«شيطنة» اللاجئين السوريين في لبنان لعبة محفوفة بالمخاطر و«خطاب العنصرية» ليس فعلاً وطنياً

رلى موفّق
حجم الخط
1

لا يقتصر الخطاب المعادي للاجئين على بلد أو منطقة أو شعب ما دون غيره. أضحت قضية اللاجئين أو المهاجرين في كل المجتمعات أداة من أدوات الاستخدام السياسي ضمن البلد بعينه بين موالين ومعارضين، بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار. يلعب اليمين المتطرِّف في أوروبا دوراً في تأليب الرأي العام وتعميم خطاب الكراهية ضد المهاجرين، ولا سيما مع وصول دفعات كبيرة من اللاجئين السوريين إلى دول المداخل الأوروبية. تحوَّلتْ مسألة اللجوء السوري إلى تركيا اليوم إلى ورقة من الأوراق المؤثرة التي تستخدمها المعارضة التركية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المرتقبة في الرابع عشر من هذا الشهر، حيث يرتفع منسوب خطاب العداء للسوريين في توظيف سياسي من دون النظر إلى التداعيات التي يمكن أن تنتج عن الافتعال، والتضخيم، والتعمية، خدمة لأهدافٍ معيّنةٍ لا تمت للقضية الأساس بأي صلة.
في لبنان، يتحكّم راهناً خطاب الكراهية والعنصرية في بيئات سياسية وحزبية واجتماعية ضد اللاجئين السوريين الذين تُطلق عليهم تسمية «نازحين» منذ بداية الأحداث في سوريا، فيما تعريف النزوح هو الذي يحصل داخل البلد وليس منه إلى الخارج والذي يتحوَّل إلى هجرة ولجوء قسريَّين. يطفو هذا الخطاب ويخبو وفقاً للأهداف الكامنة وراءه. ليس ثمّة عاقل في لبنان، بمعزل عن خلفيته السياسية أو وضعيته الاجتماعية أو اعتباراته الخاصة، يمكنه أن يجادل في أن أزمة اللجوء السوري ليست عبئاً أو غير مُكلفة على البنى التحتية للبلد من مياه، وصرف صحيّ، وشبكة طرقات، وكهرباء، وخدمات، وحتى مزاحمة على بعض المهن والوظائف، ولا سيما في المناطق التي تركزت فيها مخيمات النزوح سواء أكانت في البقاع أم في الشمال، وفي مناطق الانتشار في جبل لبنان. ولكن هذا الواقع لا يعني مطلقاً أن أزمة اللجوء هي سبب كل الأزمات التي تعصف بلبنان وتضيّق الخناق على اللبنانيين.

الأرقام في خدمة الأجندات

في بلاد الأرز، دائماً ما تكون الأرقام وجهة نظر، فكيف إذا كان يتم استخدامها في المناكفات السياسية الداخلية أو على طاولة المقايضات الإقليمية أو لابتزاز المجتمع الدولي؟ أرقام الحكومة تتحدث عن وجود مليون ونصف مليون نازح سوري، بما يوازي ثلث سكان لبنان، وأرقام مفوضية اللاجئين قيّدت رسمياً في سجلاتها 805 آلاف لاجئ حتى 2015، وتوقفت عن التسجيل بناء على طلب الحكومة آنذاك لكنها لا تنكر تعاملها مع الرقم الذي تُصرِّح عنه الحكومة، فيما أرقام الأمن العام اللبناني تُشير إلى وجود مليوني لاجئ سوري معظمهم غير مسجّل لدى المفوضية. ويذهب بعض غلاة السياسة إلى بناء خطابه على أضاليل بأن عدد السوريين في لبنان يوازي عدد اللبنانيين البالغ أربعة ملايين، ويتعامل معها بوصفها حقائق تحمل في طياتها مخاطر التغيير الديموغرافي. وهو الخطاب نفسه الذي كان يُعتمد في مقاربة اللجوء الفلسطيني والقائم على نظرية «مؤامرة التوطين» الذي سيُفضي إلى خلل عددي لصالح السُّنة على حساب المسيحيين.
وصلت حملات التضليل في وسائل الإعلام، وفي تحقيقات صحفية، إلى حدّ الترويج بأن عدد الولادات السورية في لبنان يبلغ 200 ألف ولادة سنوياً، بينما هذا هو العدد الإجمالي للولادات السورية على مدى 11 عاماً. أرقام الحكومة اللبنانية تتحدث عن 200 ألف مولود سوري منذ بداية الأزمة في 2011 وحتى 2022، وتتداول المفوضية رقم 196 ألفاً حتى 2021، فيما سجلت وزارة الصحة بين 2012 و2021 مئة ألف ولادة بينها 40 في المئة لسوريين. على الأرجح أن رقم وزارة الصحة يعود إلى الولادات الحاصلة في المستشفيات، في حين أن الولادات السورية تجري في معظمها ضمن مستوصفات تابعة للمنظمات غير الحكومية أو على يد قابلات.

