صعوبة المقارنة بين صدّام والعراق الحالي

حجم الخط
10

ينهض النقد الذي يوجه لعراق ما بعد 2003، على عدد لا يحصى من الحجج. تسلط المليشيات، وانتشار السلاح، واستشراء الفساد، واغتيال الناشطين، والطائفية، والشعبوية والزبائنية، وتديّن المجتمع، لاسيما الشيعي، فضلا عن توزيع الولاءات للخارج. وغالبا ما تجري مقارنة الأوضاع هذه، بتلك التي كانت في زمن نظام صدام حسين. علما أن من السهل على أي دارس لزمن الديكتاتور الراحل، أن يجد فيه، كل المظاهر التي تؤخذ على فترة ما بعد سقوط البعث. طائفية، تمثلت بتمركز السلطة بيد سنّة تكريت، وقمع شيعة الجنوب، ومليشيات تمثلت بـ»فدائي صدام» وسواها.. وزبائنية وفساد، تبديا بتوزيع المغانم على المحاسيب لضمان الولاء، واعتقال واغتيال المعارضين، للإرهاب وفرض الطاعة، وتدين المجتمع، لاسيما مرحلة ما بعد غزو الكويت، لتجديد شرعية النظام.

ابتلع الحكم المركزي الصدامي الاستبدادي، وظائف الدولة وجيرها لصالحه، كذلك ابتلعت اللادولة بعد 2003، مزايا الديمقراطية وجيرتها لصالحها

لكن الدارس أيضاً، للمرحلتين، سيلحظ الفارق في آليات اشتغال المثالب السابقة باعتبارها كانت تنفذ من قبل نظام استبدادي مركزي لضمان ديمومته، فيما الآن تحصل ضمن اللادولة، ولهذا الفارق تداعيات على العراقيين، الذين، كما يقول بعضهم، صاروا يتعاملون مع عشرات الصدامات. السيئات سابقا كانت مضبوطة بيد الديكتاتور يتحكم فيها ويجيرها لصالحه، الآن باتت منفلتة وقانونا عاما يتحكم بحياة الناس، ويقلل نوعيتها للحدود الدنيا، تبعا لفرضية الناقمين على أوضاع العراق في الوقت الحالي.
ما هو محسوم، في هذا النقاش، أن مشاكل العراق، هي ذاتها، في زمن صدام وما تلاه، لكن ما اختلف طبيعة التكوين والوظائف. المليشيا من قبل كانت ملحقة بالنظام، تحمل غطاء أيديولوجيا، المليشيا حاليا، سلطة بحد ذاتها لها اقتصاد وحزب ينطق باسمها. الفساد في السابق كان توزيع عطاءات مقابل الولاء، حاليا هو آلية تنشط كدورة اقتصادية موازية. تديّن المجتمع كان في السابق، للتعبئة وشحن الناس للالتفاف حول النظام، اليوم بات هوية مجتمعية وثقافة وسلوكا وقيما. النظام كان البنية خلال سنوات البعث، والسيئات مندرجة في آليات اشتغاله، اليوم السيئات باتت البنية، وتشتغل من أجل إدامة نفسها. في الحالتين، ثمة سياقات أنتجت هذا الفشل الذي آل إليه العراق، الانقلابات العسكرية وصعود الراديكاليين في حالة صدام، والتدخل الخارجي المفاجئ ونقل وصفات الديمقراطية الجاهزة في حالة العراق الحالي. خلف الحالة الأولى، تفكير إمبراطوري يحاكي مخيال الخلافة، بوعي قومي عروبي لدى السنّة، التقطه ريفي يجهل العالم يدعى صدام حسين، وطوعه بين يديه ليصنع حكما عائليا، امتد حتى 2003. وخلف الثانية، تفكير معارض استقر على وعي طائفي انتقامي ثأري التقطته النخبة الشيعية التي أتت من الخارج، لتصنع «دولة المافيا» حسب تعبير الكاتب كنعان مكية. وبالنتيجة، فإن مقارنة أوضاع العراق حاليا، مع تلك التي كانت في زمن البعث، لا تخضع لمعايير نوعية، تميز بين الاثنين، القائل بأفضلية العراق السابق عن الحالي يستند إلى النتائج، فيتحدث عن «الاستقرار» أو «التنمية»، أو «الخدمات»، علما أن هذه ليست «مزايا» بل ملحقات لاستراتيجية النظام السابق، فالترهيب وضبط المجتمع ينتج استقراراً خادعاً، والاستفادة من عوائد النفط لشراء الولاء ينتج تنمية مؤقتة (اقتصرت على سنوات البعث الأولى)، والدولة المركزية القامعة للأقليات، تنتج خدمات. كذلك الحال، بالنسبة، للقائل بأفضلية العراق الحالي، معتمداً على «الانتخابات»، و»تعددية الأحزاب»، و»حرية الإعلام»، إذا إن هذه «المزايا»، مفرغة من مضامينها، بسبب طبيعة اللادولة المليشياوية، التي ترسخت عقب سقوط النظام السابق. فـ»الانتخابات» التي تنظم على وقع السلاح والشحن الطائفي وترهيب الناخبين، يسهل الانقلاب على نتائجها تبعا لموازين القوى العسكرية بين الجماعات المسلحة. والأحزاب، تحوّلت إلى واجهات سياسية للمليشيات، التي طوّعت كذلك الإعلام، وصيّرته ناطقا باسمها. هكذا، وكما ابتلع الحكم المركزي الصدامي الاستبدادي، وظائف الدولة وجيرها لصالحه، كذلك ابتلعت اللادولة بعد 2003، مزايا الديمقراطية وجيرتها لصالحها. وانطلاقا من النتائج المبتورة في كلا الحالتين، يصعب عقد أي مقارنة بين «النموذجين»، أو بصورة أدق، بين «اللانموذجين».
كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فلسطيني رام الله:

