سيف الرحبي… ورحلة أول النهار

حجم الخط
0

يستيقظ سيف الرحبي ذات صباح بعيد ـ لا ندري أين ـ فيستيقظ العالم في رأسه كما جاء في قصيدته (من الغرفة إلى المقهى) ديوان «رأس المسافر». هكذا وجد نفسه في ذلك الصباح كل العالم بكائناته وزعيقه في رأسه، فيغادر غرفته التي تشبه كهفاً، والتي لن يعود إليها ليس لأنها مليئة بالقتلى، لكن لأن نداءً خفيا وخيطا لا مرئيا يقوده لعوالم ولفضاءات مختلفة، ليؤسس عالمه الخاص، لكنه قبل أن ينطلق يدلف المقهى ليشرب فنجان قهوته، الذي لم يكن الأخير كما فكّر، فالنهار لا يزال في أوله كما ذكر.. نهار في أوله الأزلي، نهار لا يتجاوز صبحه السرمدي، نهار ساطع لا ينقطع، ويبقى الأول هو الأول.
في أول ذلك النهار ذهب بعيدا مسافرا، ترك مرابع طفولته، فأغوته المدن وصخبها، وكانت الشرارة التي أيقظت شعريته، وأصبح كائنا مدينيا، «هكذا نشأت وهكذا كبرت» كما قال، فكانت القاهرة هي الخطوة الأولى وهي «سنوات التكوين المعرفي والعاطفي والوجداني الأولى، والبوابة نحو العالم واكتشاف الذات والآخر» وفي دمشق كانت البداية الفعلية للحياة الأدبية والإنتاج، أصدر ديوانين هما «نورسة الجنون» و»الجبل الأخضر» لينفجر الأفق والفضاءات أمامه نحو إقامات متعددة ومدن أخرى، فحمله نهاره نحو الجزائر وبيروت والمغرب وفرنسا وغيرها. وفي مقاهي هذه المدن «زمن كان المقهى فيه أكثر ملاذاً ودفئاً من البيت الذي نسكن فيه، دفء الأصدقاء والأحباب» المقاهي التي وصفها بأنها بؤرة الذكريات والهواجس والأحلام». رسم الحكاية وسطّر الكلمات، سحرته المدينة بمفرداتها بأرصفتها ومقاهيها وأنهارها، وفي محطات العالم كان يرقب ويصغي لصفير القطارات غادية أتيه. يقول: «استيقظت فرأيت القطارات تنهب عمري بخجل المسافات».
وفي ذلك النهار، الذي لا يزال في أوله فيرمي بحجر في مياه راكدة فتخرج «مجلة نزوى» التي رأس تحريرها ونفث فيها أكسير الحياة، ومدها بالهواء والفضاءات العالية. وعلى مدار ثلاثين عاما، حققت المجلة الكثير من الإنجازات على الصعيدين المحلي والعربي، وأصبحت لها مكانة مرموقة على خريطة الثقافة العربية.
مكثت يومين على متن سفينة مراكش، وهي مدة الرحلة التي تنطلق من ميناء طنجة إلى ميناء (سيت) في الجنوب الفرنسي، في هذه الرحلة كان برفقتي صديقي (أدما) من السنغال، تعرفت فيها على شخص من مدينة تطوان وأثناء الحديث معه سألني إن كنت أعرف سيف الرحبي، كان ذلك في منتصف الثمانينيات، أتذكر أيضاً بأنه حدثني عن صديق له اسمه عبد القادر الشاوي خرجت له رواية اسمها «كان وأخواتها» كتبها في المعتقل وحثّني على قراءتها إن استطعت العثور عليها، لأنها محظورة في تلك الفترة، وكي لا أنسى كتب لي على قصاصة ورق اسم الرواية وأسماء بعض الكتب.
