سوريا: الوعي الطائفي الخام والقليل من السياسة

حجم الخط
1

 يجادل كثر في أن الطائفية في سوريا، ليست مثل جارتيها لبنان كما وجد تاريخيا، والعراق بعد 2003. ففي هذين البلدين، الطائفية ممأسسة، والنظام السياسي قائم على المحاصصة وتوزيع المناصب بين الجماعات. وهو ما لا يتوفر في سوريا، التي «تمتاز» بطائفية ما دون السياسة، طائفية اجتماعية، تتعلق بثقافات خاصة بالجماعات، لا تنحو منحى وعي سياسي متكامل، يتساءل باستمرار عن علاقة الجماعة بسواها ونظرتها لشكل النظام السياسي وتموضعها فيه. ويستكمل المجادلون تصورهم بأن، القوى الفاعلة في الصراع السوري، التي تفرض سطوتها على جماعاتها، استخدمت هذا النوع من الطائفية، لأغراض التعبئة والشحن، ولتحقيق مكاسب تضمن لها الاستمرارية في مواقعها.
يلاحظ أن في هذه المجادلة، إقرار بوجود الطائفية، مع تجنب لأي تسييس لها. انطلاقا من اعتبار ضمني أن التسييس هو المشكلة، وليس الطائفية في حد ذاتها، فإذا كانت الأخيرة ضمن الاجتماع، ولم تدخل ضمن السياسة، فهذا مقبول، أما تسييسها فمرفوض.

مجرد الاهتمام بالسياسة، قد يعني، بناء توازنات وتسويات ومصالحات جدية، ما يؤسس لمناخ من الثقة المفقودة تماما بين الطوائف حاليا

المدافعون عن هذا التصور، يغفلون أن إبعاد السياسة عن الطائفية، لا يخلصنا من الأخيرة، في ظل عدم توفر أطر تذوُب الطائفية، كالمؤسسات الديمقراطية والرأسمالية والمواطنة، ما يجعلنا حيال وعي طائفي خام، قوامه، تماسك العصبية داخل الطائفة، ودفاع غريزي عن الوجود، من دون أي تصورات عن الذات الجمعية وحدود علاقتها بالآخر. وجود نوع كهذا من التصورات، ليس هدفا في حد ذاته، بمعنى آخر، ليس مهما أن تتبلور الطائفة سياسيا، المهم أن تنقل هواجسها التي تدفعها للقتال إلى السياسة. غرض الأخيرة ليس بلورة الطوائف كأحزاب، وإنما تخفيف حدة العلاقات السامة بينها. ربما هناك حاجة للخروج من المعادلة الصفرية، إما طائفية مسيسة تنتج نظام محاصصة وزبائنية مقيتا، أو رفض تام لأي تسييس للطائفية. ثمة حاجة إلى قدر معقول من السياسة يخرج الطوائف من أوضاع الحرب، إلى أوضاع أخرى أقل توتراً وعنفا واضطراباً، ويتيح البحث بعلاقة كل طائفة بسوريا، وعلاقتها بالطوائف الأخرى، ونظرتها للنظام السياسي الممكن. هذا لا يعني بالضرورة الانتقال لنظام المحاصصة أو التقسيم، بل يعني تفكير الطوائف بالسياسة، بدل الغرق في الحرب. التسييس هنا، معناه نقل هواجس الجماعات من البنادق إلى النقاش السياسي. الانتباه للمسافة بين اهتمام الطوائف بالسياسة وطبيعة النظام الذي من الممكن أن ينتج عن هذا التفكير، ضروري جداً. مجرد الاهتمام بالسياسة، قد يعني، بناء توازنات وتسويات ومصالحات جدية، ما يؤسس لمناخ من الثقة المفقودة تماما بين الطوائف حاليا. التسييس ربما يساعد على نقل الخوف من الآخر، من الغريزة إلى السياسة، أي من العنف الهمجي إلى إمكانية التفاهم ولو المؤقت. أساس ذلك، الاقتناع بحاجتنا، للانتقال من المعادلات الرفضية، إلى البحث عن الممكن ومراكمة مكاسب انطلاقا من هذا الممكن. بلغة أوضح، إذ كان لدينا وعي طائفي خام غرائزي، تستثمر فيه قوى «الأمر الواقع»، من سلطة ونصرة وجيش وطني ومليشيات أخرى، لتأبيد وجودها، فالأفضل قطع الطريق على هذه القوى، ودفع الطوائف للتفكير انطلاقا من وعي مسيس، قد يفتح الباب نحو الطوائف الأخرى. وعليه، التسييس قد يساعد على الفصل بين الطوائف وممثليها الحاليين، وقد ينتج كذلك ممثلين أكثر ميلاً للسلام انطلاقا من مصلحة الطائفة نفسها.
الطائفية والسياسة، أمران متنافران، واحدة قوامها العصبية والتحريض والتعبئة والشحن ضد الآخر، وعبادة الزعيم المخلص، والثانية، النقاش والانفتاح، وإقناع الرأي العام، واختيار الممثلين عبر الانتخابات. لكن، في حالة سوريا، قد يكون بالإمكان كسر الأولى باستخدام القليل من الثانية. من دون تجاهل سؤال أساسي: ما الضمانات في أن لا تبتلع الطائفية السياسة وتتغذى عليها، وتصلب أكثر ممثلي الطوائف في مواقعهم؟ فعليا لا ضمانات لأي شيء في سوريا، في ظل انهيار جميع المشاريع، لكن التفكير بالممكن، ربما يكون أكثر جدوى من الاستسلام للمعادلات الصفرية، وتلوين الوعي الطائفي الخام بقدر من السياسة، قد يكون مدخلاً لذلك، بحيث تنقل المخاوف من وراء المتاريس، إلى تصورات متبلورة يمكن نقاشها.
كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي إيلي عبدو. لايوجد ضمانات بكل أسف! أتذكر جيدًا عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة كان يوجد وعي لابأس به لقبوله في السلطة، رغم انتماءه لطائفة هي أقلية. وأتذكر مثلًا، خلال حكم حافظ الأسد كنا شبان في المدرسة ونقول لأهلنا أن الدولة الحديثة لاتمنع أن ينتمي الرئيس لأي طائفة فنحن في العصر الحديث والدين لله والوطن للجميع، وهو شعار كانت السلطة تستغله أكثر مما تؤمن به، كان يقول أهلنا أنكم لاتمتلكون الخبرة وبما معناه أيضًا بأن السلطة ستتحول إلى طائفية. المآساة ليست فقط بأن نظام طائفي بل أسوأ بكثير فهو طائفي لمصحته وعصابة حاكمة وتستغل كل شيء من أجل استبداد الحاكم! بل لعبادة الحاكم رغم أنه متعفن في الحقيقة. نحتاج إلى دولة معاصرة إلى دولة المواطنة لكن كيف هذا هو السؤال!

اشترك في قائمتنا البريدية