استحكم الظلم والجور على أرجاء المملكة، وباتت الحياة يغمرها الظلام، فالملك غارق في الأهواء، وحاشيته عبيد بين يديه لكنهم جلادون ووقحون مع البسطاء، كان ياما كان، في قديم الزمان، إنها مملكة نجران، إنهُ ذو نواس، ربما إنه ذاته الملك الحميري، لا يعبأ بشيء سوى بالملك والحكم، إنهُ يستلذ أن يُرفع بأسرة محمولة، لا يهم إذا ما كسر ظهور الحمالين، المهم إن سواعدهم الكادحة تدغدغ أعصابه النتنة، تُرضي غرائزه الشهوانية، فلا مساحة للضمير في دواخله، ولا للقيمة الحقيقية من وجوده كإنسان، إن الضمير الحي هو العلامة الفارقة في تصنيفه بالفصيل الإنساني وإلاَّ سيتحول لكائن حيواني يحمل ملامح بشرية، ربما سرقتها الجينات لتلحقه بالإنسانية لكن تبقى من أفعاله براء.
مُشكلة العبودية
الجميع يطأطئ له الرأس، الجميع يُصغي لأوامره، إنها مُشكلة الإستسلام، إنها مُشكلة العبودية، ولو قُدر للسماء أن تُمطرهم حرية لرفعوا بوجهها الكفوف والمظلات، لأن شخصيتهم هكذا نشأت وهكذا تكونت وتبلورت، أو هل الجميع مُستسلمون له؟ أوهل الجميع باتوا خانعين منكسرين بين يديه؟ لا، حقاً؟
نعم، ثمة ما تتوقد الحرية بدواخلهم، تتوقد نار الثورة في ضمائرهم، لا يرضون بالضيم ولا بالهوان، لا يرضون التفريط بحريتهم بأسمى الأثمان، وإن حفروا لهم الأخدود، إنها شقوق مستطيلة في الأرض، فلا يعبأون بها وإن أضرموها لهم لهيب النيران، فهنالك نيران الثورة أشد حماساً وقوة، إنها عصية على الإستسلام، إنها تتكسر عليها معاول الطغاة، اتركوا الإيمان بالله؟
لا، اتركوا الحرية وعودوا للخنوع للملك؟ لا، سنقتلكم، سنقطع أوصالكم، سنستبيح حرائركم… قلنا لا، لا، حسناً حسناً، سنرى ما مدى صبركم على الأذى، أتوا بإمرأة، يعلمون نقطة ضعفها، إنها تحمل طفلاً على يديها، وروح الإيمان والثورة في جنبيها، لكنها أُم ولا تحمل طاقة تعذيب ولدها، هددوها بالحرق، هي وبرعمها الصغير، لماذا تفعلون ذلك؟
إنه مازال بطور الأجنة الحانية، دعونا نعيش بسلام، دعونا وشأننا، لا، مستحيل ترككم إلاَّ وتعودون للعبودية والخضوع الكامل والتام، اهتزت عزيمتها، ضعفت قواها، بدأت ترتجف شفتاها خجلاً لتعلن الإستسلام، لكن قلبها لا يطاوعها على فعل ذلك، حاولت تنطق كلمات الخجل، فسمعت يقظة الحرية من الطفل: اصبري يا أُماه فإنكِ على الحق. عادت لتصرخ مجددا، لا للظلم، لا للإستسلام، لا للخنوع على أعتاب الطغاة، سنحرقكِ بالنار؟ لا يهم، سنحرق ولدكِ الصغير أيضاً؟
إنه يرى في النار حريته، افعلوا ما يحل لكم، لا نعبأ بكم، ولا بجمعكم، لا وألف لا…
(قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) 4 ~ 9 البروج .
الأخاديد في زماننا متعددة، وشقوق نيرانها متوهجة، أحزاب تتصارع، مجاميع تتناحر، قادة أضلوا الطريق ومازال مقود القيادة بأيديهم، مقدرات شعوب بيد مَن لا يمتلكون إلاَّ النزوات والتسكع، حتى ملامح الإيمان أصبحت ماركة تجارية لا فلسفة حياة وعمل، هكذا أصبحنا ومع الأسف هكذا يكون المساء، ماذا نفعل؟ وهل سنستسلم للمنزلق الخطير الذي هوينا فيه؟ لا، فجذوة الحرية مازالت متوهجة، والإيمان الخالص مازال وسيبقى وحيه ينبض، وطعم الإنسانية النقي سيشع من جديد، نعم، نعم، سيشع ضياؤه مرة أُخرى ولو بعد حين، سنعود بالدين النقي، والتراث الناصع، سنعود بثورة العشق الأبدية، فقانون العدل والمساواة كالقيامة شاء مَن شاء وأبى مَن أبى إلاَّ وواردها، إنهُ آتٍ، إنهُ سيشع بالأفق ضيائه، ومن حيث الموضع، من أرض مملكة نجران، انبعث شاعر يعود سلفه إلى أولئك الذين أضرموا نيران الأخدود بنيران ثورتهم، إلى تلك المرأة التي انتصبت بوجه الطاغوت لتقول إن دم طفلي يحمل في كرياته نار الثورة التي لا تبور، إنه الأديب المخضرم (مهذل مهدي الصقور):
أتظن أنك بعدمـــا أحـــرقتنــي
ورقصت كالشيطان فوق رفاتي
وتركتنـــي للذاريــات تـذرنــي
كحلاً لعين الشمس في الفلـوات
أتظـن أنك قـد طــمست هويتي
ومحــــوت تاريخي ومعتقـــداتي
عبثاً تحاول …. لا فنـــاء لثائر
أنــــا كالقيامـــة ذات يـــــوم آت
أنا مثـل عيـسى عــائد وبقــــوة
مــن كـــل عاصـــفة ألـم شتـاتي
سأعــود أقدم عاشــــق متمــرد
سأعـود أعظـم أعظم الثــــورات
سأعود بالتوراة والإنجيـل والــ
قـــرآن والتسـبــيح والصـــلواتي
سأعــود بالأديـان ديــناً واحـــداً
خــــــالٍ مـــن الأحقـاد والنعرات
رجل من الأخدود ما من عودتي
بـدٌ … أنا كل الزمــــــان الآتــي
كاتب من العراق
اجمل قصيدة على الاطلاق حيا الله هذا الساعر الفذ ذاعر العرب والثورة.