شاكر نوري.. الخاتون وسرديات الزمن العراقي

تظل قراءة التاريخ مجالا لإثارة أسئلة فارقة حول علاقته بالوقائع والوثائق، وبالسرديات التي تستدعي نصوصا مجاورة، تعمل عبر المناورة والمخاتلة، والكشف عن المخفي فيه، حيث تتحول لعبة الكتابة إلى أداة استغوار عبر تلك السرديات، وعبر ما تؤديه من وظائف، على مستوى تمثيلات الهوية السردية في الحكايات والقصص، أو على مستوى تعالقها الرمزي مع سير شخصيات تلك القصص التاريخية أو المتخيلة.
ما يظهر في تلك القصص ليس حياديا، ولا بريئا، لأنه سيظل محكوما بفاعلية ما يصنعه الخطاب السردي، عبر القراءة والأيديولوجيا والمراجعة، وعبر استراتيجية الروائي في التعاطي مع تقانات فحص السيرة العراقية، ومع الجرأة في حفر ذلك المخفي من التاريخ والأنثروبولوجيا، وفضح ما يتبدى فيه من صراعات، وتمثلات إشكالية تخص الهوية السردية ووجودها، أو ما يخص علاقتها بالحدث والوثيقة، أو بالشخصية الرئيسية التي تصنع وجودها عبر الحكاية، وعبر فاعليتها في الانسحاب من التاريخ إلى السرد، لتكون الحامل النسقي لما هو رمزي ونفسي، وحتى سياسي . في رواية «خاتون بغداد» للروائي شاكر نوري الصادرة عن دار سطور، تبرز لعبة السرد، بوصفها مغامرة تأليفية، تقوم على اصطناع مجاورة سردية لذلك التاريخ، تتمثل عبر إعادة صياغة أحداثه ومروياته وشخصياته، إذ ينتزعها الروائي من السياق، ليضعها في مجرى الزمن السردي، كاشفا عما يمور به من تحولات، لها مظاهرها ووظائفها في سردنة السيرة الذاتية، وفي استنطاق ما تخفيه من أسرار ومكبوتات، تكون فيها لعبة السرد هي الدينامي الذي يكشف، ويحفر، ويسردن وجودها من خلال اصطناع نصوص موازية لما في الوثائق والوقائع والسير.. فشخصية خارقة للمألوف مثل «مس بيل» تكتسب وجودها السردي من خلال وجودها الغامض في التاريخ، والواضح في السرد، إذ يمنحها الروائي بعدا توصيفيا مركبا، تكون فيها المُحرّك للأحداث، والفاضح لكثير من المخفي في تاريخ الاحتلال الإنكليزي للعراق. التسمية/ خاتون بغداد، تتحول عبر مناصة العنوان إلى إحالة متعالية تُغذي لعبة السرد، كاشفة عن نوع من «الأنثروبولوجيا العراقية»، فصدمة الخاتون تستفز مجتمع الأفندية، مثلما تثير غرائز مجتمع الشعراء، الذين تغزلوا بها وهجوها، فضلا عن استفزازها لـ»المسكوت عنه» في يوميات النشوء السياسي لـ»المملكة»، حيث يستعير لها الروائي وظائف المؤرخ الماكر والمدون البيوغرافي السري، ليتقصى ذلك المخفي الوجودي والشخصي في حياتها وعلاقتها، بحثا عن أسرار الصراع السياسي المخفي في كواليسها الغامضة، فبقدر ما أن شخصية «مس بيل» تاريخية في وظيفتها الإدارية والسياسية، إلا أن الروائي جعل منها شخصية سردية مولدة، يتبأر عندها كثير من الأحداث، والصراعات، مثلما أعطاها زخما في تحريك صراعات ثانوية، تخص الخلاف حول شخصيتها، وحول نواياها، وحول علاقتها بالمندوب السامي والملك فيصل ولورنس، وبنشوء الدولة اليهودية في فلسطين، فضلا عن استقصاء ما يردده بعض الأفندية «في زوايا المقاهى المظلمة» عن وصفها الأنثوي والوظيفي والرمزي، لكن التعرّف على الواقع العراقي بدا هو الهاجس الذي يجعلها مثارا للجدل، حتى بدا مصيرها التراجيدي، وكأنه تورية لسيرة التراجيديا العراقية، وأن شخصيتها المثيرة لشهوة الرجال وبغضهم، ظلت خارجية ومضللة، لما يستغور في داخلها من خيبات في حياتها، وفي علاقتها العاطفية والجنسية.
اشتغلت تقانة التوازي السردي في الروائي، على التوازي الزمني، حيث تتوزع الرواية بين زمنين، الأول هو زمن الخاتون، والثاني هو زمن الراوي العليم، لكنهما يلتقيان عند صياغة متوترة لمستويات لعبة السرد، حيث تتحول شخصية الخاتون إلى بنية مولدة، تتوزع بين تمثيل أنموذجها الأيقوني والرسمي للخاتون، بوصفها المستشارة الأمنية والسكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس، وتمثيلها السردي للشخصية المتخيلة، التي تؤدي وظيفة صانع الحكايات، حيث تتكشف معها عوالم سرية، وسردية لا وثائقية، تتعلق بعلاقتها الغامضة بتنصيب الملك فيصل الأول، وبتأسيس المتحف العراقي والمكتبة الوطنية، بقضايا السياسة وموقفها من «معاهدة سايكس بيكو» و»ووعد بلفور».
تدخل هذه اللاوثائقية في سياق تحريك لعبة السرد، وفي إعطاء الراوي العليم وظيفته في عبور الزمن التاريخي إلى الزمن السرد، لحظة بدء الاحتلال الأمريكي في 9 أبريل/ نيسان 2003، حيث يستدعي الروائي شخصية نظيرة «فيرناندو فيا» خبير الآثار الفنزولي، ليكون محركا آخر للأحداث، وشاهدا على ما جرى، فيجد في علاقته الساخرة بـ»أبي سقراط» المتفرج على الأحداث، نوعا من التشبيك السردي المؤدي إلى السخرية من الزمن السياسي، عبر الأسماء والألقاب والتاريخ والمزاج العام، حيث يُخفي الحوار المسكوت عنه في التراجيديا العراقية، مثلما يخفي التاريخ كثيرا من حياة «مس بيل» ونزعتها الاستشراقية، واهتماماتها الخاصة بالشعر الصوفي وحكايات الحب والفروسية، وشغفها بالتعرف على خفايا الشخصية العراقية، فبقدر اهتمامها بالأساطير العراقية والميثولوجيات الشعبية، فإنها كانت تهتم كثيرا بكتابة المذكرات والرسائل وتأليف الكتب، وبشغف الأمومة والجنس، وبالشكل الذي انعكس على المبنى الحكائي للرواية، فجمع الروائي في سرديته بين يوميات الشخصية وعوالمها، واستغوارها للحظة العراقية، من خلال استدعاء وجودها لتمثيل الوقائع التي جاء بها الاحتلال البريطاني، وفي سخريتها من الاحتلال العثماني، ومن هروب آخر ولاته «لم يتمكن خليل باشا بكرشه المتدلي أن يأخذ حتى نساءه معه، وهو يجر ذيول الهزيمة إلى إسطنبول، الإنكليز حرروا النساء حبيبي».
