شبح التقسيم يلوح في الأفق: كيف نحمي أوطاننا؟

حجم الخط
3

بعد كل ما جرى ويجري في بلاد العرب من محيطها إلى خليجها، هل ثمة استجابة تُرتجى من قمة الملوك والرؤساء في القاهرة غداً؟ لعلني وكثرٌ غيري لا نتوقع خيراً. مع ذلك لا بدّ من إطلاق نفير الخطر المحدق بنا، تنبيهاً وتحذيراً، من دون التخلي أبداً عن مَعْقَد الأمل ومربط الرجاء: شعوب الأمة وقواها النهضوية الحيّة.
الخطرُ المحدق الزاحف هو تقسيم الأوطان والكيانات، قديمها وجديدها، بفعل قوة خارجية عظمى هي الولايات المتحدة ـ والأصح تسميتها الويلات المتحدة ــ وربيتها «إسرائيل» العدوانية التوسعية. لو لم يكن الخطر محدقاً وفاجراً لما سارع رؤساء دول عربية صديقة لأمريكا إلى استنفار سائر زملائهم لعقد قمةٍ طارئة في القاهرة. التقسيمُ واقع صارخ في ليبيا وسوريا، وخطرٌ ماثل في لبنان والعراق والسودان. لا غلّو في القول إنه بات سياسة معتمدَة في الولايات المتحدة ونهجاً معلناً في كيان الاحتلال الصهيوني. ما يُسمى «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، ما هو إلاّ عنوان لما جرى تطبيقه في ليبيا قبل سنوات معدودة، ولما جرى ويجري افتعاله في سوريا من اضطرابات طائفية واحتلالات إسرائيلية منذ بضعة أسابيع، وأن ما جرى إرساؤه من إجراءات وترتيبات تقسيمية خلال الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 بات مبعث ريبة لدى القيادات الوطنية في بغداد، وخشية من أن تعاود واشنطن العمل على تعميقها وترسيخها في المستقبل المنظور. وهل الحروب المتواصلة التي شنّتها «إسرائيل» على لبنان منذ مطالع ثمانينيات القرن الماضي، وعادت إلى تأجيجها بعد معركة طوفان الأقصى في قطاع غزة فجرَ7 أكتوبر 2023 وبلغت ذروتها خلال الشهرين الماضيين، إلاّ حلقات في سلسلة طويلة من الاعتداءات الموصولة والهادفة إلى تصديع وحدة اللبنانيين الهشة تمهيداً لتقسيم وطنهم الصغير. صحيح أن أقطار الهلال الخصيب (الكئيب) تنطوي على تعددية عميقة ومرهقة، لكن لولا العصبيات والفِتَن الطائفية التي صدّعت بنيتها، لما استطاع أصحاب وعد بلفور سنة 1916 وزبانيته المحليون توليفه على أرض الواقع خلال عشرينيات القرن الماضي. وها هي الولايات المتحدة تعاود اليوم استخدام شتى العصبيات المذهبية والإثنية والقبَلَية بغية تقسيم المقسّم لضمان سيطرتها على الأقطار العربية، التي كانت قد أسهمت في تصديع وحدتها الوطنية وتشتيت شعوبها. رافقت هذه الواقعات والتطورات صراعاتٌ ومسرحيات سياسية مضحكة مبكية في آن، ورُفعت خلالها مفاهيم وشعارات من طراز «الدفاع عن سيادة الدولة» ووجوب «احتكار الدولة للسلاح على اراضيها» في وقتٍ يجهل أو يتجاهل دعاة هذه المفاهيم والشعارات، أن لا دولة حقيقية في لبنان، بل هي عبارة عن هيكل إداري هشّ يضمّ موظفين وأجراء يُفترض بهم أن ينفذوا قوانين وضعية، لكنهم قلّما يفعلون، وإن فعل بعضهم فمقابل صفقات ينضح منها الفساد وتعبق روائح الفاسدين. آخرُ المشهديات اللافتة في هذا المضمار أن رئيس الحكومة اللبنانية الجديدة الدكتور نواف سلام الرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية، شاء أن يفتتح أعمال حكومته في اليوم التالي لنيلها ثقة وازنة في مجلس النواب، فقام بجولةٍ على مواقع للجيش وبعض القرى الأمامية على حدود لبنان مع شمال فلسطين المحتلة التي كان العدو الصهيوني قد دمّر منازلها ومرافقها الحيوية كافةً. كرّر الرئيس سلام هناك إشادةً بالجيش الذي «يقوم بواجبه» وكذلك بالقوات الأممية «اليونيفل» إلى أن قاطعه أحد القرويين قائلاً: «الجيش واليونيفل على راسي، ولكن ألا تستحق منك المقاومة شكراً أو تحيةً، وهي التي قامت وحدها، نعم وحدها، بصدّ الجيش الإسرائيلي المعتدي ومنعه من احتلال قريتنا»؟