«الفريش دولار»
والحقيقة المتخلّية

والسردية التي يتم اعتمادها في خطاب التأجيج تقوم على أن المساعدات المالية التي تقدمها المفوضية للعائلات السورية هي بالعملة الصعبة، أي بـ«الفريش دولار» فيما اللبنانيون الذين انهارت عملتهم يقبضون بالليرة اللبنانية ما خلق خللاً كبيراً في القدرات الشرائية بين السوريين والمجتمعات المضيفة. وهو الأمر الذي نفته المفوضية معلنة على لسان بعض مسؤوليها في لبنان أن اللاجئين يتقاضون مساعداتهم المالية عبر البنوك اللبنانية بالعملة اللبنانية، وأن السقف الذي تتقاضاه العائلة المكوّنة من خمسة أفراد – بين مساعدات مالية للأمور الغذائية وغير الغذائية – هي 8 ملايين ليرة لبنانية أي ما يوازي 80 دولاراً على سعر الصرف في السوق السوداء، وأن 9 من أصل 10 أشخاص يعيشون تحت خط الفقر، أي أن 10 في المئة يعيشون ضمن إطار الأمن الغذائي ويحصلون على أدنى حد من الغذاء، ما يدحض نظرية أن اللاجئين السوريين هم في وضع جيد مقارنة مع المواطن اللبناني. في واقع الأمر، الفقراء هم سوريون ولبنانيون، على الرغم من حاجة المسؤولين اللبنانيين، وهم يحرّضون على اللاجئين، لأن يشيروا إلى وجود مساعدات دولية تُقدَّم للأسر اللبنانية الأشد فقراً شهرياً تصل إلى حدود 200 دولار شهرياً.
يقول مثل شعبي أن «القلة تُولِّد النقار» (الخلاف). هذا ما ينطبق على حالة لبنان، حيث ترتفع نسبة البطالة وتقل المداخيل وتنهار المعاشات، وحتى بعد أن رفعت الحكومة الحد الأدنى للأجور هذا الشهر إلى 9 ملايين ليرة، فهو عملياً لا يصل إلى مئة دولار أمريكي وفق سعر صرف السوق السوداء، فيما كان قبل تشرين الأول/أكتوبر 2019 – تاريخ بدء الأزمة – 450 دولاراً على سعر الصرف الرسمي. ولم يكن حينها النازح السوري يتقاضى هذا المبلغ، لكن كانت المجتمعات المضيفة تستفيد من وجود النازحين في مشاريع تنموية وخدمات جرى تقديمها. ولا يزال كثير من اللبنانيين يستفيد من إيجار الشقق والمحال التجارية التي كانت حينها تُقيَّم بالدولار.

تصعيد غب الطلب

يُحرَّك ملف النزوح السوري تارة لشد العصب الطائفي غب الطلب، وتارة أخرى لتعويم النظام السوري. يتم اعتماده حيناً في المعركة المفتوحة في سوريا بين محور إيران والغرب، ويكون حيناً آخر عنوان ابتزاز للمجتمع الدولي من قبل الطبقة الحاكمة من أجل الحصول على مساعدات لتعويم الوضع المالي للدولة، في محاولة للإفلات من الإصلاحات المطلوبة لوقف الهدر والسرقة كشرط للانخراط الدولي في دعم لبنان للخروج من أزمته القديمة – الجديدة والتي استفحلت إلى درجة ما عادت سياسات التقريع والتنقيط تنفع معها.
الخطير في لعبة تأليب الرأي العام اللبناني حين تصل الأمور، على سبيل المثال، إلى حد إطلاق الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان «الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديموغرافي السوري»، وأن يقول رئيسه مارون الخولي إن «هدف الحملة هو إنقاذ لبنان أرضاً، وشعباً، وثقافة، وحضارة، من خطر التغيير الديموغرافي الداهم» وهي «دعوة لكل اللبنانيين بمختلف شرائحهم ليقاوموا هذا الاحتلال الديموغرافي الذي ساهم في تدمير اقتصادنا، وبنيتنا التحتية، وسرقة مياهنا وكهربائنا، وفي تلويث أرضنا، وهوائنا، وثقافتنا، وقيمنا»، مُطالباً بعودة طوعية بل إلزامية للنازحين، متحدثاً عن «شبكة من التحالفات (هيئات، وجمعيات، ونقابات، وقادة رأي، ومحامين، وإعلاميين، وصحافيين، وكتَّاب، وأدباء، وفنانين، وطلاب، وعمّال) للعمل على مواجهة المحتل وداعميه، ولمقاومته بكل السبل الديموقراطية المتاحة عبر هيكلية مركزية ومناطقية وُضع لها برنامج وأهداف قصيرة وطويلة الأمد على المستويين الحكومي والأهلي».
هو خطاب يدقّ ناقوس الخطر بشأن وضع اللاجئين السوريين الذين تحوَّلوا إلى ضحايا لنظام بشار الأسد وبعض الميليشيات اللبنانية التي قتلتهم وهجَّرتهم من بيوتهم وأرضهم في وجه المجتمعات المضيفة وأبنائها، والذين هم بدورهم ضحايا سلطة مارقة ومنظومة سياسية أفقرتهم واستخدمتهم وقوداً، ولا تزال، في مشاريع ما فوق لبنانية حوَّلت معها لبنان إلى ساحة مواجهة مع العرب والغرب وأغرقته في الفساد مع إصرارها على مقاومة كل العملية الإصلاحية على مختلف المستويات الإدارية والمالية والقضائية والعودة إلى الالتزام بالدستور وتصحيح الخلل السياسي الحاصل حيث من شأن تلك العملية أن تُشكِّل خارطة طريق للخروج من الأزمة.
والخلط المتعمّد القائم هو في عدم التفريق بين اللاجئين الذين لا يمكنهم العودة إلى قراهم – إما لأنها مدمرة أو لأنها تفتقد إلى البنى التحتية والخدمات كونها محتلة من قبل «حزب الله» أو لأسباب تتعلق بغياب الضمانات الأمنية – وبين العمالة السورية الموجودة منذ ما قبل الأزمة والتي امتهنت العمل في مجال البناء أو في مجالات الكنس ورفع النفايات أو العمل في مجال الزراعة الموسمية. يقدر هؤلاء ما بين 300 و500 ألف على الأقل، ولا ارتباط حتميّاً بينهم وبين كونهم لاجئين. فقد يكونون من مناطق النظام أو من مختلف المحافظات السورية، وقد يكونون موالين للنظام وربما دخلوا البلاد بشكل نظامي أو عن طريق التهريب.

حسابات الربح والمواربة

عملياً، لا عوائق أمام ذهاب العمال السوريين النظاميين الى سوريا وعودتهم إلى لبنان بشكل دائم. والعمالة السورية التي لطاما اشتكى اللبنانيون من منافستها للعمالة اللبنانية لا علاقة لها بملف النزوح السوري. والتعامل مع أي خلل ناجم عن سوء إدارة ملف العمالة لا يتحمل تبعاته ملف اللجوء، حتى ولو عمل اللاجئ السوري في بعض المجالات التي لا يحقّ له العمل فيها. فمنْ وظَّف السوري هو اللبناني، وإذا كانت الشركة أجنبية، فلديها «كوتا» لا بدَّ من أن تحترمها حول عمالة اللبنانيين والأجانب وإلا تكون تخالف قوانين العمل. والمسؤول عن الوضعية الوظيفية القانونية لكل عامل أجنبي هو وزارة العمل اللبنانية، ومنْ يغض الطرف هي مؤسسات الرقابة اللبنانية والأجهزة الأمنية اللبنانية، ومَن أجَّره مسكناً هو المواطن اللبناني. وبالتالي، فإن التعامل المجتمعي اللبناني في رمي المسؤوليات على السوري، لاجئاً أو عاملاً، ليس سوى فعل مواربة وهروب من حقائق الأمور، تماماً كما تحاول السلطة السياسية الحاكمة أن تفعل حين ترمي إخفاقاتها على أكتاف الغير.
والأهم، أن المعابر الشرعية بين البلدين هي بيد الأجهزة اللبنانية النظامية، والتي يُفترض أن يقع التقصير في مكافحة الدخول غير الشرعي على عاتقها، ولا سيما أننا لا نتحدث هنا عن نزوح أو لجوء بفعل الأعمال الحربية كي تكون المسائل خاضعة لجدلية المعايير الدولية. في الواقع، تقوم شبكات منظمة بعمليات التهريب، وتتقاضى تسعيرة محددة (على الراس) ممن تهرّبه. وهي شبكات مغطاة على ضفتَي الحدود سواء أكان في مناطق البقاع أم في الشمال ولا بدَّ من مكافحتها، إنما المطلوب عدم تحويلها إلى استعراضات إعلامية أو سياسية على خلفية الإثارة والتضخيم والمبالغة، بل وضعها في إطارها الطبيعي.
على أن المعالجة الحكيمة تتطلب أن يكون لبنان مشمولاً بأي محادثات عربية مع النظام السوري تتعلق بملف العودة الطوعية لا أن يُغيِّب نفسه، أو يعتبر أنه قادر على معالجة هكذا أزمة من خلال محادثات ثنائية بينه وبين النظام. فالنظام السوري لن يُعيد اللاجئين كرمى لعيون اللبنانيين، سواء أكانوا حلفاء أم خصوم من دون أن يقبض ثمن تلك العودة من اللاعبين الكبار على أرضه. وحتى يحين ذلك الموعد، فإن المضي في سياسة «شيطنة» اللاجئين السوريين سيفتح شهية اللعب على الساحة اللبنانية من تلك النافذة، وحينها لن تنفع معها المزايدات أو استخدام هذه الورقة في زواريب السياسة الضيّقة أو في حسابات تتخطى المصلحة اللبنانية الخالصة. المطلوب هو الإقلاع عن سياسة جرّ عموم الشعب اللبناني إلى امتحان فحص في الوطنية واتهامه بالخيانة لوطنه إذا اعترض بعضهم على عمليات التحريض والعنصرية والخطاب الموتور المتّبع من بعض اللبنانيين سواء أكانوا يَعُون ما يفعلون أم يجهلونه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام:

    يبدو ان العنصريين من بين اللبنانيين ، والذين فرغت سلالهم من اتهام اللاجئين الفلسطينيين قديما من التسبب في مآسي لبنان وحروبها الداخلية، لتبرير تعونهم وتعاملهم وخياناتهم مع الكيان الصهيوني والانظمة الوكيلة ، لم يتعلموا الدرس القريب بعد,, ما حل بلبنان ،لم يكن غير لعنة اصابت البلد كله بد حملات العنصرية والاحتقار والتمييز والسحل بحق اللاجئين السوريين,,, تابعوا التسلسل التارخي ، للتعامل العنصري والفوقي والاحتقاري للاجئين السوريين والعمالة الافريقية في لبنان،، لتروى ما تبعها من مصائب ادت الى افلاس لبنان وسحله اقتصاديا,,, طبعا، الامر لا يسعد غير الاعداء,,, لان تركيع اي دولة عربية اقتصاديا يؤدي الى سهولة ابتزازها من قبل الكيان الصهيوني واعداء الامة,,,,, ولكن على الشعب اللبناني ان يعالج امراضه المزمة من قبيل الخيانات التاريخية مع العدو والعنصرية والطائفية، التي لم يهدف زرعها فيه الا افشال لبنان واخضاعه,,,

اشترك في قائمتنا البريدية