هذا الاستدعاء يتحول إلى وظيفة موازية، يجعل منها الروائي إحالة رمزية لفضح يوميات الاحتلال الأمريكي عام 2003، فعمد إلى اصطناع نسيج درامي مواز، عبر لعبة سردية، تؤدي فيها شخصيات متخيلة وظائف إسنادية – يونس السيناريست، ونعمان المخرج السينمائي، وهاشم مُشغل السينما، ومنصور حارس المقبرة وفرناندو خبير المكتبات وأبو سقراط». وعلى نحوٍ يجعل من هذه اللعبة التأليفية أنموذجا للميتاسرد القائم على ربط حكاية البحث عن «المرأة الغائبة» بالخرق السردي الذي تُحدثه في زمن الرواية الكورنولوجي، حيث يستدعي الروائي عبر الزمن النفسي لهذه الشخصيات، للتعرّف على ما جرى في الواقع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي، من انتهاكات وسرقات تمثلها الروائي عبر ما هو رمزي في حرق ونهب المكتبة الوطنية والمتحف العراقي، وعلى نحوٍ جعل من السرد الموازي وكأنه شيفرة وظائفية تفضي إلى هذه الإحالات، وإلى كشف جرائم الاحتلالات، حتى تبدو أسطرة الروائي لشخصية «مس بيل» واضحة، وطهرانية، عبر الإشارة إلى أن حرق المتحف المكتبة، هما حرق لتاريخ الخاتون، مثلما يحمل معه تمثيلا كنائيا لرد تهمة الجاسوسية عنها، إذ يستدعيها الروائي لا بوصفها شخصية مغامرة أو مخاتلة أو جزءا من ذاكرة الاحتلال الإنكليزي، بل كشخصية مخذولة عاطفيا وإنسانيا، من خلال تمثيل صوتها السردي بالاعتراف «إنني قصبة مكسورة لا أصلح لشيء حتى لنفخ الريح، فكيف أعزف الألحان».

لعبة السرد والزمن الدائري..
قد تمثل سردية الاستعادة مدخلا لإعادة توصيف الزمن في الرواية، لكنها ستجد في الزمن الدائري توظيفا لترسيم مستوى الكتابة السردية، فاستهلال الرواية يبدأ من توصيف الزمن «مرت مئة عام» حيث ينعكس على مقاربة الحدث، وعلى تغليب ما هو سردي، على ما هو حقيقي بتوصيف مرسيل بروست، فيكتسب زمن الكتابة بعده الإجرائي في استعادة الحدث، وفي ضبط إيقاع الرواية، عبر تتبع علاقة أثره بالشخصية الحاضرة في الرواية، والغائبة في الواقع.
استثمر الروائي تمثيل الزمن الدائري في لعبة السرد، من خلال إعطاء شخصية «مس بيل» زخما يتجاوز زمنها الواقعي، ليجعلها شاهدا على زمن عراقي مفتوح على مواجهة انتهاكات الاحتلال والعنف، وعلى نحوٍ يكون فيه التمثيل السردي/ التخيلي هو التغطية السيميائية التي تتحرك عبر فواعلها دينامية الأحداث، من خلال تقانة الاسترجاع/ الاستعادة كزمن نفسي، يستفز القارئ، ويحرضه على البحث عن العلائق الإحالية بين زمن الشخصية، وزمن السرد، حيث يتلاعب الروائي بالزمن، من خلال توظيف رؤيته لـ»الزمن الدائري تبعا للبنية الحكائية، التي تتخذ منحى دائريا يبدأ من النهاية ويرتد إلى البداية» كما يقول طراد الكبيسي..
تمثيل الزمن في الرواية يتبدى من خلال لعبة المناوبة، حيث تتوزع الأصوات بين الراوي العالم الذي يرقب حركة الشخصية في علاقتها، وفي لحظاتها الحميمة، وفي انكسارها، وصوت الراوي الشخصي الذي يتم عبر ضمير الأنا، وهو صوت غاضب، سيّروي واعترافي، لكنه يؤدي وظيفة الشاهد والمؤرخ والسارد، وباتجاه توظيف الشخصيات الإشكالية في التاريخ السياسي العراقي، بموازاة شخصيات سردية محكمة الاختيار، لصياغة مبنى حكائي تستغرق صياغته إجراءات يعمد إليها الروائي، لوضع التاريخ أمام محاكمة السرد، ولوضع الصراع السياسي والحضاري أمام صراعات تنفر من التفاصيل، لتمنح الشخصيات والصراعات والتحولات زخما سرديا، يكون هو المجال التبئيري، الذي تلتقي عنده الواقع، ويوميات الزمن السياسي والاجتماعي العراقي..

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية