ج، روسو: «معلّمونا الأوّلون في الفلسفة، هم أقدامنا»
لا يمكنني الحديث عن المشي دون استعادة مشهد تزعمي لمجموعة من الأطفال، ويبدو أني نجحت في إقناعهم بجاذبية الابتعاد، وكما يحدث في هذا الوقت من السنة فالسماء هادئة وتكاد تشف عن الجنة التي نوعد بها.
«الله يقيم فوق ذاك الجبل»
بهذا أقنعت الصغار، لكن الله وكلما تقدمت خطواتنا يبتعد…
تجاوزنا حدود القرية الصغيرة، فقدنا بعضا من المشاة الذين امتلكوا فجأة حسّاً واقعيّا وقرروا إيقاف المجازفة الميتافيزيقية؛ أصيبت طفلة بالذعر الذي نبّه الكلاب إلينا فراحت تتبعنا وهي تنبح. ردّها عنّا رجل عابر، ثم تحلق آخرون حولنا وتطوعوا بإعادتنا لأهالينا.
وهكذا انتهت أول وآخر رحلة مشي قمت بها لهدف.
وتعلمت الدرس: «على المشي أن يكون دون هدف، حتى لا يُنهكَ السائر ولا يستبد به اليأس».
يتحدث الفلاسفة عن أقدامهم، لكن أحداً لم يحدثنا عن الطرق، الطرق التي تتابع تقدمك فيها دون توقف، والتي لا تتضمن علامات تحذيرية! على المفارق يربض القدر. الحب مفترق طرق، العائلة، الارتباط، التخلي، إنها كناية عن الحيرة، حيرة الغريب، حيرة العابر، حين يدفعك كل شيء لإنهاء طريق طويل فتسلك دربا (حبا، عملا، زواجا، سفرا) ثم تكتشف أنك أخذت الطريق الخاطئ، البعض يحسم الأمر والبعض الآخر: لقد توغل في الغابة كثيراً، وطريق الرجوع ليس محفوفا بالمخاطر، بل طويل. فماذا ستفعل أيها الغريب؟
«ستبيع الحكمة على الدرب».
الطرق الملتوية تثير الرهبة والقلق (حب له هيئة صداقة، زواج فيه مسحة أموميّة. علاقات تلتبس فيها الحدود) هذه الطرق قد تخفي شيئا وتتطلب مهارة لفهم تقلبات الريح وهي في الغالب تنتهي بانحدار. «الطرق المنحدرة هي استعداد دائم للنكوص، لهذا نسميها: هاوية». قد نولد في الهاوية، أو منذورين لها، إنها فم مفتوح دائماً على كل الاحتمالات، وقد نألفها حتى لا نستسيغ العيش في المرتفعات، وبهذا تجد دافعاً غير مفهوم للتدمير ينبت في أعماقنا، ندمر كل ما تقع يدنا عليه، (الحب- الصداقة- العائلة- الذات) ثم نبدأ البحث من جديد عن هذه الأشياء.
التدمير هو الولع بأخذ الأشياء إلى نهايتها، فيه جاذبية السخرية مما هو أبدي ومثالي، إنها حياة قائمة على الافتتان بخط النهاية. بعض الأعمال الأدبية أيضاً فيها ما يجعلك تستعجل الوصول للنهاية، النصوص القائمة على التشويق، تجعلك تهرول خلف البطل لتعرف كيف سينتهي الأمر. أين سيذهب البطل وهل سيعود وكيف سيتعرّف إلى مصيره وموقفه إزاء هذا المصير. يتلاشى الدرب وتمحى معالمه استعجالاً لأجل الوصول، لكن ثمّة نصوص تترجل فيها من سيارتك للتنزه على القدمين، بعضها تتعمد صنع متاهة تحيط بك عبر لغة مراوغة، في هذه الأعمال تتأمل كيف يحدث هذا، وكيف صيغت هذه العبارة وهذه الجملة! هناك طرق طويلة عليك أن تقطعها وما من وعد بالوصول.
وثمة أيضاً كتابة عاجزة، مقعدة على كرسي متحرك، ينقصها الحدس العميق بالحياة لا يمكن لها أن تتقدم في العالم دون دعم مؤلفها، إنها تحتاج لدفعه دائما لها. وأخرى متجوّلة سارت كثيراً، وعانت من ألم الأقدام وشظف العيش وأشواك الطرق وحيرة المفارق، كتابة انبثقت عن تجربة الإنسان ذاته.
