حتما لن يسقط من الذاكرة العربية والإسلامية أبدا، ذلك الموقف المشرف لدولة جنوب افريقيا حيال المأساة الإنسانية في قطاع غزة، عندما تطوعت – وهي الدولة التي عانت كثيرا ويلات العنصرية – وأخذت على عاتقها مهمة إدانة الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة الإبادة الجماعية في القطاع.
الاحتلال لا يعرف سوى لغة القوة، ولن يرضخ لأية قرارات دولية تعرقل له مشروعه، ولن يرغمه على وقف إطلاق النار سوى استمرار المقاومة وإفشال مشروع التهجير
لم تكن أمتنا تنتظر النتائج الرسمية لهذه الجهود المشرفة، لكي تعرب عن امتنانها لهذه الدولة الافريقية، خاصة أنها فعلت ما لم تفعله أية دولة عربية كانت أحق بتبني هذه المساعي، فيحسب لجنوب افريقيا أنها أوقفت الاحتلال للمرة الأولى موقف المتهم أمام المجتمع الدولي. حققت هذه الدعوة إنجازا تاريخيا غير مسبوق ضد الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن أعلنت محكمة العدل الدولية اختصاصها في الدعوى المقدمة، وأخذها بعين الاعتبار الأدلة التي قدمتها جنوب افريقيا بوجود نية ارتكاب الإبادة الجماعية.
وأصدرت المحكمة حزمة من الأوامر التي تفرض على الكيان الإسرائيلي اتخاذ إجراءات لمنع ومعاقبة التحريض المباشر على الإبادة الجماعية في حربها على القطاع، وقالت رئيسة المحكمة القاضية الأمريكية جوان دونوغو، خلال كلمتها في جلسة الجمعة الماضية: «على إسرائيل أن تتخذ كل الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال، ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية». إلى هنا يتقدم كل فرد في الأمة العربية والإسلامية بالشكر إلى جنوب افريقيا على جهودها المتفردة، ولكن.. رغم حالة التفاؤل التي عمت أرجاء الأمة، بأنها بداية جيدة لها ما بعدها من إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى عزلة الكيان الإسرائيلي، إلا أنني على قناعة كاملة بأن الحق الفلسطيني لا يمكن أن يعيده المجتمع الدولي، أو دول الغرب التي أظهرت إلى هذه الساعة انهيار منظومتها الأخلاقية التي طالما ترنمت بها.
ماذا فعلت محكمة العدل الدولية؟ قالت على لسان رئيسة المحكمة «على إسرائيل أن تتخذ كل الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال»، لكن هل تضمّن القرار وقف إطلاق النار؟ بالطبع لم يحدث، ولن يحدث. سنكون مفرطين في التفاؤل وأصحاب أحلام وردية لو اعتقدنا أن هذه المنظمات الدولية التي أنشأتها الدول الكبرى لتحقيق مصالحها سوف تنصفنا وتعيد لنا حقوقنا. محكمة العدل الدولية اهتمت بوزن القصيدة، لكنها لم تلامس أبدا بيت القصيد، فالإجراءات المؤقتة التي فرضتها على الكيان الإسرائيلي لن تطبق إلا في ظل وقف إطلاق النار، وهو ما لم تتضمنه الأوامر التي فرضتها المحكمة. المقطوع به أن الاحتلال الإسرائيلي يضرب بعرض الحائط كل المواثيق والقوانين الدولية، فمن الذي يجبره على الانصياع لقرارات المحكمة؟ هل ستجبره أمريكا وحلفاؤها من دول الغرب؟ هذه الدول هي التي زرعت في منطقتنا ذلك الكيان اللقيط ليفتت لُحمتنا، ويفصل شرقنا عن غربنا، وينوب عن تلك الدول في رعاية مصالحها في المنطقة، فكيف نتوقع لهذه الدول أن تجبر الكيان الإسرائيلي على وقف إطلاق النار، الذي يعني هزيمة الاحتلال؟ نتساءل جدلا: كيف الحال لو قامت الدول العربية بقصف تل أبيب؟ ما هو المتوقع للموقف الأمريكي حيال هذا القصف؟ يمكننا للإجابة على هذا السؤال أن نستدعي أحداث حرب أكتوبر 1973، عندما شنت القوات المصرية والسورية هجوما على القوات الإسرائيلية في سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية الواقعتين تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني. على الفور تدخلت الولايات المتحدة بإقامة جسر جوي لإمداد الصهاينة بالعتاد والمعدات والدبابات، وسيرت طائرة استطلاع تفوق سرعة الصوت لا تطالها الدفاعات الأرضية، وجعلت مواقع تمركز القوات المصرية وتحركاتها على طاولة غولدا مائير، وحددت لها الثغرة التي تعبر منها القوات الإسرائيلية إلى غرب القناة، وأمدتها بخبراء للتعريف بكيفية تشغيل الأسلحة والمعدات الأمريكية، التي زودت بها الاحتلال، فكان اشتراكا فعليا لأمريكا في الحرب، أدى إلى القبول العربي بوقف إطلاق النار، والخسارات الفادحة على طاولة المفاوضات. هي نفسها الولايات المتحدة، التي تصمت عن جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين، وعن التدمير الشامل الذي يلحقه الاحتلال بقطاع غزة، عشرات الآلاف من الضحايا، وعشرات الآلاف من المصابين، ومئات الآلاف من النازحين، ومجاعة أوشكت على إهلاك مئات الآلاف، لكنها قامت منذ البداية بإعلان موقفها بتأييد الكيان الإسرائيلي، ومثلت مع حليفاتها غطاء دوليا للكيان في قصف المدنيين، بدعوى أنها تقصف المقاومة الفلسطينية. جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض يؤكد، أن شيئا لم يتغير بشأن وجهة نظر الرئيس بايدن القوية، بأن على أمريكا التأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها. نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني، يؤكد أن إسرائيل لم ترتكب جريمة الإبادة الجماعية خلال قصف قطاع غزة. لن ننسى كذلك أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا واليابان، قد أبطلت مشروعا في مجلس الأمن يقضي بوقف إطلاق النار، خلافا لموقفها من الحرب الروسية على أوكرانيا.
يكفي أنه بعد يوم واحد فقط من قرار محكمة العدل الدولية، علّقت أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وكندا وأستراليا وفنلندا، تمويلها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، التابعة للأمم المتحدة، تزامنا مع إنهاء الوكالة عقودا لموظفين في قطاع غزة اتهمتهم بالمشاركة في هجوم السابع من أكتوبر، استنادا إلى معلومات مقدمة من الاحتلال الإسرائيلي.
طويلة هي القائمة التي تتضمن مظاهر الانحياز الغربي للكيان الصهيوني، وفقدان المنظومة الأخلاقية، وازدواجية المعايير لدى الغرب واتباعه سياسة الكيل بمكيالين، وليست هي تهمة وليدة اليوم، بل يشهد لذلك شاهد من أهلها، برونوين مادوكس مديرة مركز شتام هاوس للدراسات والأبحاث، التي تقول عن هذا الإفلاس القيمي للغرب: «الغرب يهتم بالديمقراطية، ولكن ليس عندما يرغب في تنصيب زعماء على هواه في البلدان الأخرى. ويحترم السيادة باستثناء الأماكن التي لا يحلو له ذلك فيها مثل العراق. ويدافع عن حق تقرير المصير في تايوان، ولكن ليس في كتالونيا. ويدعم حقوق الإنسان، ولكن ليس في البلدان التي يحتاج إلى نفطها. ويدافع عن حقوق الإنسان، باستثناء عندما يكون ذلك صعبا جدا، كما هو الحال في أفغانستان.»
الاحتلال الذي يستقوي بالغرب، لا يعرف سوى لغة القوة، ولن يرضخ لأية قرارات دولية تعرقل له مشروعه، ومع الأسف التفاؤل بقرارات المحكمة الدولية يستند إلى الفراغ، ولن يرغم الاحتلال على وقف إطلاق النار سوى استمرار المقاومة وصمود أهل غزة وإفشال مشروع التهجير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
نظام جنوب افريقيا الحالي يتاجر في القضية الفلسطينية …