لوحة المراهنات الجديدة تبدلت في لحظة. إذا كان يجب على المراهنين حتى التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان الإجابة عن سؤال هل سيتم التوقيع، فإن سؤال المليون منذ أمس هو متى سيتم خرق هذا الاتفاق؟ بدأ حوالي مليون ونصف نازح لبناني في تعبئة “نماذج الرهان” عندما تدفقوا بجموعهم في طريق عودتهم إلى بيوتهم في صور والضاحية الجنوبية وبعلبك. في الحقيقة، لم يعودوا إلى قراهم في جنوب لبنان، لكن عملية إعادة الإعمار الأولى بدأت.
في مقابل اللبنانيين، الذين عبروا عن الثقة بالاتفاق، في إسرائيل ثقة مطلقة بأن الاتفاق سيتم خرقه، إذا لم يكن في الأشهر القريبة القادمة فبالتأكيد بعد بضعة أشهر أو سنة. الافتراض الأساسي هو أن حزب الله سيفعل ما في استطاعته لملء صفوفه بالمقاتلين الميدانيين والقيادات، وملء مخازن السلاح والذخيرة من جديد، ثم التسرب مرة أخرى إلى جنوب لبنان لتجديد ميزان الردع أمام إسرائيل. لهذا الافتراض ما يستند إليه؛ فالاتفاق تم التوقيع عليه ظاهرياً بين إسرائيل ودولة تسمى لبنان، لكنه عملياً اتفاق بين دولة ومنظمة. ولعدم بقاء الاتفاق كصفحة “اكسل” تسجل عليها خروقات الطرفين وإحصاء النشاطات التي ستبرر الرد العسكري، يحتاج لبنان إلى تغيير الهيكلية.
المتحدثون بلسان حزب الله يسعون ليثبتوا أنهم انتصروا في الحرب وتسببوا بأضرار باهظة وقتلى إسرائيليين، وأنهم بذلوا كل الجهود في وحدة الساحات. أو كما جاء في عنوان صحيفة “الأخبار” الناطقة بلسان حزب الله، “نحن نقف بصمود وانتصار”. ولكن تنتظر حزب الله معركة قاسية في الساحة الداخلية في لبنان، التي يجب عليه فيها إعادة بناء مكانته المهددة أمام إسرائيل لاستخدامها كرافعة سياسية مثلما فعل بعد حرب لبنان الثانية وقبلها بفترة طويلة.
ينص الاتفاق على أن تتحمل الحكومة اللبنانية مسؤولية تفكيك بنى حزب الله التحتية في جنوب نهر الليطاني، ومنع تهريب السلاح من سوريا وإيران وعن طريق البحر إلى حزب الله. وبعد ذلك، تنفيذ القرار 1559 الذي ينص على نزع سلاح حزب الله وسلاح المليشيات الأخرى. ولكن ذلك يبدو الآن مهمة غير محتملة. فالجيش اللبناني فيه القليل من الجنود، وهو غير مزود للعمل في كل الجبهات المطلوبة منه حسب الاتفاق. قائد الجيش اللبناني، جوزيف عون، أوضح لرئيس الحكومة المؤقتة نجيب ميقاتي ونظرائه الأمريكيين والفرنسيين، بأن نشر القوات على حدود لبنان سيجبره على نقل قوات من الحدود مع سوريا لوضعها على الحدود الجنوبية. المعنى، أن المعابر الحدودية بين سوريا ولبنان قد تكون مكشوفة، على الأقل إلى حين تجنيد وتدريب 6 آلاف جندي آخر من أجل تعزيز صفوف الجيش اللبناني.
لكن مع عدم القدرة العملياتية، فإن الأمر يحتاج إلى تصميم سياسي يستند إلى دعم الجمهور الواسع للعمل ضد بنى حزب الله التحتية شمالي نهر الليطاني، وفي بعلبك وشمال الدولة. هذا حتى تستطيع الحكومة اللبنانية وقف ترميم بنى حزب الله التحتية العسكرية، لا منطقة الجنوب فقط. وعلى الحكومة أن تستعد لمواجهة مقاتلي حزب الله بشكل مباشر، فهو الجسم العسكري الأكبر في الدولة، بل هو من يمثل أغلبية السكان الشيعة. هذا القرار يحتاج إلى تغيير عميق للبنية السياسية في لبنان، التي هي الآن منسوجة برقع عديدة وتنقسم بين الطوائف والأديان وتحكمها نخب مشوبة بالفساد، الذي أفسد أجهزة الدولة. هذه البنية أفشلت تنفيذ القرار 1701، وقد تعيق تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الجديد الذي يستند بشكل ما على أسس هذا القرار.
