يحمل كل من الشرق والغرب وجهات نظر مختلفة في الثقافة والأدب والفلسفة، وهذا يعكس بطبيعة الحال الاختلاف في البنية الاجتماعية أيضا. ويعود تاريخ اهتمام المثقفين بقضية لقاء الشرق مع الغرب لعدة قرون خلت. وقد تزايد الاهتمام في العقود القليلة الأخيرة. فإشكالية شرق/غرب لا تزال قيد الدراسة في عدة مراكز أكاديمية، ونجم عن ذلك بالنتيجة نظريات ثقافية واجتماعية بعدة صيغ. إنه مع التعولم وتزايد الهجرة أصبح الحوار بين الحضارات والمثاقفة متطورا وأكثر تأثيرا. وقد تحكم باحتمال الحوار، أن تجد لغة مشتركة بين الطرفين المختلفين راديكاليا وهما الشرق والغرب، إملاءات سياسية وبالأخص في المناطق التي انتشر فيها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب. وقد انتقل هذا الحوار من العلوم التطبيقية إلى الإنسانيات ووجد أرضا خصبة في الأدب. وحاز لقاء الشرق مع الغرب، ووعي كل منهما بالآخر، على اهتمام خاص من كلا الطرفين، المفكرين الأوروبيين وكذلك الشرقيين. وشمل مجال الاهتمام المقارنة بين الشرق العربي والغرب الأوروبي، وتم الاصطلاح على تسمية ذلك بصراع الحضارات (هنتنغتون: 1997: 1-2).
ففي خلال عهود الاستعمار، كانت الموضوعات المتعلقة بلقاء العالمين المختلفين تماما، تأخذ شكل صدام بين ثقافتين، وهو ما عبرت عنه النصوص الأدبية. وكان الخطاب الأدبي الأوروبي، وكذلك الشرقي (العربي، حيث تشكل موضوع معركة الشرق مع الغرب)، في الواقع نتيجة للسياسات الغربية الاستعمارية. وهو ما تسبب بخلق نظام كامل حدد أسلوب تعامل أوروبا مع العالم العربي، بما عرف عنه من فرز لأنماط خاطئة، ركزت جهدها لتعذر أو تبرر سياساتها التوسعية. ومن الطبيعي أن يستجيب الشرق لذلك بما يراه مناسبا، وهكذا تزايدت الرغبة في تشكيل شخصيته الخاصة وإنجازها. وعليه كوّن الشرق أنماطا معاكسة عن الحضارة الغربية. فالبورتريه الذي رسمه الشرق لنفسه، في الأدب العربي الحديث، كان له شكل فضاء ثقافي موجه ضد الصور السلبية المضادة. ومن الواضح أن ذلك تسبب للخطاب الأدبي برسم نقاط تقاطب لا تدل إلا على المفاهيم الروتينية والصور المتعارضة لهذه العلاقة التنافسية. حتى أن بعض النصوص الأدبية العربية، التي انتشرت في القرن العشرين خلال فترة الاستقلال والبناء، وطوال فترة تفكيك الاستعمار، قد تحولت إلى نوع من أنواع أسلحة الانتقام. فالموضوع المتكرر عن صدام الثقافات، كان بمعظم الحالات، تعبيرا عن تجارب شخصية لأدباء مروا أنفسهم بمحاولة تخطي الحاجز القائم بين العالمين. وقد خصص المثقفون العرب الذين أوفدوا إلى الغرب جزءا كبيرا من كتاباتهم لبحث هذه المشكلة، ولذلك يمكن النظر إليهم كأبطال لأعمالهم الأدبية، سواء حصل ذلك عن عمد أو بالوعي الباطن. لقد تشابهت الروايات العربية التي ركزت على لقاء الشرق والغرب، حتى أنها تحولت لظاهرة ثابتة.
ويمكن القول كان للروايات مضمون متماثل: فالبطل وقف وسط معركة الشرق ضد الغرب. وغالبا كان قد نشأ في مجتمع إسلامي تقليدي. وسافر إلى أوروبا لمتابعة دراساته، وهناك يمر بأزمة روحية نتيجة الصدمة الثقافية مع المعايير. وقد كانت مشكلة الهوية الثقافية حادة فعلا. فهو يشعر بالانقسام، ويتبدل من داخله، ثم يعود إلى الوطن بشخصية مختلفة، لكن التعايش مع الحضارة الغربية وتقاليدها يسبب له تفاقم الشعور بالاغتراب وتضاعف أزمة الهوية. وكان الجزء الأهم من تشكيل وصياغة شخصية البطل يعود لتمزقه بين امرأتين: أوروبية مضيفة وشرقية (محلية). لقد أصبح هذا المجاز، الذي يأخذ شكل علاقة غرام، ظاهرة عامة في كل الروايات- الرجل الشرقي يضيع بين امرأتين، بمعنى أنه يقف بين ثقافتين متنافستين. فالعلاقة مع المرأة الغربية يقوده إلى حضارتها، وبعد العودة يجاهد للاندماج في مجتمعه المحلي، وربما يقترن بامرأة محلية. وبعض الروايات (مثل «أديب» لطه حسين أو «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح) تكشف عن صراع يتطور داخل ذهن الكاتب، الذي لا يمكنه رؤية طريق باتجاه واحد لحل مشكلته. وتعمد هذه الأعمال لتوظيف طرق فنية تقدم للقارئ فرصة التعرف على مفهومين: أحدهما راديكالي، والآخر- أكثر اعتدالا. وغالبا تنتهي العلاقة مع الغرب بمأساة تصيب أحد الطرفين. وتسمح للثاني بالعودة والاحتفاظ بهويته السابقة.
فالبورتريه الذي رسمه الشرق لنفسه، في الأدب العربي الحديث، كان له شكل فضاء ثقافي موجه ضد الصور السلبية المضادة. ومن الواضح أن ذلك تسبب للخطاب الأدبي برسم نقاط تقاطب لا تدل إلا على المفاهيم الروتينية والصور المتعارضة لهذه العلاقة التنافسية.
وأعتقد أن الكاتب والمفكر المصري طه حسين (1889-1973) هو أهم شخصية مؤثرة في الحداثة العربية خلال القرن العشرين في هذا المضمار. وهو رائد من العقد الأول، وقد درس في جامعة القاهرة، وتابع تحصيله في فرنسا، وقد أثر ذلك على تصوراته عن العالم. ويمكن القول إن طه حسين أيد الانفتاح الثقافي على الغرب، الأمر الذي سمح للمصريين بالتعرف على أسرار تطوره، لكنه وضع مصر وأوروبا في جعبة واحدة، واعتبر أنهما جزء من الحضارة المتوسطية بشكل عام. وفي رأيه، تدين الحضارة الأوروبية لكل من حضارة مصر وللحضارات التي لها أصول إغريقية، بالإضافة للإسلام والمسيحية، ناهيك عن المؤثرات الإغريقية المباشرة. عموما شجع العثمانيون على الترحال في أوروبا، بينما فضلت مصر أن تكون معزولة. وعلى هذا الأساس وقف طه حسين ضد السيادة الأوروبية، ولكن في الوقت نفسه تكلم عن الحاجة لتبني نمط التعليم والتثقيف الأوروبي. وقد ألهم هذا الكاتب الشباب، وعلمهم أنه ليس من المفروض أن يتحولوا إلى أوروبيين، ولكن عليهم أن يبذلوا جهدهم لاكتشاف أنفسهم (العناني: 2006). وقد نشر طه حسين روايته «أديب» عام 1935. واستخدم طريقة فنية قارب فيها موضوع لقاء شرق- غرب، ولم يكرر هذه التجربة في بقية أعماله. واختار أن يكون للحبكة خطان أساسيان، وكان سرده تعليميا بشكل واضح. وذهبت الشخصيتان الأساسيتان – البطل والراوي – باتجاه واحد. كلاهما سافر من مصر إلى باريس بمنحة. وعبرا عن معاناتهما بتبادل الرسائل. واصطدما بحضارة أوروبا الحديثة وتأثرا بها. وكانت مشكلتهما هي تحديد الهوية الثقافية في مواجهة الحضارة الأجنبية. وأسهم ذلك بتشكيل ثقافتهما ووجهات نظرهما عن العالم، وخلق تنافرا بينهما وبين الطريقة القديمة أو التقليدية في الحياة. وكانت الأفكار المختلفة والمتعارضة تبرز في الرواية أثناء الإقامة في الغرب. لكن من جهة مثلت أم أديب دور الشخصية الأساسية التي تتبنى الفكر القديم والتقليدي، فقد اعترضت على سفر ابنها إلى أوروبا. ومن جهة مقابلة، مثل أديب نفسه، المشتاق للسفر والدراسة، التفكير المعاكس. ولم يوفر جهدا لتحقيق ذلك. حتى أنه طلق زوجته ليصل إلى حلمه.
وكانت الثقافة العربية التقليدية تبدو دائما في الروايات العربية بشكل أنثى، وهذا رمز شخصنه طه حسين في (أديب) من خلال صورتي الأم والزوجة المصرية. وقد تكررت الصورة نفسها لاحقا بأشكال مختلفة في الروايات العربية التالية. ومن المهم أن تلاحظ أن طه حسين قدم الأم على أنها تعارض سفر ابنها. وبالضبط كانت الأم الجهة التي لا تسمح لابنها بمغادرة أرض الوطن إلى الغربة. وفي هذه الرواية، يؤكد طه حسين على العزلة الثقافية المفروضة على مصر، ويوظف أفكارا نمطية عن العالم الخارجي، وهي أفكار موجودة في ذهن المجتمع المحلي التقليدي، الذي يرى أن رحيل شاب إلى الخارج عبارة عن خطر غير مرحب به. وقد صورت رواية «أديب» موقفه من كلا الثقافتين الوطنية والأوروبية في واحدة من رسائله، التي أرسلها إلى الراوي، ويقول فيها: «ولكن إذهب إلى الأهرام… وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير.. وستحس اختناقا وسيتصبب جسمك عرقا، وسيخيل إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك. ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف. واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم. وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق». (أديب).
لكن الخط الأساسي الآخر في الرواية، لا يدعو للتأقلم مع الثقافة المحلية. ولنتوقف عند لحظة وصول (أديب) إلى باريس. ستجد أنها تترافق مع شعوره المزمن بالاغتراب. وعلى الرغم من أنه تبنى أساليب الحياة الغربية وانفصل عن جذوره، فقد فشل في الاندماج، وهو ما أدى في النهاية إلى تفككه وانهياره. وفي حالة الراوي (الشخصية الأساسية الثانية في الحبكة) يتم تخطي أزمة الهوية لأنه لم يفترق عن جذوره، وحاول أن يتبنى فضائل الثقافات الأخرى، بدون أن يمنعه ذلك من الاحتفاظ بفضائل ثقافته. وعليه، طور طه حسين في روايته فكرة مفادها: إنه ليس من الضروري أن تبدل وتفقد هويتك الخاصة، أو أن ترفض خصوصياتك وتتبع الآخر على نحو أعمى، ولكن عليك إدارة وتحديث هويتك مع التأكيد على ضرورة الاحتفاظ بها.
٭ باحثة في الأدب العربي من تبليسي ـ جورجيا
ترجمة: صالح الرزوق / بتنسيق خاص مع الكاتبة