يبدو أن النار التي تأكل ما بقي من تلك الأرض السورية وكأنها تخنقنا، نحن البعيدين، أميالاً بالمسافاتِ، البعيدين سنيناً بالذكريات. حتى أقلامنا لم تعد قادرة على اختيار بدايات نصوصنا أو مقالاتنا، عاجزة عن رسم تراتبية الصياغة، فما الجديد الذي سنذكره في نصنا الرقم واحد من بعد اللانهاية، من نصوص ليس لها دور سوى توثيق المأساة، وزيادة رصيدنا من الحزن، والسؤال عن لمَ حصل كل هذا. ماذا يحدث في سوريا.
كانت سوريا أنموذجاً للغياب، حيث كان من النادر أن يُسمع اسمها في يوميات الأخبار، نموذجاً للاستنساخ والشمولية المتشابهة، يعي الجيل الذي عايش حياة الأسد الأب الأخيرة، تلك الحقبة التي كانت فيها تشخص الأبصار أمام الشاشات، في ما لو عبر عبوراً، خبر يتحدث عن الأوضاع في سوريا، أو الحياة السورية بعيداً عن الصورة الخشبية، كدولة الممانعة والتصدي، التي دأبوا على حصر كل التاريخ السوري فيها. هذه الصورة النموذجية التي انقلبت لآلاف المرات بالمئة وثمانين درجة، حين تحولت سوريا إلى محور رئيسي للأخبار والمأساة، ثم ومع تقادم الذاكرة، إلى خبرٍ ثانوي على هامش الصفحات أو النشرات، فمع ثقل الدم فيها، باتت المادة السورية الخالية من التجديد والبائسة، في تكرار الموت والفجائع، باتت مادة مكررة ليست جاذبة للمشاهد أو القارئ، فأمسى الموت السوري سلوكاً اعتيادياً على روزنامة الشعوب، وحتى في نفسية السوري نفسه.
منذ ما يقارب العشر سنوات، وسوريا ترزح تحت رزم من المآسي والمصائب، التي لا تنتهي، ثورة عام 2011، التي تحولت وبشهادة العالم ومباركته لحرب محلية ـ عالمية مأساوية لا تشبه في انحداراتها أيا من شبيهاتها من الحروب الأهلية الأخرى. كانت بداية خروج السوريين من القمقم الشمولي إلى العالم، لكن ما لم يكن في حسبانهم أن يكون خروجهم على هيئة أفواج من النازحين، المتخذين مخيماتٍ في دول الجوار ملاجئ لهم، أو على هيئة صناديق تبرعات تمتلئ حد الحبل بسخاء المانحين والمتبرعين، التي بدورها ما لبثت أن دارت الدائرة من جديد على السوريين، بلائحة طويلة من التشكيكات وفساد اللجان والهيئات، فتتصدر صورة أخرى مقيتة عن حالهم، تشخص لها عينا المتابع، كما تدمع في كل مرة عليها عينا كل من توسم خيراً في انتفاضة، دفع فيها السوريون، ومازالوا يدفعون، أثماناً سيتسائل كل سائل، هل كان يستحق ما كان كل هذا؟ تبقى الإجابة هنا برسم الضمير، خاصة العارف بمكامن الحياة السورية قبل وبعد، فهل كانت سوريا في حاجة إلى هذه الارتدادات العنيفة، التي أودت بالدولة والمجتمع إلى مفارق طرق تاريخية، قد لا تُبقي من سوريا القديمة أي صورة سوى بعض من الرماد.
في علم النظريات ونقضها، ليس هناك من خيار ثالث، فإما الاستمرار كما كان الحال أو المضي مع موجات الجنون الشعبي المُستحق، التي ضربت تلك المنطقة، لكن يبدو أنه في الحالتين أن السوريين سيكون مصيرهم بلدا يئن من بعد الموت والحزن، يئن تحت الأزمات المتتابعة والحرائق، بلدا ليس لهم قرارٌ فيه.
هذه النيران التي تضرب المناطق الساحلية هي ليست الأولى، فمنذ فترة قريبة جداً، أي في أقل من شهرين عشرات الحرائق، غرق فيها الساحل السوري، لكن السؤال إلى متى ستحصد المأساة ذاك الوطن الذي ينازع. وفي الوقت الذي تشير فيه جميع الدراسات والتقارير العالمية إلى انهيار للحال المعيشي للسوريين، وتدهور مقومات الحياة الأساسية، تمتلئ صفحات التواصل بصور عن أزمات الخبز، وتلاصق بشري في زمن التباعد الاجتماعي – لكن الاستثنائية السورية ستشمل ضرب معايير السلامة في زمن كورونا، في الحائط ، فالتزام التباعد وارشادات السلامة، ستعني أن هناك أسرا بأكملها ستكمل يومها من دون أي دخل يكفي ما هو أصلاً في عداد الفتات.
فما بين حزن وحزن، تأتي صور الطوابير الكيلومترية في انتظار البنزين، وهي أزمة لطالما تكررت في هذا العقد الأسود، لكنها لم تكن بهذا المستوى من الهزلية بحيث أن تقف البلد المترنحة أساساً على قدمٍ واحدة، في انتظار عبور أزمة البنزين فالكهرباء فالصحة، ودائرة لا تنتهي من الأزمات المعيشية وغيرها.
بين هاتين المقاربتين يتساءل السوري ببرودٍ، ماذا جرى وما الذي يحصل لتلك البلاد؟ لمَ تحولت بين صرخةٍ وضحاها إلى مرتع للموت والحزنِ والدماء، لماذا تحول السوريون من شعب إلى طوابير من اللاجئين والنازحين؟ ولمَ تحولت آلة الموت السورية إلى خبر عابر يتجنبه السامع، خشية الوقوف أمام عجزه عن تغييره، باتت الحكاية السورية حكاية مقيتة حزينة، صفحاتها مليئة بنفاق العالم وتفضيله للحسابات المادية، على أي اعتبار بشري، الحكاية السورية هي المرآة لهذا العالم بكل قبحه وانتهازياته وتشابك المصالح السياسية على حساب الشعوب. في بلاد اللجوء كانوا يقولون بأن السوري استثناء، ويُعطى حق الإقامة تحت أي ظرفٍ كان، وكأن لسان حالهم بأننا عجزنا عن إيقاف موتكم، فهذي جائزة ترضية للناجين منكم في أراضينا. تحول السوري إلى اللاجئ رقم واحد في العالم، وربما في التاريخ. هذه النار مع روتينية مشهدها في الآونة الأخيرة، إلا أنها وضعت السوريين في حالة من الصمت أمام مشهد احتراق وطنهم المتكرر هذه المرة ليس بفعل العجز، بل بفعل الذهول. ما الذي يجري لتلك البلاد، ولمَاذا تُغتال بهذا البطء، كم مازالت ستتحمل كل هذه الفواجع، يعود السوري مرة أخرى خطوة إلى الوراء مذهولاً، فقط كي يفهم أو يستوعب كيف أن بلاده المريضة سريرياً، تأن وتحترق وتحرق معها قلوب من بقوا في هذه الحياة. لهذا العالم مصالحه ومشاريعه وبياناته عن حقوق الإنسان والحريات ومؤشرات الاقتصاد والنمو واعتباراته التي ما تلبث أن تضيق على مستوى الأمم، لكنّ هذه المأساة ستبقى تلاحقه مهما كان لهذا العالم طول البقاء، أما السوريون فلهم طول الألم، ولسوريا حقٌ علينا أن تنام بارتياح من بعد كل هذا الألم، أن تنام النوم الرحيم.. إلى حين من يخرج لينفخ فيها الروح بعيداً عن كل هذا الفتك وهذا الموت!
٭ شاعر سوري