ولتأسيس نظام قوي في لبنان يستطيع مواجهة حزب الله وتجسيد سيادة الدولة من ناحية دستورية وسياسية، من الحيوي التوصل إلى تفاهم حول تعيين رئيس جديد للدولة، الذي من صلاحيته تعيين رئيس حكومة بشكل ثابت، التي تحظى بثقة الجمهور. بعد ذلك، يجب الإعلان عن إجراءات لانتخابات حكومية بمشاركة واسعة من الجمهور. لقد مرت سنتين منذ إنهاء الرئيس ميشيل عون ولايته، ولبنان لم ينتخب بعد رئيساً بديلاً. في هذه الأثناء لا توجد إشارة على خطوات سياسية جديدة رغم الحرب والدمار الكبير ووقف إطلاق النار. إن غياب حكومة مستقرة وقوية كان العامل الأساسي الذي مكن حزب الله من جر لبنان إلى الحرب وإلى أن يكون في “وحدة الساحات”، من أجل هدف بعيد عن قلوب معظم مواطني الدولة.
وجود حكومة مستقرة وقوية أمر حيوي أيضاً لإعادة إعمار لبنان، لأنه من المتوقع الآن حدوث صراع سياسي صاخب حول إعادة الإعمار. هل هي الحكومة أم حزب الله الذي سيتعاون مع إيران في إعادة الإعمار، التي عرضت في السابق مساعدات مالية وتم رفضها؟ تعهد حسن نصر الله بالاهتمام بإعادة إعمار كل بيت وحقل. بالنسبة لحزب الله، عليه استعراض قوته السياسية، إلى جانب مسألة المكانة والوفاء. وحتى تستطيع حكومة لبنان إحباط طموحات حزب الله، عليها الآن تجنيد مئات ملايين الدولارات، والمزيد من المليارات. ولكن مقابل حزب الله الذي لا حدود لتمويله إيرانياً، فإن على الحكومة إجراء إصلاحات قبل الحصول على المنح والقروض التي تتجاوز المساعدات الإنسانية الفورية الضئيلة.
الحكومة الحالية في لبنان عليها دين بمبلغ 45 مليار دولار، 195 في المئة من الناتج الوطني الخام. وهي غير مخولة وغير قادرة على إجراء هذه الإصلاحات. هذا يعني أن الدولة قد تخسر في المنافسة بينها وبين حزب الله وإيران حول إعادة الإعمار.
هذه المسألة في لبنان ليست اقتصادية أو سياسية فقط؛ فالمال السياسي الذي سيكسبه حزب الله من المنافسة على مشروع إعادة الإعمار سيضمن استمرار سيطرته على السياسة في لبنان، بل وعلى استقرار مرساة إيران في لبنان وسوريا. “تطبيق القرار 1701 جدياً، قد يحدث تغييراً كبيراً في دور حزب الله وإيران الإقليمي”، كتب غسان شربيل، محرر صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية. “المغزى من خروج لبنان من “وحدة الساحات”، التي يطمح العراق في الانسحاب منها أيضاً، لا يعتبر تغييراً بسيطاً، بل تغيير لا مناص منه كي يتمكن اللبنانيون من الدخول مجدداً تحت سقف الدولة والقانون”.
شربيل مقرب من متخذي القرارات في السعودية، ويعرف جيداً المزاج السائد في بلاط ولي العهد محمد بن سلمان، ويعبر عن أمله بأن التغيير السياسي في لبنان الذي أمامه فرصة للتحقق، سيقلص على الأقل مستوى سيطرة طهران في بيروت. السعودية عضو في مجموعة الدول الخمس، إلى جانب قطر ومصر والولايات المتحدة وفرنسا، والتي ستلتقي هذا الأسبوع لمناقشة طريقة المضي بالتغيير السياسي في لبنان. والسعودية دولة يمكنها المشاركة بشكل جوهري في إعادة إعمار لبنان، ولاحقاً إبعاد إيران عن الساحة.
ولنجاح هذه الخطوات السياسية، هناك أهمية كبيرة في ضمان تنفيذ الاتفاق لفترة طويلة. افتراضياً، هذه الخطوات قد تحدث تغييراً استراتيجياً إقليمياً، واسعاً وأكثر أهمية من الحفاظ على الهدوء على طول الحدود بين إسرائيل ولبنان. وبدونها سيظل اتفاق وقف إطلاق النار مصدراً للتوتر والاستعداد في انتظار خرقه.
تسفي برئيل
هآرتس 28/11/2024