من خلال ما أتيح لي الاطلاع عليه من مجمل التجارب الجديدة في البلاد العربية، بما في ذلك الهوامش التي حلت محل المراكز التقليدية، أستطيع أن أقول إن شعر اللحظة الراهنة يعرف دورة جمالية جديدة تضطلع بها حساسياتٌ شعريةٌ جديدةٌ يقودها وعي شاب منشق وغاضب ويائس، ومندفع إلى قول ما لا يُقال، بما اختطتْهُ هذه الحساسيات من أشكال وأطر فنية، أو أحدثته من لغات وأساليب ورؤى واختراقات جمالية مغايرة، تتناسب مع شرط الكتابة المفتوحة. في المقابل، لم يكن «جمهور» الشعر ينظر بعين الرضا إلى ما يحدث لأنه لا يُشبع ذائقته السائدة، وكانت تتعالى نبرة دعاوى القائلين إن الشعر خفت صوته وانحسر دوره، أو أنه يمر بأزمة حقيقية تهدد وجوده، أو أنه يمثل ارتدادا عما تحقق للقصيدة العربية في عصرها الذهبي الحديث.
إذا وضعنا الشعر مع غيره من الفنون، في سياق ما نعيشه من اضطرابات وموجات شك ولا يقين تمس في الصميم حساسيته التعبيرية كفلسفة وممارسة وشكل رؤية، فإنه يمكن أن نضع تلك الدعاوى في سياقها الطبيعي، لأنها لا تعكس أيديولوجيا مضادة للشعر الحديث وحسب، أو ترسخ الاعتقاد بأزمة المعنى قبل الشكل نفسه، ولكنها تحرص، قبل هذا وذاك، وقد يكون بسببهما كذلك، على أن يكون للشعر دور ووظيفة في عالمنا المعاصر، مثلما كان له ذلك في سالف الأزمنة. فالوضع الراهن الذي يحياه الشعر مغاير، وجارف ومتنبئ بالنذر والأخبار غير السارة، لهذا، لا يصح أن نتناول تعبيرات الشعر المعاصر بمعزل عن هذا الوضع المتفجر، بمنأى عن أي تقييم أخلاقي تفاضلي، يمكن القول إن شعرنا المعاصر يفتح أفقا جديدا لا عهد للشعرية العربية به، ويفرض إبدالات جديدة، ولكن وضعه كفن له التزامات وترتيبات خاصة به، لا يترك إشكالية القيمة تمر دون أن تطرح إشكالية أخرى أكبر منها.
بما أنهم يمثلون، ضمن آخرين، أصوات الجيل الأحدث في الشعر العربي، طرحت «القدس العربي» هذه الأسئلة على بعض شعراء اللحظة الراهنة: كيف تنظر إلى دور الشعر اليوم؛ ما زال له دور كما في السابق، أو يستطيع أن يحدث تغييرا من نوع ما؟ ما رأيك في من يتهمون هذا الجيل بالابتعاد عن التراث الشعري، والاهتمام بالذات وتفاصيل تجربتها الشخصية، بدلا من الواقع الاجتماعي ومشكلات الحضارة الإنسانية؟
نجاة علي (مصر): وعي ضدي بالعالم
أظنني حين انحزتُ مبكرا لاختيار هذا الشكل من الكتابة الشعرية الجديدة «قصيدة النثر»، كان هذا مرده إلى أسباب كثيرة منها أنني وجدتُه أكثر قدرة من الأشكال الشعرية الأخرى، على التعبير عن اللحظة الزمنية التي نعيشها، والتي تغيرتْ معها بالضرورة تلك الصورة الشائعة عن الشاعر القديم، الذي كان يُنْظر إليه في السابق باعتباره ذلك النبي المنتظر، الذي يمتلك اليقين ويعرف الحقائق المطلقة عن العالم. فالشاعر ـ شئنا أم أبينا- لا يمكنه أبدا أن ينفصل عن لحظته الراهنة التي يعيشها، أو يتجاهل مثلا، المتغيرات العالمية، ودخولنا إلى عالم تغيرت فيه طرائق إنتاج المعرفة الإنسانية وصار قرية كونية صغيرة، لكننا في الوقت نفسه نكتشف أنه عالم مليء بالتناقضات ومشبع بحالة من التشظي والتفكك، تتساقط فيه كل يوم النظريات الكبرى التي ادعتْ طويلا إمكانية قراءة العالم وتفسيره.
ولعلي لا أبالغ حين أقول إن القصيدة الجديدة تحديدا، تتطلب وعيا ضديا متسائلا، أكثر من غيرها من الأشكال الشعرية الأخرى السابقة عليها (القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة). ولعل أبرز سمات هذا الوعي هو أنه ينقسم على نفسه باستمرار، فيصبح ذاتا وموضوعا، ما يعني أنه يظل وعيا متوترا، فيجبر صاحبه على أن يضع أفكاره وتصوراته وقصيدته أيضا موضع التساؤل الدائم، ليخرج من أسر المفاهيم الضيقة التي تكبل الوعي وتقف حائلا ورؤية المتناقضات التي تقوم عليها بنية الوجود كله، فشاعر قصيدة النثر مضطر حينما يكتب لـ»إعادة تقييم كل القيم». وأظن أن هذا الشكل الشعري الجديد يتناسب أكثر مع مهمة الشعر ووظيفته الأساسية التي خَلُص لها أخيرا، وهي التعبير عن الذات الفردية وهموم الشاعر وأسئلته، بدلا من أن يظل محصورا في كونه الصوت الناطق باسم «الجماعة»، تلك الجماعة التي غالبا ما تنظر إلى الشعراء باعتبارهم «حماة الأعراض وحَفظة الآثار ونقلة الأخبار». أعتقد أن جماليات الشعر تراجعتْ في فترات بعينها، حين أصبح الشعر ذاته مجرد شكل لحمل المضامين الأيديولوجية التي سَلبته روحه الحقيقية، وكانت عبئا عليه لزمن طويل قبل أن يتحرر- إلى حد كبير – مع تطور القصيدة الجديدة.
سعيف علي (تونس): مركزية الأنا
الحديث عن دور الشعر كلام متجاوَز في رأيي، ولا يعني ما قد توحي به كلمة (دور) أو حتى (أدوار). فأنا مثلا، لا أفهم ما تعنيه كلمة شاعر القبيلة، أو حتى شاعر الوطن، بل إن الأمر يشعرني بالانزعاج. لا أفهم كذلك أن يسمى كتاب شعري بـ»ديوان». هل فقد الشعر راهنيته وعلاقته بالواقع وارتباطه بلحظته، أم أنه منفلت بطبعه وفق ماهيته؟ إنه أمر مركب فعلا وغير منضبط. هل يُقصد فعلا أن الشعر قد فقد منبريته وسوق عكاظه، وفقد الذين يصغون إليه. ربما هذا ما حصل، خاصة بعد أن تخلى بصورة واضحة عن السياسة. لكننا نملك اليوم قراء حقيقيين وأفذاذا. نملك كتبا وشاشات صغيرة لم يوفرها الحظ للشعراء من قبلُ. إنه أمر إحصائي يمكن البرهنة عليه. فكم كان عدد القراء المفترضين سابقا، وكم كان عدد المواطنين الذي يحسنون القراءة. إنه دون شك أقل مما هو متاح اليوم، لكن الاختلاف، أن سطوة شخصية الشاعر العظيم، أو الأستاذ أو المعلم تهاوت أمام ما قد نسميه تشظية، وتوزعه بين الأصوات في وقت محدد ومكان معين. أعني أن الشعر ينفذ وظيفته الفعلية عبر تجميعه نصوصا مفردة ومختلفة وغير متجانسة لشعراء كثيرين يدلون بشهاداتهم على زمنٍ متشظ بدوره ومتفجر سريع الوقع والإيقاع، وهم من يقومون بتغيير الأشياء.
الشعر تاريخ القصائد، وقد نجح دائما في الانفتاح والتجدد حتى داخل قاعدته التقليدية، وما يشهده اليوم هو عمل طبيعي لتطوره وانزياحه. فمصطلح (الجيل) لا يعني أبدا أنه تطوير للصور أو استنباطها… هذا أمر سطحي، فالمعاني مبثوثة – كما قال القدامى – في كل مكان، وكذلك الصور، لكن عمل الجيل الشعري هو في الاشتغال على اللغة وتطويعها حتى تناسب روحه. ليس الشعر فقط من عاد إلى مركزية الأنا، فروح العصر والتحديث عادت بدورها إلى ذات المركز وذات الأنا بعد الثورة الكوبرنيكية. هل يحتاج الشعر فعلا إلى مبارزة الرواية والقصة والسيرة في عدد المبيعات. قطعا، لا.. إنه لا يشعر بالخيبة لأنه يعبأ فقط بمداراته وبعالمه المدهش والهش، وهذا أمر عظيم.
أحمد ضياء (العراق): لا شأن لي بالحماسة
لا يحدث الشعر أي تغيير الآن على المستوى السياسي مثلا، بقدر ما يحدث تغييرا على المستوى الشخصي، بسبب تحول الشعر من المنبرية والخطابية التي اعتدنا سماعها من قبل شعراء الكلاسيكية، الأمر الذي حصره على فئة متذوقة. من هنا جاء الاهتمام بالذات وتلبية رغباتها الآنية، ولجأ الشعراء المحدثون إلى عدم تكرار ما تم قوله. إن الشعر في الوقت الراهن لم يعد شعرا مؤثرا، لانفتاح العوالم على بعضها، وخصوصا في هذه الثورة الرقمية التي نلحظها الآن، حيث أصبح المتلقي نفسه مشتتا لا يستقر على رؤية ما لتحديد خيارته أثناء تواصله مع الشعر.
في النصوص التي أكتبها لا شأن لي بالحماسة مع الجمهور، فبدأت الانفراد في تكوين نص يشبهني بعيدا عن أي فكرة دخيلة، فكل النصوص التي أمتن ذاكرة الورق فيها تحتوي على مشروعي الخاص، مبتعدا عن فكرة التناص والتوارد؛ الأمر الذي أجد أن على كل شاعر فعله حتى يكون حاضرا ضمن خطاطته المشهدية، وهو ما يسهم في بيان النصوص الجيدة من النصوص الرديئة، خصوصا في زمننا الراهن، حيث يستطيع الكل فيه أن يكتب دون توقف وبلا قيد أو شرط. المشكلة الشخصية هي مشكلات إنسانية. فالكتابة عن الحب لا تعني التفرد بها، بقدر ما يمكن نقل حيز الحب من فضاء ما إلى فضاء آخر. والكتابة عن المفخخات لا يمكن النظر إليها على أنها باب من أبواب الخصوصية لبلد او شعب ما، كذلك المعتقلات والمقابر الجماعية، هذه كلها مفاتيح لذوات إنسانية لا يمكن للشاعر أن يتجاوز الخوض فيها أو التعبير عنها ضمن السؤال الشعري العام.
عبد الجواد العوفير (المغرب): سحر اليومي
لا أرى هوة تفصل بين الأجيال الشعرية عربيا ودوليا. الشعر يلتقي في النظرة الكونية للأشياء من حوله، وإحساس الشاعر بالعزلة هو نفسه عند أي شاعر في أي مكان من العالم. الشعر ليس له دور حقيقي في التغيير ولا يمكنه ذلك. لا يمكن لزهرة أن تتحرك من مكانها، لكن الجمال الذي تبعثه في روحنا هو من يطلقنا لنغير ونحرك الأشياء من حولنا. ربما مهمة الشاعر أكبر، أن يهدم اللغة ليخلق لغة خفيفة كطائر، أن يحدث قطيعة مع المسلمات، أن يكون مشاغبا عاقلا، مدمرا بحنو كل ما يلمسه. لم يكن الشاعر الحقيقي يوما يفكر في التغيير، لأن هذه مهمة السياسي والصحافي والمناضل. الشاعر فقط يغرس إبرته العملاقة في كتف العالم.
هذا الجيل لم يبتعد عن التراث الشعري، بل ابتعد عن الماضي؛ يعني عن اللغة البالية والأفكار التي لن تساير العصر. مثلا، أعتبر والت ويتمان برهافته وعزلته الهائلة، أو عروة بن الورد، أو الشعراء المتصوفة أجدادا حقيقيين لي، الأجداد الذين يقبلون بارتداء سراويل الجينز والتجول معي في الأزقة والجلوس في المقاهي والتحديق في عيون الجميلات. لا أقبل تراثا ميتا، ومن حقي ومن حق شعراء جيلي أن يخلقوا تراثهم وتجربتهم. اليومي وما يخفيه من سحر هو صديق الشاعر، ولا ننسى أن الشعر اليوم يجب أن يستفيد ويتداخل مع العديد من الفنون مثل السينما والموسيقى والرسم، وهنا قوة قصيدة النثر الحديثة. بدورنا لا بد أن نبحث عن أساليب ولغة جديدة لكتابتها، لأن قصيدة النثر في حد ذاتها دخلت مرحلة الشيخوخة. ما زال الشاعر يقيم في مشكلات الحضارة الإنسانية، وهذه الحضارة جزء منه في حزنه وأفراحه الصغيرة، لكن لغته التي يعبر بها عن ذلك قد لا تكون مسموعة ومفهومة، هي لغة سقوط المطر وهبوب ريح خفيفة.
محيي الدين جرمة (اليمن): لا حاجة إلى شهادة تسنين
حينما أنجزت أنطولوجيا «خيال يبلل اليابسة» (2007)، عن جيل التسعينيات الذي يعد أصفى وأبهى جيل شعري في اليمن، أشرت إلى طبيعة التغايرات في رؤى الشعراء وتجاربهم التي اتسمت بطابع الاختلاف لا التشابه. فكل شاعر أو شاعرة من هذه التجارب، استطاع الخروج من عبء التنظير الأجيالي لمن سبقوه وإرث الصراعات الأيديولوجية، إلى أفق البحث عن مناطق وصيغ جديدة من أرض الشعر. ويبقى أن الشعر أقله كما أرى، مثله كالصمت وفلسفة الصمت والعزلات الخضراء. فوحده الصمت من يستطيع الكلام دون ان يجرؤ على إسكاته أحد. كذلك الشعر أو الشاعر كلاهما لا يحتاج في آخر المطاف إلى شهادة تسنين من أحد. ذلك أن الشعر فريد عزلاته، لكونه يمثل خيارا جماليا للفرد بقدر ما يستدعي الذائقة الجمعية والكونية لتأثيرات وتحليقات وانزياحات لا يستطيعها سوى الشعر الحقيقي. ولا يعني أن الشعر منبت كلية عن وجودات ما حوله من الحيوات والأشياء والعناصر، غير أنه ليس كائنا طفيليا. فالشعر ليس معنيا بالتغيير بالمعنى السياسي الزائف والمباشر والنمطي، والممل والتثويري والمنبري، بل إن التغيير في الشعر يكمن في الإبقاء على دهشة القراءة الأولى والصورة الأولى والولادة الأولى المتجددة والخطفة الأولى والجاذبية الأولى تماما، كما يبقي الشاعر في اتساق رؤاها على موقف الإنسان من الفن والحياة.
إن من يتهمون التجارب التي تحفر بمغازل الشعر وجمالياته، سواء لدى هذا الجيل او ذاك، بالابتعاد عن التراث الشعري، هم أنفسهم طبول حرب ومحض إمعات وأصداء وترجيعات تقليدية لطبول غيرهم: فالبردوني والجواهري يمثلان آخر قلاع الكلاسيكية الحديثة، والبردوني بقي نفسه البردوني والجواهري كذلك الجواهري، لكنهم تركوا خلفهم آلاف الشعراء وطبول العمود، في حين انزوت قصيدة النثر إلى عزلاتها الخضراء وعزلات شاعرها، وأخلصت بعض تجاربها لحفريات ورؤى جوانية، ألصق بتجربة توثيق سيرة الذات والأمكنة، والبحث عن رؤى جديدة داخل ما يبدو للعمى الشعري عند البعض أنه شكل واحد مستغلق على ذاته. مع ذلك تجدر الإشارة إلى أن كثيرين ممن يكتبون القصيدة الحديثة من وجهة نظر استهلاكية، يدفعهم الاستسهال إلى حد الغثيان. لا يعدو ما يكتبونه عبارة عن قصيدة نثر عمودية، وانثيالات وغنائيات مفرطة. ولكن يبقى لقصيدة النثر تجاربها التي تفضي إلى اشتغالات مختلفة، وتمتلك رؤى وتذهب إلى حقول وطرق ومناطق جديدة، وتختط أساليب خاصة بها، وتروض اللغة والنصوص. من صلب تجاربها ورؤاها ومختبرات لحظتها وشعريتها الفارقة في الزمن، تتماس في امتداد المحلي والكوني عبر تاريخ الخيال الشعري الإنساني.
كاتب مغربي
موضوع غاية في الأهمية.الشعر الراهن يعيش مخاضا عسيرا.شكرا لاستاذنا الفاضل الدكتور عبد اللطيف الوراري.فخورة كوني طالبتك.