■ مهما اختلفت أو تماثلت النظريات والبدهيات والأطروحات الفنية، في توصيف ماهية الممثل وتحديد وظائفيته وبيان دوره، يبقى الممثل من أهم العناصر في البناء الدرامي وفق تراتبية هرمية تخضع لها عملية الإنتاج المسرحي كعملية اتفاقية تركبية منتظمة، تهدف إلى المنفعة والمتعة في آن. الممثل الذي يشكل أيقونة اجتماعية تحتل حيزا في المسرح، لتصبح أيقونة فنية تعبر عن شخصية حياتية تشكل هذه الشخصية على خشبة المسرح علامة.
علم السيميولوجي
إذا كانت اللغة مجموعة إشارات تنتظم ضمن سياقات تشكل، بالتالي بصورة واعية أو لاواعية حسب التعبير السوسوري علامة، وغيرها من الوسائط الاتصالية ذات المرجعيات المختلفة التي انتظمت ضمن المنهج الحداثي في العلوم الإنسانية ــ علم السيميولوجي ــ الذي اختلفت توصيفاته بين العالم السويسري فرديناند دو سوسور (1857-1913) والعالم الأمريكي شارل ساندرس بورس (1839- 1914). سوسير الذي اعتمد الدال والمدلول والدلالة في تحليل النص والعرض، وبورس الذي اجترح الماثول بوصفه الحامل المادي للعلامة، والموضوع بتنوعاته الديناميكية والمباشرة وما بينهما المسار الخطي للمؤول، فإن سوسير وبورس اتفقا على أن علم السيميولوجيا أو السيمياء هو علم العلامات، وأن هذه العلامات تمثل انساقاً شكلية ومن ضمنها اللغة أيضاً. ما العلامة؟ وهي كما يعرّفها شاندلر في أسس السيميائية: «أصغر وحدة حاملة لمعنى ناتج عن تأليف بين عناصر الدال وعناصر المدلول، هذا التأليف يولّد دلالة العلامة». فهناك علاقة ترابطية تعاضدية تواصلية بين الإشارات ضمن منظومة النص والعرض.
النص المسرحي وإن كان مضمراً محملاً بدوال تؤدي إلى مدلولات على المستوى الذهني، إلا أنه لا تنطبق عليه اعتباطية اللغة، بل هو نص توافقي منظم واع لتشفيراته وتوصلاته.
سيميولوجيا الممثل
فالنص المسرحي وإن كان مضمراً محملاً بدوال تؤدي إلى مدلولات على المستوى الذهني، إلا أنه لا تنطبق عليه اعتباطية اللغة، بل هو نص توافقي منظم واع لتشفيراته وتوصلاته.
نص مكتوب محمل بإرشادات مسرحية وتشفيرات متماسكة تعمل التراتبية الهرمية للعرض المسرحي (المؤلف، المخرج، مصمم السينوغرافيا، المتفرج) على فك تشفيراته وترميزاته وإنتاج فواعله اللغوية والبصرية وصولاً إلى إنتاج المعنى، ذلك أن العرض منظومة علامات تشكلها أنساق لغوية وبصرية.
كما يؤكد صحة هذه المعلومة، الكاتب أحمد شرجي في كتابه «سيميولوجيا الممثل/الممثل بوصفه علامة وحامل للعلامات» بالقول «إن المسرح ظاهرة ثقافية، فهو آلية تواصلية كذلك، من خلال اشتراط بنيته الإشارية على وجود المرسل/ ممثل، والمرسل إليه/ المتفرج، غير أن العرض المسرحي كنسق سيميائي غير خاضع لمبدأ الاعتباطية، لأن شبكة علاقات عناصره المسرحية، متلازمة بين دلالاته ومدلولاته، عندها، تكون خاضعة لآلية اشتغال، وهي الآلية الخاضعة- أيضاً- لمشروطية تموضعها ضمن سياق العرض المسرحي. (شرجي أحمد، سيميولوجيا الممــثل، صفحات للنشر).
أحمد شرجي يجهد بالتعريف بالاصطلاحات المسرحية ضمن منهج السيمياء الذي شكل إضافة نوعية إلى المسرح وفنونه بتحليل النص والعرض، واصفاً مصطلح نظرية سيميولوجيا المسرح «تسعى لأن تقدم منهجاً متكاملاً لتحليل العمل المسرحي (النص والعرض) على اعتبار أن كلاً منهما يُشكل لغة متكاملة ومستقلة. وهي تبحث في المنظومات الدلالية التي تكون هذه اللغة، وفي وسائل إنتاج المعنى خلافاً للعلوم النقدية التقليدية التي تُركز على البحث عن المعنى، بحد ذاته». (بافيس، باتريس، لغات خشبة المسرح، مقالات في سيميولوجيا المسرح، ترجمة أحمد عبد الفتاح، وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي 2002) أو كما يعبر عنها ميشيل فوكو «مجموع المعارف والتقنيات التي تحاول تمييز موضع العلامات، وتحديد مايجعل منها علامات، وكذا معرفة العلاقات القائمة فيما بينها، والقوانين التي تحكم تسلسلها».
ما الممثل؟
هل هو ذلك الشخص الذي يستخدم لغة الجسد في الإيحاءات والإيماءات والإشارات والترميزات مدعمة بحوار يلقيه، يحمل موضوعات ما اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، له عوالمه واشتغالاته الخاصة والمدعمة بإرشادات المخرج وما تمليه عليه حوامل العلامات الأخرى في الديكور والملابس والإكسسوارات وفنون السينوغرافيا وغيرها؟ الممثل أيقونة (بوصفه شخصاً عادياً) قبل ولوجه الخشبة، لكنه على الخشبة يتحول لعلامة، والأخيرة ستلد علامات بوساطة الجسد تارة، وتارة أخرى، بتفاعلها مع العلامات المحمولة «الأزياء، الديكور، الموسيقى، الإضاءة، الإكسسوارات». ولكنها تموت مع العلامات التي استنفدت تأويلها زمنياً، أي عبر زمن العرض المسرحي، أو أن الممثل «رابط حي بين نص المؤلف وإرشادات المخرج من جهة، ونظر وسمع المشاهد من جهة أخرى، وهو يجسد الشخصية التي يتحقق وجودها من خلاله، هو ـ قبل كل شيء- حضور مادي، فوق الخشبة، يحقق تلك العلاقة الملموسة مع الجمهور». يبقى الممثل على اختلاف النظريات منذ المسرح الإغريقي وإلى نظريات ستانسلافسكي ومايرهولد والملحمي التغريبي بريشت وإلى نظرية المسرحي أحمد شرجي، وهو يحفر في علم السيميولوجيا وتمظهراته على خشبة المسرح مثمراً لنا نظرية «الممثل الباحث» بعد جهد جهيد وإضافة نوعية إلى فن المسرح العظيم، يبقى هذا الممثل قمة هرم الفن الدرامي.
٭ كاتب عراقي