الولايات المتحدة تعاود اليوم استخدام شتى العصبيات المذهبية والإثنية والقبَلَية بغية تقسيم المقسّم لضمان سيطرتها على الأقطار العربية، التي كانت قد أسهمت في تصديع وحدتها الوطنية وتشتيت شعوبها

صرخةُ هذا القروي الوطني الشريف تذكيرٌ للملأ بواقعةٍ مفادها، أن الجيش لم يتصدَّ للمعتدين الإسرائيليين ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأن الدولة ـ أو بالأحرى اللادولة ـ لم تسلّحه لمواجهة الجيش الإسرائيلي المدجج بأسلحة أمريكية متطورة، ولم تأمره يوماً إلاّ خلال عهد الرئيس أميل لحود، بالتصدي للعدوان أيّاً تكن التضحيات. ما كان ذلك القروي الجريء ليخاطب الرئيس سلام بتلك الصراحة، لولا أن البيان الوزاري للحكومة الجديدة وتصريحات بعض زعماء التكتلات النيابية والأحزاب اليمينية تصايحوا وأشغلوا الناس بشعارهم الداعي إلى حصر السلاح بيد الدولة (اللادولة) مترافقاً مع مطلب تجريد المقاومة من السلاح، فكيف تستطيع اللادولة مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية بجيشٍ غير مسلح، مع اعتزامها تجريد المقاومة من السلاح قبل استكمال تسليحه؟ في ضوء هذه التحدّيات والصعوبات والمسرحيات البائسة، ما العمل؟ ثمة تدابير عملية متوجّبة التنفيذ بلا إبطاء على النحو الآتي:
لبنانياً: (أ) إعطاء حكومة نواف سلام الفرصة والتسهيلات اللازمة لتنفيذ ما وعدت وتعهدت به من معالجات وإصلاحات.
(ب) دعوة القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والمصالح الضيقة والعصبيات المفرّقة إلى التضامن القوي في ما بينها بغية متابعة كل أشكال الضغوط السلمية على الحكومة، لغاية استكمال تنفيذ وعودها وتعهداتها الإصلاحية، وعدم المسّ بسلاح المقاومة قبل استكمال تسليح الجيش.
(جـ) الشروع فوراً بتنفيذ إصلاحات وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وذلك بدءاً بتنفيذ المواد المتعلقة بإنشاء مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف تنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية.
(د) تشريع قانون جديد للانتخابات يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته على أن يكون لبنان كله دائرة انتخابية واحدة.
عربياً: (أ) ارتقاء الملوك والرؤساء في قمة القاهرة إلى مستوى الأخطار المحدقة بالبلاد العربية جميعاً، والاقتناع بأن لدى بلادهم من الموارد والطاقات ذات الطابع الإستراتيجي، ما يجعل الدول الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة وحلفاءها، في مسيس الحاجة لها ما يتطلّب التخلي عن الخوف والتردّد، والشروع في استخدام سلاح المصالح لحرمان أعداء العرب من إنتاجنا النفطي وغيره من الطاقات ذات الطابع الإستراتيجي، تمثّلاً بالملك فيصل بن عبد العزيز الذي أقدم على قطع النفط عن بريطانيا وفرنسا وحلفائهما إبان حرب 1973 إلى أن رضخت لمطلب وقفها فوراً.
(ب) إدانة سياسة تهجير الفلسطينيين لإقامة مشروع «ريفييرا» سياحية في قطاع غزة، ومقاومة عمليات توسيع رقعة الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية.
(جـ) تأكيد حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وبإقامة دولة سيّدة مستقلة في أراضٍ محررة من الاحتلال الصهيوني.
(د) إدانة احتلال «إسرائيل» لكامل مناطق جنوب سوريا، والتشديد على وجوب انسحابها بلا قيد أو شرط.
إن الخوف من الولايات المتحدة وحلفائها لا يؤدي إلاّ إلى إمعانها في استضعاف الدول العربية، وابتزازها بلا هوادة. يجب أن يعي الملوك والرؤساء أن التهاون بمواجهة أمريكا وحلفائها لن يوفّر لهم السلامة وتفادي الملامة، لأن حسابهم مع القوى الوطنية النهضوية في بلادهم سيكون عسيراً ومكلفاً مهما طال الزمن.
كاتب لبناني
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد يعقوب:

    كل ألتحية وألإحترام للأستاذ ألعربى ألأصيل على هذا ألمقال ألذى أتمنى قيام ألعرب كل ألعرب رؤساء ومرؤوسين قراءته وإستيعابه والعمل به….

  2. يقول سليم:

    هذا في لبنان ولكن ماذا عن الجاره سوريا وحماقة الجديد والقديم

  3. يقول د. رامي:

    كل قاريء يمكن أن يفهم مغزى رواية دون كيشوت (دون كيخوته) حسب مستوى إدراكه ومعرفته!!!…

اشترك في قائمتنا البريدية