لقاء ذلك الشخص أعاد لي الذاكرة ومعرفتي بالشاعر سيف الرحبي، فتذكرت اللقاء الذي نشر مع الشاعر في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية، الجريدة التي أحضرها صديقنا طالب موريتاني (الاشتراكي العنيد) كما كنا نطلق عليه. وأعتقد كان اللقاء في الملحق الثقافي الذي تصدره الجريدة كملحق كل إثنين. كنا في ذلك الوقت «كأننا كائنات حنين وأشواق مهما تقدم الزمن» كما قال سيف الرحبي. وبالمناسبة في تلك الفترة كانت أشهر جريدتين في المغرب هما جريدة «العلم» التي تأسست في عام 1946 عن حزب الاستقلال المغربي. وجريدة «الاتحاد الاشتراكي» التي صدرت عام 1983 عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأكثر ما يميزها صورة للشهيد عمر بن جلون الذي اغتيل عام 1975 وضعت على الصفحة الأولى. كان طلبة الجامعة منقسمين إلى قسمين، الطلبة الذين بين الجريدتين من يعتبرون أنفسهم اشتراكيين، شيوعيين وعلمانيين، وكل من يعادي الرأسمالية، وكان وقتذاك الاتحاد السوفييتي في أوج عظمته، وكان قبلة كثير من الطلبة، يقرؤون جريدة «الاتحاد الاشتراكي» وكان يكفي أن تحمل جريدة «الاتحاد الاشتراكي» لتشعر بذلك الزهو والفخر. أما من يقرأ جريدة «العلم» فهم الرأسماليون ويطلق عليهم الإمبرياليون، وكانت الجامعة تمثل مكاناً للكثير من التيارات الفكرية والسياسية، فتجد العلمانيين والإسلاميين والاشتراكيين والشيوعيين وتيارات ماركسية وقومية، لكن أكثر المجموعتين انقساماً بين الاشتراكيين والرأسماليين، وكانت ساحة الكلية هي المكان الذي يلتئم فيه الطلبة للتعبير عن غضبهم، أو فرحتهم بحدث ما، وغالبا ما تنتهي تلك الوقفات الاحتجاجية بالتصادم بين تلك التيارات ولا تنفك الصدامات إلا بتدخل رجال الأمن.
جاء مراكش وكان برفقته الإعلامي إبراهيم اليحمدي، كانا قادمين من الرباط، وكان سيف يقيم في تلك الفترة في لاهاي في هولندا، قضينا الليل في مقهى يقع على أطراف مدينة مراكش الحمراء، وعندما عدنا للبيت، وكانت قد انسحبت الأصوات وخفت الكثير من الأضواء، أتذكره عندما وقف عند مدخل المجمع السكني، وقف يتأمل ذلك الضوء الأحمر المنبعث من شقتي متأرجحاً في الظلام، وكأن المكان ليس إلا غرفة نوم كبيرة والضوء الأحمر هو ما يشعله العشاق في ليل عشقهم، ذلك الضوء المنبعث الذي لم نلحظه أنا وغيري الكثير من الأصدقاء، لكننا جميعا لم يثر احمراره انتباهنا ولا للرمزية التي يشعلها، وحده من توقف وأشار له، لا أتذكر في الحقيقة ماذا قال في حينها.
أول ديوان قرأته له كان «أجراس القطيعة» الصادر في باريس 1984. عثرت عليه بالصدفة، وكان ذلك في شقة أحد الأخوة الطلبة في الرباط، ضمن مجموعة من الكتب يبدو أن الساكن قبله قد تركها. في تلك الليلة كان مطر ورعد وكنت أقرأ الديوان إلى أن وصلت إلى قصيدة بعنوان (وعل الكلمات) ظلت كلماتها عالقة في ذهني حتى الآن. يقول في نص القصيدة:
كل ليلة أجلس على طاولة الموت أطارد وعل الكلمات.
هذا الرعد الذي يقرع نافذة الرأس،
يفصلني عنه كلب وعظام ونيازك،
اتركوني أستحم في جلبة الهلوسة
فالقصيدة امرأة
يتعشقها ثعبان في مرآة.
مرة أخرى كان طالب يدرس الأدب أحضر معه ديوان «رأس المسافر)» وأخذ يقلب صفحاته إلى أن وصل إلى علامة، ودون مقدمات وبصوته الجهوري شرع في القراءة. النص كان بعنوان (قصيدة حب إلى مطرح) كتبها سيف الرحبي عن مدينة مطرح. أخذ ذلك الطالب يقرأ النص، وعندما وصل إلى المقطع الذي يقول فيه:
هذه القلاع بقيت هكذا تحاور
أشباحاً في مخيلة طفل، حيث بنات آوى يتجولن جريحات
بين ظلالها كموت محتمل
وحيث كنا نرى عبر مسافة قصيرة
ثعباناً يختن جبلاً في مغارةٍ

طرح الديوان على سطح الطاولة، ثم وجه كلامه للحضور، فسألهم عما يعنيه الشاعر بالثعبان الذي يختن جبلاً، ومن هو الجبل ومن هو الثعبان، وما الرمزية التي أراد أن يقولها في ذلك النص؟
قصيدة (حب في مطرح) اشتهرت كثيراً أدرجت لاحقا في مقررات الثانوية العامة في سلطنة عُمان.
بين عام 1994 العام الذي صدر فيه العدد الأول من مجلة «نزوى» وفبراير/شباط 2024 العام الذي أكملت فيه المجلة ثلاثين عاماً، سنوات كانت حافلة بالعطاء والتميز والانفتاح طبعها سيف الرحبي بثقافته وعطائه وشخصيته المنفتحة وعلاقته المتجذرة ذات البعد القومي الثقافي المميز، رأينا ذلك الزخم والابتهاج والاستقبال الحافل الذي يحظى به و»نزوى» تحتفل بإتمامها العقد الثالث. يقيناً أن مجلة «نزوى» ستظل مرادفة لاسم الشاعر ولن تغادره أو تتركه وشأنه ملتصقه به. وستبقى «بوصفها أرشيف العقل العربي في صوره المختلفة: الأدبية والنقدية والفكرية والفلسفية والأرشيف هو ذلك الذي يمنح العقل ملامحه» كما وصفها أحمد البرقاوي.
أستذكر دائما حكمة قالها لي أحد الأصدقاء تقول «أحسن الوقت المناسب لمغادرة الطاولة» وعندما صدر العدد الأخير (119) من المجلة دون أن تكون بتلك الافتتاحية الباذخة التي تحمل اسمه، والتي تعودنا أن نقرأها مع كل عدد جديد، تساءل الكثيرون عن ذلك، لكن يبدو أن الشاعر ترجل عن صهوة جواده، ليستكمل نهاره كما يريد. ندرك أن إتقان فن المغادرة لا يقل أهمية عن إتقان فن الدخول، الإتقان والاختيار هو فن بذاته وعمل استراتيجي، وبالفعل فقد أحسن سيف الرحبي اختيار الوقت، وغادر الطاولة ومجلة «نزوى» في أوج تقدمها وعنفوانها لتبقى الصورة ناصعة زاهية.
يستذكر الكاتب سليمان المعمري حوار أجراه مع الشاعر عام 2006 لإذاعة سلطنة عُمان، تلك النبرة المودِّعة التي تتكرر كثيرا في تصريحاته وبعبارات مختلفة، منها مثلا قوله: إن «كل عدد يحمل معه بذور موته» ويبدو له كأنه العدد الأخير. وعن سؤاله حول مجلة «نزوى» أجاب «قد أتركها اليوم أو غدا، لكن يهمني استمرارها في سياق إبداعي عُماني، يستطيع أن يحمل أعباء هذه الرسالة إلى الخارج وأن يُكرِّس مكانة عُمان الحقيقية إبداعيّا وثقافيّا وحضاريّا». وأجاب في إطار حديثنا عن المجلة بذلك الحس المفعم بالوطنية «منجز ثقافي وطني ينبغي الحفاظ عليه». وكتبت الشاعرة الإماراتية ظبية خميس على صفحتها في فيسبوك «حين سألت سيف الرحبي عن تقاعده من مجلة نزوى الثقافية التي أسسها قال لي، آن لي أن أستريح فثلاثين عاما أكثر من كافية وقد طلب التقاعد منذ 4 سنوات وهو مرتاح لقراره، أما أنا ففكرت يا الله كيف تبخرت كل تلك العقود ومضت في غمضة عين، كأننا كنا بالأمس في لندن وباريس والقاهرة وبيروت وكلها تغيرت أيضا!».
يستريح الشاعر في شروق يومه برهة من الوقت ليدلف بعدها إلى مقاهي العالم ليجد فنجان قهوته كما تركه حاضراً موجوداً رشفة أزلية وجودية يرقب العالم من وراء الزجاج وهو يقول:
لكني موجود..
ربما أنا الآن في المقهى
أرقب العالم من وراء الزجاج
صفرة المغيب.
بقايا صداع من رحلة الأمس
سأطفئه برحلة اليوم.

كاتب عماني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية