« أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو أن لا يحدث ذلك كله»
المناضل والكاتب الفلسطيني غسان كنفاني
دعني أخبرك في عليائك الأبدي يا سيد كنفاني أن عبارتك التي دسستها في روايتك العظيمة (عائد إلى حيفا) ظلت تتجدد وتقفز إلى قلوبنا يومياً وأن كل ما يجب أن لا يحدث حدث معنا في بلادنا الكبيرة.
هل قلت تقفز إلى قلوبنا ؟ نعم، ربما لأن الوطن يصيب أول ما يصيب القلب فيؤدي به، وربما لأنك مناضل بدرجة عاشق وعاشق بذات دِربتك على النضال وفي الحالتين فإن مكان قضيتك القلب ولا سبيل لتفادي ذلك.
دعني أخبرك أيها المناضل العظيم أن شاباً سودانياً أسمر صغير ونحيل ومصادم ككل شهداء ثورتنا المجيدة، حمل رصاصته على صدره ثم مضى واقفاً كصفصافة تأبى أن تموت، لكنه قبل أن يذهب إلى خلوده الأبدي لم ينس أن يدفع لنا هو الآخر بمقولة كبيرة وعظيمة سنضمنها قريباً كتاب تاريخ ثورتنا الناصعة فنحن رغم كل شيء نعرف أننا سننتصر في يوماً ما قريب هكذا علمنا تاريخنا، المهم أن عبد العظيم أبوبكر عمر الإمام وهذا إسمه كتب لنا ونحن في غمرة مواكبنا وخروجنا إلى الشوارع بحثاً عن بلادنا المفقودة، كتب لنا على حائط صفحته في عالمه الحقيقي الأفتراضي لمن سواه (تعبنا يا صديقي ولكن لا أحد يستطيع الاستلقاء أثناء المعركة) ثم رفع صوته عالياً، أشهر صدره للرصاص ومضى رافعاً رأسه كالرمح.
لم نعرف من أين لعبد العظيم هذه الحكمة وبأي لغة بنى جملته القصيرة العظيمة الخارجة من كل اللغات و كيف لخص لنا هذا الشاب الذي لم يكمل عقده الثاني بعد الوطن في عبارة واحدة ؟ لاحقاً علمنا أنها لم تك عبارة تخصه وحده بل كانت الطريقة التي مضى بها كل شهدائنا الذين لحقوا به، مضوا جميعهم واقفين لم يفكر أحدهم في أن يستلقى.
أمنيات واحدة
منذ تلك اللحظة وشهداؤنا يذهبون على طريقة واحدة بأمنيات واحدة وفي أعمار متقاربة يشبه موتهم حياتهم، يمضون بشجاعة لا تعرف الموت وبرغبة في الحياة كأنما العيش أبدي، ما كان عبدالعظيم حالة شاذة وفريدة، كان المشهد الذي تكرر عند كل روح إرتقت ومضت بل أن بعضهم ذهب بذات الابتسامة، كُتب لثورتنا أن تُمهر بدماء غالية وشهداء كثر مضى عبدالعظيم، ومضى محجوب بروحه الطفلة الحلوة، مضى عبدالرحمن الصادق سمل ومازال والده يحرس قضية الوطن بوعي شاهق يتسامى على حزنه الشخصي، كتب له (إن عاد دمك وأخرج من هذا الركام السياسي حقوقاً تصير ضميراً يحرس دولة القانون، عندها يكون ما يخصني في دمك قد عاد وأنا أقبل فما أبهى الدماء حين يتعافى بها الوطن).
مضى الفاتح النمير بثبات وعزيمة، مضى طارق ولن نعود كما كنا أبداً بعد دموع والده ولن نشفى، مضى أبوبكر يحمل قضيته وسماعته الطبية في كامل الحزم والتضحية، مضى عباس فرح شهيد (الترس) في مشهد موته المهيب هازئاً من جراحه ينزف ويمشي نحو (ترسه) العظيم،أمسك به بجلال ثم فاضت روحه تحرس كل البلاد، وهل يتأخر شهيد عن هتافه ؟
أشواق الحرية
مضى عبد السلام كشه بطريقة مذهلة كمن رفعت عنه الحجب ذهب إلى موته المشتهى كما تنبأ لنفسه وكتب ذات يوم (عش بسرعة ومت شاباً وأترك وراءك جثة وسيمة الملامح)، مضى محمد مطر بكرم لا مثيل له، صعد إلى السماء يقترح عليها لونها، مضى محمد عيسى كوكو ورفاقه الصغار تركوا شهادات (ثانويتهم) معلقة لم تصدر بعد، صعدوا ولم يكترثوا للمدارس التي فتحت أبوابها تنتظرهم، مضى صالح وحذيفة و وليد وغيرهم كثيرين ذهبوا بذات الشرف وذات الثبات، واجهوا موتهم كأبطال الأساطير، مضوا بعد أن لخصوا قضيتهم في هتاف واحد (جَهز عديل كفنك يا أنت يا وطنك)، لم يتركوا لنا قصص موتهم البهية فحسب، تركوا لنا أشواق الحرية وعزم النهايات المبتغاة، كتبوا لنا قصة جيل كامل لتكون الرواية الأبهى في سيرة بلادنا الحديثة ولتنضم إلى أحاجي وأسماء طويلة ندخرها في سفر البطولات.
هل كان في الإمكان أن لا يحدث كل هذا يا صفية ؟
هل كان علينا أن نفقد كل هذه الأرواح ليخرج الوطن من متاهته الطويلة ؟
هل خرج بعد ؟
وهل ننسى ؟ نحن الذين كلما فقدنا شهيدا أخرجت لنا الثورة من (سحارة) شرف البلاد دماء حارة تذكرنا أن القرشي شهيدنا الأول.
نحن الذين كلما سمعنا عن البطولة تبسمنا كأنما نلمح عبدالفضيل الماظ قادماً لتوه من مستشفى النهر.
هل ننسى ؟ نحن الذين تعودنا أن نحجي صغارنا بجينات الشجاعة ؟، كيف نتأخر عن تاريخنا الآتي إذاً ؟، كيف نتأخر عن أطفالنا القادمين وهل أعظم من قصص النضال التي تنتظرهم ؟
كيف نكف عن إحتراف الحكايا حتى نهاياتها المشتهاة لنقول أننا سرنا في طريق الشهداء حتى بلغ الوطن غاياته.
ستمضي بلادنا وتكمل المشوار، ستوصد حقبة حزينة ومظلمة، ستهب شهداءها راحتهم الأبدية ثم تستلقي على طريقتها كأم عظيمة تكتب تاريخ مجيد وتنهض مسرعة تلحق وتحرس قضايا السلام والحرية والعدالة.
صحافية سودانية