«سيرة مرضية» لأشرف فياض: حياة برسم الألم

«تعبت من صفتي/ تعبت من اسمي/ تعبت من قدرتي على التحمل/ تعبت من جسدي المليء بالأخطاء/ من غضبي، من خيبتي، من ضحكي العشوائي/ من أرقي، من انتظاري الطويل، من الغبار/ من ضوء الشمس، من المطر، من أنتِ»، هكذا نتعب من التعب في هذا الديوان الأشبه بسيرة حياتية، تغصّ بالجمال رغماً عن أنه على درب الآلام من كل حدب وصوب، فهو يخاطب نفسه دائماً، سواء على شكل أنا المتكلم «أنا/ أنا»، أو «أنا/ أنتَ» المخاطب، أو «أنا/ أنتِ» المتوحدة بروحه العالقة بفكره المتألقة بخيالاته التي لا تنفك تتركه لا لتتركه بل لتعود إليه من جديد، ولو كان هو وهماً أو هي وهماً.
في حالة الأنا/ أنا يتمحور الكلام عن الموت والخسران والوقت الضائع والمصادفات السيئة وفوات الأوان، مع الوحدة قطعاً، يقول (التلف الذي أصابني/ الصباح لا يستحق المراهنة/ الصمت يؤلمني حين أسترخي/ كلماتي تتبخر بسرعة)، وفي حالة الأنا/ أنتَ يتمحور الكلام عن الأم والقمر والشروق والغروب والتثاؤب الذي يعجّ بالصدأ، والأرق الروتيني قطعاً، يقول «تكررَ السقوط بشكل مثير للشفقة/ السمع حاسة بالغة الأهمية/ تنقاد إلى غريزة التخبط/ لا تملك غير مقاومة الظلام»، وفي حالة الأنا/ أنتِ يتمحور الكلام عن الحبّ الذي كان وجماليات الجسد والحنين الكريه وتحولات الآخر التي قد تكون تحولاته هو أصلاً، يقول «الشوق عطر على جسد لم يمسسه ماء/ سأفتقدك لضخّ الدم طوال هذه المدة/ امتياز ملامسة صدرك دون عائق/ حريق ضخم في مستودع فارغ».
وقد تشتبك هذه الأنوات الثلاث: المتكلم والمخاطَب وأنثى المخاطَب، معاً في نسيج واحد، تلطخه الإجابات المنطفئة والغثيان من يوم جديد، وأن الواقع لا يُعوّل عليه، وإن بإيقاع زمني رتيب، فلم يأت الفرح بعد، والأسى من التخلي عن فكرة الصمود، والحب دائماً هو تكرار لأخطاء الماضي التي يتوقع حدوثها من جديد، ها هنا شاعر عاطل عن العمل بوقاحةٍ، لا يسامح الأرض فهي تؤثر سلباً على جهازه العصبيّ، بل تصيبه بشيخوخة مبكرة، حيث يعاني من نقص المناعة ضد الفساد السريع، وثمة حرب من صوت البكاء المتصاعد، صائحاً من فوق سطح الحياة: (دع العالم يرى).
في هذه الحبسة الطويلة، تتردد من الوحدة أشكال عدة للروائح، التوت الأرضي بطعم الحلمة، سردين الصيادين، شجر الجميز، رائحة الألم، مقياس الكراهية، كلها وغيرها لا تنفك تسري في خياله، لكأن حواسه قد تعطلت إلا حاسة الشم تقريباً، ولا تبرز من الذاكرة غير واقعية سوداوية لا تُحتمل، لكنها نعمة ولو بالنقيض، فهي شعور بالحياة وإن كان في درجة الصفر، فلا شيء يتحرك أو يتقدم أو حتى يتراجع، كلّ شيء في ثبات كالصمت الذي يأكله، في حنين بطعم الملل، لا يملك حتى رفاهية رفض الواقع، مع ذلك يستعد للرحيل، ثم يقول: «دائماً أرحل دون استعداد».
وقلب الديوان، مع أنها آخر قصيدة، هي قصيدة «جلطة دماغية»، إلا أن الشاعر يُنشد فيها حكايته على ربابة عالية التركيز، وفي رهافة عالية لا تتسنى لغيره في هذه الحياة التي تحتجز حريته، فلا يحزن حتى بشكل لائق، كما يعجز حتى عن البكاء بمرور الوقت، وسمعه يضطرب من هلاوس الحبّ الذي كان وقد لا يكون ثانية، فهو يقول «صوتكِ يخذلني، حين تمرّ ببالي التفاصيل»، فقاقيعُ إلى درجة الغليان داخل سَجن كرويّ، لا يلتزم الحيادَ معه، فما فائدة البكاء وراء زجاج سميك، ومن ثَمّ يعوي «أنا بشريّ بائس/ والحرية أمر نسبيّ»، وهو في النهاية ينحلّ أو يتحلّل إلى مجرد ذكرى، فيبتسم في أنين كمن يعاني جلطة، ويتحشرج صوته، قائلاً أمام جمهور وهميّ، بدون أن يُسقط الحائط الرابع على مسرح الحياة: «الندم يقتلني ببطء/ والوقت قد تأخر على الشفاء».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية