شادي لويس
القاهرة ـ «القدس العربي»: «يقف مايكل جاكسون في شرفة مبنى البرلمان الروماني وسط العاصمة بوخارست، ثاني أكبر مبنى في العالم بعد البنتاغون، الذي بدأ تشاوتشيسكو بناءه على أمل أن يخطب في شرفته في الجماهير عند الانتهاء منه. يُقتل الديكتاتور قبل أن يحقق حلمه، ويقف هناك جاكسون أمام عشرات الألوف من الرومانيين، هاتفاً: هالو بودابست.. أقصد بوخارست». (رومانيا)
«في الصيف تفتح جنيف ذراعيها على اتساعهما للسياح الخليجيين، حتى تكاد العربية تصبح لغتها الأولى. تحب جنيف العرب، وهي متسامحة تجاههم كعادتها، بالطبع طالما أنهم ليسوا لاجئين، ولديهم ما يكفي لينفقوه». (سويسرا)
«تفهم الآن، لماذا نحرق البنوك كل بضعة أعوام». (الأرجنتين)
بين الكثير من المدن يتجوّل الكاتب والروائي المصري شادي لويس، ومن خلال أثر ما، في هذه المدينة أو تلك.. مبنى، ميدان، حديقة، شرفة قصر رئاسي، احتفال، تتواتر المآسي الإنسانية التي خلقتها الحروب والسياسات والديكتاتوريات. من خلال كتاب بعنوان «سياحة الموت.. كوميديا الغرباء» وهو عبارة عن مجموعة من المقالات مختارة، كُتبت في الفترة ما بين يناير/كانون الثاني 2015 وحتى 2023 من الشهر نفسه، والصادر مؤخراً عن دار صفصافة للنشر والتوزيع في القاهرة.
الكتاب ليس تدوين رحلات بالمعنى الشائع، لكنه يتمثل وجهة تاريخية وتأصيلاً لما كان وما هو قائم اليوم، والضحية الأولى هو الإنسان سيئ الحظ، الذي شاءت له الأقدار أن يدفع ثمن جنوح عقليات لا تعرف إلا سبيل مجدها الشخصي. وسنحاول استعراض بعض من هذه الحكايات ودلالتها الآن..
لعنة القومية
نبدأ من أثينا حيث لا وجود لمسجد في المدينة، رغم وجود نسبة من المسلمين، من هذه الملاحظة يتجول لويس تاريخياً بالحديث عن الحرب بين العثمانيين واليونانيين، وكيف كانت ردة الفعل على هذه الحرب، وكذا نشأة القوميات في أوروبا وانتقال الفكرة نفسها إلى العرب في ما يُعرف بـ(الثورة العربية الكبرى) ـ هي في الأصل بإيعاز من إنكلترا ـ ما ترتب عليه نفي فكرة الآخر واتخاذ كل آخر عدوا، بخلاف فكرة التعايش الإنساني بين الجنسيات والديانات والطوائف المختلفة. ومنه إلى البرتغال ـ وفق فكرة القومية نفسها ـ ومحاولة محو الآثار الإسلامية التي خلّفها المسلمون، وصولاً إلى العصر الحديث ـ عصر القوميات ـ وظلال الديكتاتورية التي زامنت الحرب العالمية الثانية، حيث المباني والصروح والنصب التذكاري، وهنا تبدو ديكتاتورية سالازار، التي يتحسر عليها الناس الآن، فرغم الفقر كانت هناك الكرامة الوطنية ـ شيء أشبه بالجيل الذي لم يزل مفتون بعبد الناصر.
سياحة التحديق في الموت
تحت هذا العنوان تأتي الرحلة إلى مدينة بوتوسي في بوليفيا، مع الاستشهاد بكتاب «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية» لإدواردو غاليانو، وكما يذكر الكاتب بأنه النافذة الأولى لهذه القارة ودولها. لتتوالى السيرة المأساوية. ستكون الانطلاقة من (متحف دار صك العملة) في المدينة، حيث على الجدران لوحات تحتفي بالانتصارات العسكرية لإسبانيا في أوروبا، ومنه يتطرق الموضوع إلى مناجم هذه المدينة ـ مناجم الموت ـ وهي التي راح ضحيتها 8 ملايين من العمال، وهم من سكان المدينة الأصليين، بحثاً عن الفضة، وحسب غاليانو «يمكن أن تبني جسراً من الفضة ليربط بين بوتوسي ومدريد. والسياحة الآن أصبحت لزيارة هذه المناجم، حيث يعمل سكان المدينة في البحث واستخراج القصدير في ظروف قاسية صحياً لا ترقي لمستوى آدمي.
الانتماء إلى العالم الحُر
يستشهد الكاتب بزيارة مايكل جاكسون إلى رومانيا، ووضع تمثال نصفي له في حديقة (هيراستراو) شمال بوخارست، إلى جوار تماثيل العديد ممن ساهموا في خلق التراث الإنساني العالمي، وأغلبهم أوروبي بالطبع. تأتي فكرة رحلة جاكسون إلى رومانيا، وإذاعة حفله الذي دار به حول العالم، في أن هذه الدولة الشيوعية في السابق أصبحت تنتمي إلى أوروبا/الغرب الآن. ومن هنا أصبحت فكرة تقديس جاكسون، تقديس التجاري كما يصف الكاتب، وبالمقابلة تسليع المقدس، وهو صك اعتراف بالانتماء إلى العالم الحُر، وبأحقية الانتساب الأوروبي الغربي. فالرأسمالية انتصرت أخيراً، ليحل نجم البوب في التقديس محل لينين وستالين وتشاوتشيسكو. وبما أننا لم نزل في بوخارست، فالأسطورة بالضرورة لا بد من أن تتحول إلى سلعة، والحديث هنا عن (دراكولا) حيث الطابور الطويل من السائحين. لكن هناك اختلافات بالفعل بين الرجل في الرواية المعهودة، وبعض الوثائق، فقد حارب إلى جانب العثمانيين تارة، وضدهم تارة أخرى، إضافة إلى أن الوثائق الرومانية تشير إليه بوصفه بطلاً قومياً ونصيراً للفقراء. فالسيرة الدموية كانت مكتوبة بلغة الامبراطورية ـ الإنكليزية ـ بخلاف اللغة الرومانية الهامشية بالمقارنة، ليتحول الدوق الروماني الهامشي في أهميته تاريخياً، إلى الأسطورة الحديثة الأكثر رعباً وتكثيفاً للشر في العالم.