الثقافة هي مرآة عاكسة للواقع المعاش الذي أفرزته حقب تاريخية وصراعات سياسية وفكرية واقتصادية، أفضت إلى هذه الهوية غير القابلة للتغيير، إلا بنسبة ضئيلة، تبعا للتأثير المادي وحركة التاريخ، فلكل شعب ثقافته تبعا لعوامل، الجغرافية والدين والتراث، كما عبر عن ذلك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران في خطاب له عن الوحدة الأوروبية (إن الرهان على الاستثناء الثقافي، هو رهان على وحدة أمتنا، الحق لكل شعب أن تكون له ثقافته وحرية إبداعه واختيار صوره).
على امتداد العقود الخمسة الماضية، التي تمثل ذروة التمظهر الحضاري والفكري لعالم الحداثة وما بعدها، بقي العراق يعاني من تعكز هويته المعرفية والثقافية، على ثقافة السلطة وما ينتجه فكرها الشوفيني، الذي تدرج بين القومية والعشائرية والقائد الأوحد، وغُيبت وأقصيت بالقوة كل محاولة لطرح ثقافة موازية أو بديلة.. وهذا دأب معظم شعوب دول المنطقة التي رزحت تحت نير الديكتاتورية والاستبداد، وبعد زوال الصنم لم تستطيع المؤسسات الثقافية والمنظومة الفكرية، التي يدور في فلكها المثقف العراقي على اختلاف توجهاته ومشاربه أن ينتجا أمناً ثقافياً وثقافة بديلة، يمكن أن يساهما في لملمة شتات الأمة العراقية، ويعملان على صناعة فكر جديد قادر على مواجهة المرحلة الحالية، بكل إسقاطاتها وإرهاصاتها الخطيرة والمصيرية على وجودنا وقيمنا الإنسانية.
فكل منتجنا الثقافي على امتداد سنوات التغيير لم يتجاوز عقدة الماضي القريب، ولم يخرج عن الحيز الذي رسمه التعالق بين الماضي المليء بالحروب والانتكاسات والحاضر الفوضوي، الذي هيمن على العقل الجمعي لمجتمعنا العراقي، فما زالت رؤيتنا للمستقبل وللعالم المتحضر خاضعة لهذا التعالق السلبي، وغير القادر على مواجهة طوفان الثقافات الوافدة عبر وسائل الإعلام الغربية ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تمثل خطرا حقيقيا على شبابنا، المفتقدين لأي حصانة فكرية، أو اعتبارية لمواجهة هذا الغزو، الذي يساهم بشكل كبير في رسم ملامح شخصيتهم وحراكهم وعطائهم المادي والإنساني، وما زال كل منتجنا الثقافي سبباً يجتر التاريخ بحرفية مقيتة، لا تنتج غير الفرقة والتشظي والجمود الفكري، هذا الانزواء الفكري أثر سلباً في الواقع الاجتماعي والسياسي العراقي، وبالمحصلة على فئة الشباب الذين يمثلون النسبة الأكبر من الشعب العراقي، وكان مدعاة لان يلجؤوا للبحث عن منظومات فكرية بديلة، تستطيع ان تمنحهم بعض الرؤى والتصورات، عما يحصل من حولهم.
ومن هذه الخاصرة الرخوة استطاعت بعض القوى التي لا تريد الخير للعراق، من استهدافهم فكريا وثقافيا ومعرفيا، شبابنا اليوم في مهب الريح، يبنون آراءهم وتصوراتهم عن عالمنا المعاصر وعن معتقداتهم وثوابت مجتمعهم، وجميع القضايا السياسية الدولية والعربية والمحلية من وجهة نظر الاَخرين، متأثرين ببروباغندا إعلامية تخلط الغث بالسمين، ومدونين يعملون لصالح أجندات داخلية فاسدة، أو خارجية معادية، أو برامج سياسية تعتمد الفكاهة والتسطيح والابتزاز في تعاطيها مع الواقع العراقي.. نحن اليوم بحاجة إلى أمن ثقافي ينتج وعيا جمعيا عابرا للطائفة والقومية والمناطقية، وعياً قادرا على تشخيص الخلل الحاصل في البنية السياسية والاجتماعية العراقية، وله القدرة على التعاطي معها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، وعياً مستنداً إلى ثقافة نابعة من معاناتنا كشعب خاض ويلات الحروب والحصار والاحتلال والنزاعات الإثنية والعرقية، ثقافة واعدة تنظر إلى المستقبل نظرة غائية، تعنى بصناعة الإنسان، وجعله القيمة الأسمى، تحاكي الواقع برؤية وسطية براغماتية صادقة مع نفسها، بعيدة عن التناقض والنكوص، فلكل شعب خصوصيته وبيئته المعرفية التي تملي عليه حراكه وعطاءه الإنساني.. فلا ثقافة التغريب هي الحل، ولا الدين بمفهوميه (البكائي والصحراوي) هو الآخر حلاً.
كاتب عراقي