إن زمان المشي مهم أيضاً فلحظة الغروب، ليست كالسير لحظة احتدام الشمس، حيث تستمع بتعذيب ذاتك: لقد جمحتَ كثيراً ولا بد من ربط الفرس في الحظيرة. المشي للنسيان لتذويب الذكريات المؤلمة في الرأس، الألم الذي وقع عليك هو من يدك، الآخر لم يخذلك لقد خذلت نفسك، إذ منّيتها بوعوده. إذن الشمس خير عقاب للنسيان؛ بخلاف ذلك فالمشي فجراً هو العودة لقوة البدايات الطبيعية، لتملك المكان والشعور بسلطة الذات على الوجود وضآلتها أمام وردة تتفتح. «المشي فجراً، يردُّنا إلى حقيقتنا، يجعلنا حقيقيين».
الهرولة حين نعيش ملاحقين أشباحا تغلغلت في اللاوعي تجبرنا على أن نلهث، نكتب كما أننا نطارد أحداً أو يطاردنا، بسرعة وقوة، سلطة الموت تجعلنا نكتب كالمجانين ونركض كالمجانين. في الكتابة نحتاج الغضب، نحتاج وجهاً نسدد له اللكمات عن خيباتنا وخذلاننا، كتابة منزوع عنها الغضب هي شمعة دون شعلة، وقنبلة بلا فتيل.
بين شجيرات مزهرة ومن بين أروقة القرن الخامس قبل الميلاد يظهر أرسطو وهو يتمشى متبوعاً بتلاميذه، يتفحص العينات التي استلها من الطبيعة ووضعها على جانبي الطريق الذي يسير فيه رفقتهم، ذلك مؤثر وملهم، المعلم مع تلاميذه الذين يضبطون إيقاع المشي معه.
فالمشي الذي كشف لنيتشه عن اضطرابه كشف لروسو عن الإنسان الأول، كانط كان يحب المشي أيضاً، لكن بالنسبة للرجل الذي فتن بالسماء المرصعة بالنجوم فوق رأسه والقانون الأخلاقي في داخله، والذي كان سكان بلدته يضبطون ساعاتهم على موعد نزهته فإن الالتزام هو المشي، لذلك لا يمكن تخيله سوى مع عصا وقفازات في يديه.
يُحكَى عن فيلسوف مالطة – طاليس- أنه، بينما كان يمشي وهو يتأمل السماء المرصعة بالنجوم، أخطأ الخَطوة فهوى في بئر، وكان ذلك على مرأى خادمة انفجرت مقهقهةً. يرتبط المشي بالكتابة والفلسفة ارتباطا كبيراً، كنت أمشي لا لكي أنسى جراح مغامرة عاطفية، بل لأتأملها وأفكك من جديد الأنا الساذج الذي كنته، وبشكل هوسي كنت أقطع مسافات طويلة، ويصدف أن أسير منذ الفجر حتى مغيب الشمس حتى تتفكك الأنا التي أعرفها وتمحى. في بعض المرات سرت تحت شمس لاهبة. ولم أكن قرأت مقولة فريدريك غرو «عند المشي يفلت المرء من فكرة الهوية نفسها من الإغواء بأن يكون أحدهم».
في النادي الرياضي شعرت بسلطة ذات أخرى تأمرني كيف أتحرك وأقفز وأتنطط هنا وهناك، كنت كنبتة برية جلبت إلى مكان غريب إلى بيت كبير مضاء لكن لا يتنفس ولا يدخله الضوء. حين عدت للمشي في الحقول والشوارع والأروقة ازدهرت. ماذا يعني رجل يهرول ومم يهرب رجل يمشي بسرعة، يريد أن يحرق كمية كبرى من الدهون المتراكمة هكذا يهيئ له. لكن في العمق يريد أن ينسى! لكن شخصا يسير ببطء قد عثر على سلامه النفسي، إنه يتذوق وبحواس متفتحة كل شي من لون وصورة وحركة، إنه يهضم ببطئ ويدرك ويحب.
حين نحزن نجرّ قدمينا، وكأن الطريق وعرة، مقيدة بسلاسل لا مرئية تجبر الأقدام على السير في طريق تكرهه، وكأن حزنها ثقل لا يمكن الخلاص منه؛ وعلى النقيض فحين نفرح نسير بخطوات واسعة وقوية، حين نحب نسير وكأننا نسند توازن الكرة الأرضية، وكأننا نقطة أرخميدس. كذلك قد يمشي شعب بأكمله -هنا في هذه البلاد – وفي ظهره انحناءة من حرب العشر سنوات، المشي بكتفين متهدلتين وكأن حملاً غير مرئي فوق الظهر، القدمين تحاولان بصعوبة التقدم في الوجود، إنه عالم منهك للذات وهي تعترف باستسلامها عبر طريقتها في المشي: «ها أنا أنحني لك أيتها الهموم، ليس تواضعاً، بل كي تتكاثري وتتمددي وتأخذي راحتك فظهري واسع وقلبي ميت».
يكفي أن نتأمل في المشي كتأويلات لمعاني الوجود ورسائله وانعطافات القدر.
إن أسلوب المشي تعبير عن اللحظة الزمنية التي نعيشها، والفارق بين المشي السقراطي والجري الماراثوني عند هاروكي موراكامي، هو الحضارة التي ينتمي كل منهما إليها، الأول ينتمي لأثينا العقلانية يتأمل ويمشي ولا يركض، لكن موراكامي ابن الحضارة اليابانية التي يهرول الناس فيها كل صباح نحو أعمالهم. تشبه الكتابة عند موراكامي رياضة الجري، العدو منفرداً، اللعب الجماعي والفوز والخسارة ليس في صميمها، المنافسة وبيع الكتب ليس في صميمها، بالنسبة لعداء يومي ولعداء الماراثون لا يقع التنافس في صميم الجري إنه يتعلق ببلوغ الأهداف يكتب «إن كتابة الرواية وجري سباق الماراثون كاملا أمران متماثلان، إذ يملك الروائي دافعاً داخلياً هادئاً ولا يبحث عن قبول لما يظهر على السطح». «أنا أركض فقط، أركض في فراغ، إنني أركض للحصول على فراغ». الكثير من الكتابة يتم في تلك المساحة من السخط، رفض العالم، الغضب من سوء الحظ ومعاندة الأقدار، لم يصدف للأدب أن تحدث عن شخص محظوظ، وإن فعل ذلك فإنما كي يقدم مثالاً على حمق الظروف ولا عدالة الحياة وقسوتها.
هذه المقابلة بين الجري والأدب، توحدهما فهما لا يحتاجان لمعدات ولا الذهاب إلى أي مكان عدا المكان الذي نسلكه كل يوم، لكن بروح جديدة، يبدأ الأمر بألم في الأقدام ولهاث ونبض مضاعف ثم يعتاد المرء ذلك. المشي في الحلم دلالة على التيه، نمشي غالبا في طرق لا نعرفها، إن وصول خط النهاية ليس سوى علامة مؤقتة لا معنى لها، وبهذا فالطريق الذي نسلكه والمشاعر التي نعايشها أهم من لحظة إنهاء الكتاب. في العالم الروحي والبوذية نرى الزهد مرتبطا بالمشي، وهو طقس من طقوس التعبد، السير نحو الله بقلب عار وقدمين حافيتين. إن التجربة الأدبية هي تجربة جسدية، سقراط كان يفرض على نفسه نظاما صارما، والتعلم الروحي عند الصوفية يتطلب المعاناة التي لا تلبث أن تتحول لمتعة. يكتب أحدهم: «في الجري كما في الحياة أحيانا تكون الريح معك.. وأحيانا تكون ضدك». أمشي وأنا أسجل هذه الكلمات في جهازي المحمول، وأهديها كما أهدى موراكامي كتابه «لكل العدائين الذين صادفتهم على الطريق، وأولئك الذين مررت بهم، وأولئك الذين مروا بي، فدونكم جميعا لم أكن لأواصل الجري». أهديها لقدمي اللتين تعالجان خذلان قلبي كلما مشيت، المشي تخلٍ، ترك الأشياء تسير وظهرك للعالم إنه مستعد لتلقي الطعنات، المشي تنازل عن حصتنا من الوجود، عن ثباتنا، عن الهوية بكل ما رسب فيها، نسيان للاسم وتوهان في الفراغ الداخلي. القدمان تعرفان الطريق جيداً، في إحدى اغنيات الطفولة المشي يعني ملاحقة هدف، من يتبع الدعسوقة يصل دمشق وبتأثير من هذه الحكاية نتبعها ونغني:
«أم غزال يا أم غزال وديني عاطريق الشام»
لكن الدعسوقة تسير الهوينى، وبدلاً من أن تسلك الطريق المأمول، تتوغل بين حقول الذرة. فندرك بحدسنا الطفولي أنه لا سلطة للأغاني سوى على الخيال أما الواقع فمختلف. والجبل الذي يقيم الله فوقه كان وسيبقى أغنية بشرية والطريق نحوه أفضل من الوصول إليه..
من كتاب اليأس البهيّ *فريدريك غرو
كاتبة سورية
( أنه لا سلطة للأغاني سوى على الخيال أما الواقع فمختلف. والجبل الذي يقيم الله فوقه كان وسيبقى أغنية بشرية والطريق نحوه أفضل من الوصول إليه..).إذا كانت سلطة الأغنية فقط على الخيال…طيب هذا مقبول؛ لكن كيف في قولك: ( والجبل الذي يقيم الله فوقه كان وسيبقى أغنيّة بشرية )؟ بمعنى أنّ الله خيال؛ وهذا محال فهو أقرب إلينا من حبل الوريد…وتحسيّن فيه وبه مع كلّ نبضة قلب ونفَس يتردد بين زفيروشهيق.فالمقدّمات غير الصحيحة يا فدوى؛
لا تؤدي إلى نتائج صحيحة تترى.