    “خلف الحالة الأولى، تفكير إمبراطوري يحاكي مخيال الخلافة، بوعي قومي عروبي لدى السنّة، التقطه ريفي يجهل العالم يدعى صدام حسين، وطوعه بين يديه ليصنع حكما عائليا، امتد حتى 2003. ” الكاتب عبدو محق تماما في هذا، ولنضع خطين تحت كلمة ريفي لان في هذا بيت القصيد، و وعلى انصار ومحبي الرئيس السابق الاعتراف بهذا من أجل الوصول إلى مصالحة و توافق وطني حقيقي في العراق ، ليس المقصود هنا على الانتقاص من الأرياف فنحن منهم ، المقصود هنا هو الفهم الواعي لتاريخ المنطقة لكي نعتمده أساسًا نشيد عليه الهوية الثقافية والوطنية اللازمة والضرورية لتأسيس الدولة القومية الحديثة، هذا التاريخ بهذا المعنى هو تاريخ المدن في منطقة الهلال الخصيب وليس الارياف، بغداد والبصرة والموصل وحلب ودمشق والقدس ونابلس وغزة ، وليس اريافها . بهذا المعنى صدام حسين اقل عراقيةً مما يعتقد كثيرون ، وحتى مقارنة بسيطة مع عبد الكريم قاسم ، صحيح انه ارتكب ..يتبع

  2. يقول فلسطيني رام الله:

    أخطاء هو الآخر لكنه في هذا السياق كان مدني بغدادي، ارتباطه بالمكان وحبه اصيل ومتأصل كاصالة بغداد نفسها ، يختلف عن صدام حسين الذي ظل وفيا لتكريت ومنطقها العشائري والقبائلي ، حتى ان لهجته ولكنته ظلت كذلك بالرغم من السنوات الطويلة التي عاشها في بغداد ، هناك لقطة فيديو في مؤتمر القمة العربية قبيل قرار غزو الكويت الكارثي والذي عقد في عمان بصق على الارض ، من المحرج سرد هذا مثلاً في الواقع لكنه مثل طريف ايضا ويقع في سياق انه فعلًا بقي ريفيا ولم يستوعب بغداد الكبيرة .

