيك من العبء الديمغرافي المتمثل في اللاجئين السوريين، الذين ترغب تركيا في ترحيل ملايين منهم ليعودوا إلى بلدهم. هناك خياران بعد سقوط النظام الحاكم: إما بناء سوريا جديدة تستوعب الجميع، أو العودة بها إلى القرون الوسطى، فتصبح دولة فاشلة، كما هو حال نماذج أخرى في المنطقة تم فيها إسقاط الأنظمة لكن الدولة إمّا أنّها انهارت وانتشرت فيها مظاهر الفوضى والاقتتال، وإمّا زادت متاعب الشعب، ولم يحظ بأي ثمار اجتماعية أو اقتصادية ولا سياسية. المهم بالنسبة لسوريا ألا يدفع الشعب من جديد أثمانا أخرى، ويجد نفسه قد استبدل نظاما شموليا بنظام آخر أكثر شمولية وربما قروسطي. من الواضح أنه لن يُترك للسوريين وحدهم حق تقرير المصير بناء على تداخل مصالح الكثير من الدول في هذا القطر العربي، كنا نتمنّى لو أنّ المشهد الفصائلي أكثر وضوحا، وأقل اختلاطا مما هو عليه. على الأقل نفهم ما هي القوة الفعلية التي ستقود المرحلة المقبلة. فلا ننسى أنّ تنظيم الدولة المصنف إرهابيا موجود ومشارك في الأحداث: فهل بمثل هؤلاء ستُبنى الدولة؟ أنْ تُغيّر اسمك أو اسم تنظيمك تقرّبا من أمريكا لعلّها ترفعك من قائمة الإرهاب، ولكنك في الوقت ذاته تخلط بين دولة المواطنة والدولة السلطانية. وتتحدث عن أهل ذمة وعن غزو وفتح وغنائم لا عن مواطنين، ولا عن فعل وطني تحرري. بمثل هذا الفكر السياسي يصبح النظام الوطني الديمقراطي بعيد المنال، ما بالك عندما تتقاطع هذه المفاهيم مع تصريح وزير الخارجية الصهيوني عن الأقليات، وحقها في أن يكون لها وجود مستقل، في تلميح لتقسيم سوريا إلى فيدراليات معادية لبعضها، بين كرد وسنة ودروز وشيعة علويين. وهذا متأصل في الفكر الصهيوني، وإسرائيل تحبّذ أن تتعامل مع طوائف وأقليات بدل دولة أمةّ.
أشكال الانبطاح والتخاذل أمام الأمريكي الذي لعب بالمنطقة كما أراد لم تعد تطاق. وعلى صناع القرار السياسي أن يفهموا، في زمن النظام العالمي الجديد، الذي يبحث عن ملامحه، أنه خارج إطار المصالح الاقتصادية والتجارية، لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمين بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها. الجميع يبحث عن تحقيق مصالحه الخاصّة، لذلك يتم تجاهل ما يسمى المجتمع الدولي وهياكله في أكثر المناسبات، ومن أجل النفط لا تعبأ أمريكا بكيان مستقلّ، ولا بطموحات الشّعوب وحقّها في العيش بسلام أو تقرير مصيرها. لم يتراجعوا عن مخطط إعادة صياغة الأنظمة السياسية من خلال إضعاف مؤسسات الحكم المركزي، ودعم المجموعات الإثنية والمذهبية، المشروع الذي تزامن مع تبنّي الولايات المتحدة مفهوم إعادة رسم خريطة المشرق العربي وفق قاعدة التجزئة ضمن الحدود. إشكالية الهوية السياسية لدى الجمهوريات العربية بدأت منذ مطلع القرن العشرين، بفعل الاستعمار الغربي ومشاريع تقسيمه للمنطقة وفق صفقات مشبوهة. ومنذ ذلك الحين، تواجه الدول العربية مشاكل كبيرة في ترسيخ مفهوم المواطنة ضمن إطار الدولة، مقابل انتشار الأطروحات الأممية والطائفية والإثنية. ولم تحسم حتى الآن معضلة تشكل الدولة الوطنية الحديثة وفق مقومات سليمة من شأنها أن تخلّصها من مشكلة تدهور العلاقة بينها وبين مختلف فئات المجتمع، خاصة مع ارتكاز السلطة على قواعد ضيقة من الفئات القليلة المستفيدة، وذلك منذ خروج الاستعمار الغربي، وتركه الجمهوريات العربية تعاني النزاعات الحدودية، وخضوع شعوبها في الأغلب للأنظمة العسكرية الشمولية.
بلد مثل سوريا، نراه اليوم قد انقسم على نفسه سياسيا وطائفيا وإثنيا، لا نعلم أي آلية ستقود المرحلة المقبلة وتعيد اللحمة الوطنية. وماذا عن السياسة الخارجية أو الدفاعية التي ستعتمدها السلطة الجديدة لبلد على درجة كبيرة من الحساسية، من ناحية موقعه الاستراتيجي والمعادلات الإقليمية. تترصّده إسرائيل وتعتبره من دول الطوق، ومحوري ضمن أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد المخطط له أمريكيا وإسرائيليا. لا يهم الآن إن كان ما حدث هو صفقة بين ترامب وبوتين، أو غير ذلك، المهم هو سوريا والشعب السوري. لا نريد واقعا شبيها بما حدث بعد أن غزُوا العراق وأسقطوا نظامه ودمّروا الدولة، وكذلك فعلوا في ليبيا المقسمة حتى الآن. وحدة الأراضي السورية وسلامتها واستقلالها كلام نسمعه يتردد لدى قادة الاتحاد الأوروبي نرجو أن يدفعوا نحو تحقيقه فعليا، مع أنهم لم يدينوا ما تقوم به إسرائيل من انتهاك للسيادة السورية، ناهيك من حسابات بقية اللاعبين الذين يبحثون عما يناسبهم في سوريا الجديدة، اتركوا سوريا وشأنها ودعوا الشعوب تقرر مصيرها..
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية