شبح سعدي يوسف يتبدى ويخبو في بغداد

أثير في الأسابيع القليلة الماضية جدلٌ ربما لم يكن واسعاً وعميقاً على نحو جماهيري في بغداد، وبقية أنحاء البلاد مثلما تشهد ساحات السياسة، غير أنه على الرغم من ذلك، له مساحته البسيطة والعميقة في المجتمع الثقافي العراقي، إذ تبدت روح سعدي يوسف، لتظهر سراعاً قبل ان تخبو فوق سور وقلعة المشهد الأدبي، وتلقي بعضاً من سطور قصيدة قصيرة مؤجلة لم يتبين سطورها أحد، لكنها قالت شيئاً ما بين الحلم والغيبوبة مفاده، أن شبح سعدي هذه المرة لا يمثله في الكتابة الشعرية قدر ما يفصح عن كائنية المشهد الاجتماعي ببعديه الثقافي والأدبي العراقي، إزاء الجمهور العام، وليس مستوى العلاقة مع النخب، فهذه اللمحات السريعة التي أثيرت، تعبر عن وظيفة اتصالية متعثرة لا تعنى بالعلاقة بين متكلم ومخاطب مباشرين، بل تتخذ شكلاً من التخاطر والتراسل والفهم البطيء داخل الخطاب الاجتماعي «الثقافي» المتعثر، الذي يظهر فيه سعدي الآن ويغيب، وربما تتهيأ أرواح أدباء آخرين، كما اقترح القاص محمد خضير، لتومض فوق سور وقلعة المشهد الأدبي، لتلقي بعضاً من سطور، نشأت في برزخ بين الحياة والموت، وهي كلمات مبهمة، خطرت في ذهن الشعراء والأدباء الموتى، بكل ثقل تجاربهم، فيما سيتصدى لفهمها الآخرون.
ترجع محايثات الحدث إلى متاهة هندسية في مثلث متداخل، تبدأ في زاويته المركزية الأولى الفنانة نوال السعدون عبر لوحتي بورتريت تعبيريتين، رسمتهما لوجه الشاعر سعدي يوسف، فيما استندت مرثية القاص محمد خضير للشاعر بعد موته إلى هاتين اللوحتين ليستقرئ قوسين من لونية اللوحتين، ويضيف إليهما قوساً سردياً ثالثاً يخص الكتابة، وفي إثر ذلك، يجيء المثلث الثالث في تنافذ اللوحتين ومرثاة خضير إلى كتابة محاضرة جديدة/حوارية من قبل مالك المطلبي، ربما تجمع بين تأملات الأدب والفن والحياة والموت، ليعقد الكاتب نيته في قراءتها على الأسماع عن الشيوعي الأخير.
ينتقل مالك المطلبي بمحاضرته إلى المثلث الرابع عندما يعلن اتحاد أدباء العراق عن المحاضرة/ الحوارية في صباح السبت الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، ويذكر الإعلان اسمي سعدي يوسف ومحمد خضير، دون إشارة واضحة إلى ورود ذكرهما معاً، عندها بدأت المتاهة الهندسية للمثلث المتداخل، تعيد بناءها من جديد إذ جوبه إعلان اتحاد الأدباء عن المحاضرة، بحملة رفض في وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ بها الأديب علاء المسعودي، ونالت قسطاً من الجدل والتعليقات بين التأييد والاستنكار لعدد من الأدباء والنقاد، ما جعل اتحاد الأدباء، يسد الأبواب ويعيد النظر في هذه الجلسة الخطيرة.
وما إن أعلن في بيان إلغاء الجلسة الحوارية نهائياً، حتى أعاد القاص محمد خضير نشر مرثاته لسعدي من جديد، ويطلق نداء «ويلاه» كأنه يستعير صرخة الإله ويلي القتيل كأحد قصص بدء الخليقة السومرية، حينما احتاجت الآلهة قبل الطوفان أن تقدم قرباناً لقاء انتفاضة البشر وتمهر دمه بروحهم، ويضيف هذه الروح الممهورة بالدم الإلهي أيضاً إلى النواب ورشدي العامل والسياب.
من جانبها، أعادت الناقدة فاطمة المحسن على صفحتها مقطعاً من أحد اللقاءات الفيديوية لسعدي، كانت قد أجرته قناة بي بي سي معه، وتحدث فيه عن علاقة الفنان بالآخرين، قائلاً: أنا أحاول أن أنبه الناس، مستشهداً بالشاعر الإنكليزي أودن في قوله: حين يتهم البعض الفنان بأنه يعيش في برج عاجي غير أن الغفلة لدى الآخرين هي البرج العاجي تبعاً لأودن، ويختتم الشاعر سعدي بأن على الفنان أن يطلق البوق ويدق الصنج عالياً لكي ينتبه الغافلون. هذه الاشارات وغيرها، سواء في التركيب اللغوي أو الدلالة ومن ثم التداول، لا تمثل قدراً واضحاً من العلاقة مع الآخرين- الجمهور العام- بحيث تترتب على نحو مقبول كما هو النموذج عند أودن.
إن الوظيفة الاتصالية، سوف تحقق مبتغاها إذا كان الحوار متكافئاً بين المتكلم والمتلقي العام الى حد معين، كما في نموذج أودن، أما في نموذج سعدي فلا يمكن إطلاق البوق عالياً، أو دق الصنج بأعلى منه لأن المجال الحيوي لسماع الصوت أو التنبيه، يغدو بحاجة إلى مجال زمني أوسع منه ليصل إلى المدارك، ومن ثم ينتزع الغفلة من الناس.
إنها في صيغة من تداولية متعثرة لا تعود إلى التركيب والدلالة، بل بمستوى الفضاء الاجتماعي الذي يشكل حوارية متكافئة داخل النخب الأدبية، لكنها ما إن تنتقل إلى مستوى الجمهور حتى تتخذ شكلاً من التخاطر والتراسل والعلاقة المشفرة، التي لا تظهر أبداً في لحظتها الراهنة، وتظل رسالة مؤجلة وصوتاً معبأً.
وإذا كان شبح هاملت قد ظهر تقنياً ليشكل بناء المأساة الشكسبيرية بدافع الانتقام فإن شبح سعدي، يمثل اغتراب اللقاء المؤجل للنخب التنويرية مع الخطاب الثقافي العام .
لكأنه يردد بين الحلم والغيبوبة:
هذا العراقُ الجميل
قادمٌ في الهواءِ الذي نتنفّسُ
هذا العراقُ العجيب
سوف يأتي بنا من مَـنـابِـذنا في الديارِ التي لم نُحِبّ
الديارِ التي لم تُحِبَّ ملامحَنا
وسوف نقولُ لـهُ:
أيُّهذا العراق
لم يَعُدْ في الطبيعةِ مُـتَّسَــعٌ
للفراقْ

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مؤيد داود البصام:

    نص جميل لحدث كبير ، كانت القصيدة في نهايته العلامة الكبيرة التي اراد السلطان ان يخبرنا عنها، على الرغم من انه لم يصفح عن رايه في الغاء المحاضرة ان كانت الشجاعة الفكريةالوقوف. امام مريديك او خصمك بنفس القوة، لانك تستند إلى الفكر وليس لحراك آخر.

اشترك في قائمتنا البريدية