  3. يقول عابر:

    لم يكن صدام حسين طائفيا على الإطلاق، وتوفي دون أن يترك في حوزته ولو مليما واحدا في البنوك الأجنبية، ويفترض في من جاؤوا بعده على ظهر الدبابة الأمريكية أن يكونوا أفضل منه، لكنهم كانوا أسوأ منه على كافة المستويات. الفساد في بلاد الرافدين حطّم الرقم القياسي عالميا، والأخطر من كل هذا هو أنه، في عهده، كان التغيير محتملا بالثورة على صدام حسين الفرد، أما في النظام المحاصصاتي، الذي بناه دستور بريمر، فلا أمل في التغيير للنهوض بالبلد، بتاتا..

  4. يقول عالية:

    بعد 20 سنة من إسقاط صدام حسين يفترض في العراق أن يكون بلدا له سيادته الكاملة على جغرافيته، لكن البرلمان العراقي أصدر قرارا يدعو لإخراج القوات الأمريكية من العراق، غير أنها لا تزال رابضة إلى اليوم هناك….

  5. يقول أيمن مومو:

    بعد صدام حسين صار في العراق حوالي 100 صدام. وكل واحد منهم يبز الآخر في النهب والسلب والتجاوز على القانون…

  6. يقول كوثر:

    كانت السلطة في عهد صدام حسين محصورة في شخصه، وكان لها عنوان هو الرئيس، وكان المواطن العراقي، على الأقل، يطمع في امتلاك القدرة على محاسبة رأس هذه السلطة التي تقمعه، أما اليوم فإن السلطة في العراق باتت هلامية وبأيدي منظومة متكاملة ولم يعد لها عنوان، وبات من المتعذر مساءلة أو محاسبة أي كان من رموز هذه السلطة الغارقة في الفساد والاستبداد….

  7. يقول رياض:

    الكاتب على صواب عندما يقول: ((( ابتلع الحكم المركزي الصدامي الاستبدادي، وظائف الدولة وجيرها لصالحه، كذلك ابتلعت اللادولة بعد 2003، مزايا الديمقراطية وجيرتها لصالحها))))، لكن هذا الكلام يؤكد على وجود الدولة على الأقل في عهد صدام حسين، بكل عيوبها ومثالبها، أما عقب إسقاطه، فلقد ساد في العراق ويسود إلى يومنا هذا، نظام اللادولة، أي فوضى المليشيات والعصبيات والطائفية البغيضة…

  8. يقول Farid Furat:

    المقارنة ممكنة حسب مقولة ما أشبه اليوم بالبارحة.

  9. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي إيلي عبدو. لاهذا ولاذاك. المقارنة عادة تكون لتوضيح أيهما أحسن أو أي فضائل هي الأكثر. بينما هنا لانرى إلا الأسوأ والأسوأ. لا لنظام البعث الصدامي الدكتاتوري البشع الفاسد ولا للنظام الطائفي المليشاوي الحالي الفاسدالتي تسيطر فيه إيران على مقدرات العراق. في الحقيقة يمكن القول أن النظام الدكتاتوري هو الذي أوصل العراق إلى هذا النظام المليشاوي الطائفي. فلو كان العراق في عهد البعث عمومًا، يحترم المواطن والوطن لما وصل العراق إلى هذا الحال، وكما هو معروف ثورات الوطن العربي كانت لنقل المجتمع نحو التطور المعاصر والحداثة هههههه. وهكذا مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس ….. كيف الخروج من هذا المأزق الحضاري هذا هو السؤال.

  10. يقول ‪Taha Alhashemy‬‏4:

    لا تتحدث اطلاقا عن ان الامبريلية العالمية و من ضمنها الصهيونية حاربت صدام لانه صنع التأميم و محا الأمية وجعل التعليم من الروضة الى الدراسات العليا مجانية. واصبحت قضية فلسطين المعيار الذي تتعامل به دولة البعث مع الآخر. وللعلم فإن الرأيدسمالية لم تعطي الف!صة لصدام ان يتوجه للعراق فالازمات متتالية بقيادة أمريكا و تتابعها. و لابد من الإشارة ان الدول التي حماها صدام هي نفسها التي قادت المؤامرة على العراق. هل كان صدام جاهلا؟انك لم تقرأ خطاباته اصلا. صدام مفكر من الطراز الاول ولكن لم يعطا فرصة

اشترك في قائمتنا البريدية