صرخة دولية ضد قتل الصحافيين في الأراض المحتلة

قبل أسبوعين وقّع 60 منظمة إعلامية وحقوقية بيانا مشتركا يطلب من الاتحاد الأوروبي إجراءات ضد القتل غير المسبوق بحق الصحافيين والانتهاكات الإسرائيلية أخرى لحرية الإعلام في غزة، بدأته بالقول: «تكتب منظماتنا إليكم لتطلب أن يتخذ الاتحاد الأوروبي إجراءات ضد قتل الصحافيين بشكل غير مسبوق والانتهاكات الأخرى لحرية الإعلام على يد إسرائيل، وهي أفعال تخرق التزامات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي المترتبة على إسرائيل.
هذه الممارسات جزء من انتهاكات واسعة وممنهجة ترتكبها السلطات الإسرائيلية في غزة، والضفة الغربية، وإسرائيل، وأماكن أخرى». برغم ما يقال عن التقدم الإنساني في مجال الإعلام والبحث عن الحقيقة، وأن العالم في عصر العولمة أوّلا ثم في عصر التكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي ثانيا، وأنه أصبح يعيش ما بعد الحداثة ثالثا، سيكون أكثر اطّلاعا على ما يجري، إلّا أن واقع العالم اليوم ليس كذلك. فهناك سباق بين الحكومات لمنع ظهور الحقائق للرأي العام. هذا المنع ليس رسميا، بل ربما تنص قوانين تلك الدول على عناوين جذابة مثل احترام «حرية التعبير» وضمان «حرية الإعلام والصحافة» و «إزالة الحواجز التي تمنع انتشار المعلومات». ولكن الحقيقة المرّة التي تجعل تلك الدعاوى غير ذات معنى وجود استهداف ممنهج للصحافيين خصوصا في مناطق الصراعات المسلحة. وفي هذا المجال هناك أرقام مخيفة قد لا يصدّقها البعض نظرا لغرابتها. فقد بلغ عدد الصحافيين الذين قتلوا في غزة خلال الشهور التسعة الأخيرة 158، أغلبهم استهدف من قبل القوات الإسرائيلية. ولكي يتضح حجم الأزمة، تجدر الإشارة إلى أن عدد الصحافيين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية التي استمرت ستة أعوام كان 69، وفي حرب فيتنام التي استغرقت 13 عاما 63. أليس في هذه الأرقام مفارقة تتجاوز ما يستطيع العقل تصوره؟
ماذا تعني هذه الأرقام؟ في عالم طالما تشدّق باحترام الكلمة وحرّيّة انسياب المعلومات بين البشر ماذا يعني استهداف الإعلاميين بهذا المستوى؟ وهنا تتبادر أسئلة عديدة: هل المعلومات متاحة حقًّا؟ لماذا الخشية من بث الوعي بين الناس؟ من الذي يسيطر على وسائل الإعلام ويوجهها؟ ما حدود الحرّيّة الشخصية وحقوقها المعلوماتية؟ ومن هي الأنظمة الأشد استهدافا للإعلاميين والأكثر قمعا لحرّيّة الكلمة؟ وما دور المنظمات الدولية في التصدي لسياسات القمع واغتيال أصحاب الرأي الحرّ؟ هذه التساؤلات تبدو نظرية من جهة وتقليدية من جهة أخرى، كما أن من الأرجح أن لا تحظى بإجابات شافية في عالم تتضاءل فيه الحرّيّات الحقيقية في ظل توسع التكنولوجيا القادرة على التحكم في ظروف العالم وتمكين أنظمة الاستبداد من السيطرة على حياة البشر والتحكم في تشكيل عقولهم. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي قد تبدو مهمة السيطرة على انتشار المعلومات الهادفة للسيطرة على العقول والتوجهات شبه مستحيلة، ولكن من الناحية الواقعية ما تزال المعلومات المتوفرة في الفضاء العام تصب لصالح حماية الوضع الراهن في العالم. فمصادر الخبر وصنّاعه ما يزالون قادرين ليس على احتكار المعلومة وتوجيهها فحسب، بل ضمان انتشارها على نطاق واسع لفترة طويلة. وهكذا يبدو التطور التكنولوجي مرشحا لخدمة فئة محدودة من البشر، بينما الغالبية القصوى من المستهلكين سيبقون مستهدفين بوسائل السيطرة على العقول. وهذا ما يفسر في بعض جوانبه، قدرة الاحتلال على ممارسة أبشع الفظاعات بحق الفلسطينيين بدون الخشية من ردود فعل رادعة سواء من حلفائه الغربيين ام حكومات الدول العربية التي تخلّت عن مسؤوليتها تجاه فلسطين وأهلها، بل أنها من أكبر من يصادر الرأي وحرّيّة التعبير.
ويبقى الصحافيون عنوانا لكشف جرائم الاحتلال والاستبداد. فبحكم المهنة يُتوقع منهم كشف الحقائق للرأي العام من خلال تغطياتهم الميدانية خصوصا في ساحات الصراع. ولكن برغم ما يحظون به من «حماية» أخلاقية وسياسية، فإنهم عرضة للاستهداف دائما، تارة بالاعتقال والسجن والابتزاز، وأخرى بالقتل. فما أكثر الإعلاميين المعتقلين في السجون، بل ما أكثر من يُقتل منهم من قبل الأطراف التي ترفض كشف جرائمها للعالم. وفي ساحات الحرب يصبح هؤلاء الإعلاميون أكثر تعرضا للخطر.

تقول لجنة حماية الصحافيين المعنية بالتحقيق وجمع التقارير حول إصابة الصحافيين والعاملين بمجال الإعلام او فقدانهم أن حرب غزة أصبحت الأكثر دموية للصحافيين

ووفقا لما هو متوفر من معلومات، فقد لقي 158 صحافيا مصرعهم، أغلبهم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية. تقول لجنة حماية الصحافيين المعنية بالتحقيق وجمع التقارير حول إصابة الصحافيين والعاملين بمجال الإعلام او فقدانهم أن حرب غزة أصبحت الأكثر دموية للصحافيين منذ بدء عمل اللجنة عام 1992. كما ندد مركز حماية الصحافيين الفلسطينيين بقتل الاحتلال رجال الإعلام في قطاع غزة، وقال إن الجرائم المستمرة بحق الصحافيين الفلسطينيين نتيجة قرار اتُخذ على أعلى مستوى في إسرائيل بهدف حجب الحقائق ومنع كشف المجازر التي ترتكبها ضد المدنيين. وأشار بيان اللجنة إلى أن حصيلة استهداف الصحافيين الفلسطينيين في غزة هي الأكثر دموية في التاريخ الحديث، مطالبا بفتح تحقيق دولي مستقل وشامل في الجرائم الإسرائيلية بحق الصحافيين.
ربما لا يبدو استهداف رجال الإعلام مستغربا في عالم ينحو في اتجاه الاستبداد والحفاظ على الوضع الراهن، ولكن هناك جوانب عديدة للقضية:
أولها أن الروح الإنسانية لها قداستها ويجب أن لا تُزهق بدوافع شيطانية.
ثانيها: أن قتل الصحافيين يعني، من جانب آخر، استهداف الحقيقة التي يُفترض أن تكون ضالّة الإنسان الباحث عنها.
ثالثها: أن قتل الصحافي يعني أيضا استهداف الشهادة لأنه الشاهد المباشر على ما يحدث في الميدان، وتُعتبر التقارير الإعلامية الموثقة أدلة يمكن اعتمادها أمام القضاء. رابعها: أن المجتمع الدولي مُطالَب بتكثيف الجهود لحماية الإعلاميين في بلدانهم وفي العالم والتصدي لمن يستهدفهم بالقتل. والواضح غياب هذه الحماية بدليل عدم تأثر علاقات دول العالم بالجهات التي تقتل الصحافيين. فقتل أكثر من 150 صحافيا منذ بدء حرب غزة من قبل الإسرائيليين تأكيد لسياسة الاحتلال من جهة وطبيعته الدموية من جهة أخرى. فإذا كان دم الصحافي رخيصا بهذا المستوى فما قيمة الدم الفلسطيني في قاموس الاحتلال؟ ولماذا الصمت الرهيب من قبل الجهات الدولية إزاء ما يجري في الأراضي المحتلة؟ المشكلة أن الإعلاميين فئة من الناس غير مرغوب بها خصوصا من قبل الأنظمة القمعية التي تتسلح بالتضليل لإخفاء ممارساتها القمعية وترى في الإعلام ورجاله ووسائله عدوا قاتلا. إن مصادرة الكلمة وحرّيّة التعبير آفة كبرى تنخر في مجتمعاتنا. فهذه السياسة تهدف لتجهيل المواطنين أولا، وتستهدف أصحاب الفكر والقلم من جهة أخرى، وتسعى لتأميم كل ذلك لحصره بالأبواق الرخيصة والمأجورة. فالتضليل سلاح ضد حرّيّة الشعوب. وما استهداف الإسرائيليين للإعلاميين الفلسطينيين إلا ضمن هذه السياسة الشيطانية الهادفة لإبقاء فلسطين تحت الاحتلال أولا وإضعاف الأمة وكسر كبريائها من جهة أخرى.
لقد وعى المجتمع الدولي لأهمية الكلمة التي تمثل وسائل الإعلام والصحافيين مجالها الأساسي. وما أن ظهرت مقولات حقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية حتى كانت حرية التعبير من أولوياتها. فنصت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أهميتها وضرورة إطلاقها وحمايتها والسماح بحرّيّة التعبير بدون قيود. ومع ذلك فلدى أنظمة القمع رقباء قساة يحاصرون تلك الحرية، ويمنعون البشر من ممارستها. إن قداسة الكلمة تنطلق من ضرورتها لتوضيح الحقيقة وتمييز الإنسان عن الحيوان بقدرته على التعبير الحرّ، فإذا لم تستطع هذه الكلمة تحقيق ذلك فقدت قيمتها. والرقابة المفروضة على وسائل الإعلام في العالم العربي تحوّلت إلى بعبع يطارد الكتّاب، حتى أصبح المثقف العربي والعالِم والخطيب يمارسون رقابة ذاتية لتفادي غضب الحكم. وبذلك أصبحت الحقيقة أولى الضحايا. ونجم عن ذلك فتح السجون على مصاريعها لمن تسول له نفسه بالتعبير عما يدور في نفسه متجاهلا وجود الرقابة الصارمة بشتى أساليبها وأشكالها.
وكثيرا ما سعى الغربيون لترويج «إسرائيل» كرائدة للحرّيّة والديمقراطية في الشرق الأوسط. ولكن ما جرى في الشهور التسعة الأخيرة من اضطهاد الشعب الفلسطيني بوتيرة غير مسبوقة وما صاحب ذلك من تدمير لم يشهد العالم مثله منذ الحرب العالمية الثانية أصاب مصداقية الغرب في مقتل.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية