يؤرقني سؤال في هذه الأيام، وقذائف العدو الصهيوني تنهال علينا في غزة: هل يستطيع العرب كتابة رواية سلمية، تقاوم المحتل بلغة مبتكرة، بعيدة عن العنف، تستطيع أن تخاطب الوجدان، مثل «صمت البحر»؟ ألا نحتاج، اليوم في زمن أصبحت فيه الرواية ديوان العرب، إلى كتابة، تصل إلى الضمير العالمي، وتفتح وعيه على عدالة قضيتنا الفلسطينية؟ لكن هل يمكن لأي روائي عربي، وهو يرى قتل الأطفال والنساء والشيوخ، أن ينظر إلى الآخر الصهيوني نظرة متسامحة هادئة، تؤسس لحوار معه؟
من المعروف أن الرواية فن أقرب إلى الموضوعية، يبتعد عن لغة الانفعال، أو بالأحرى يحاول أن يوازن بينه وبين العقل! لكن كيف يرسم المبدع شخصية روائية بحروف محايدة، أمام مشاهد الدم التي تصفع قلوبنا وشاشاتنا؟ هل يمكن أن تتسع مخيلة هذا الروائي وفكره لتقنية تعدد الأصوات، التي ما زلتُ أحلم أن تستطيع الرواية العربية تجسيدها؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن أن يتاح للمتلقي العالمي أن يعيش تواصلا وحوارا بين صوت (الأنا العربية) التي قهرها الاحتلال (الداخلي والخارجي) وصوت (الآخر) المحتل الصهيوني ـ الغربي؟
لكن قد يقال: لا يجوز كتابة الرواية إلا بعد مرور زمن طويل على الحدث التاريخي، كي تنضج الرؤية والمشاعر، عندئذ يهدأ انفعال الروائي، الذي يمنعه من الإصغاء إلى الآخر؟ هنا نتساءل: ألا يكفي مرور خمسة وسبعين عاماً على النكبة، لإبداع رواية تخاطب الضمير، وتدهش المخيلة، وتوقظ الفكر؟ ألم يكتب تولستوي روايته الخالدة «الحرب والسلام» بعد احتلال نابليون لروسيا بخمسين عاما؟ لكن هل يحق لنا المقارنة بين محتل رحل وآخر ما زال يصول ويقتل في فلسطين؟
لا أريد أن تكون هذه الأسئلة نوعا من جلد الذات، نعم لدينا تجارب مشرقة عربية، وخاصة فلسطينية (غسان كنفاني، إبراهيم نصرالله، سحر خليفة..) لكن لا أدري إن كان لدينا، في اثنتين وعشرين دولة، تنطق باللغة العربية، رواية، ترى في الهم الفلسطيني همها الخاص، وتقاوم المحتل بطريقة مبتكرة، مثل رواية «صمت البحر»؟ وكي لا نتيه في تساؤلات منغصّة! سأبحث عن جماليات هذه الرواية:
يضع المؤلف، منذ البداية، بطليه الفرنسيين (الجد والحفيدة الشابة) في موقف حرج: كيف يستقبلان مرغَمين عدوا (هو الضابط الألماني) في فضاء لا يمكن أن يتسم بالحياد (البيت) فهو الوطن الأول، الذي يمنح المرء الطمأنينة، وسكينة الروح؛ لذلك يبحثان عن سلاح لا يملكان سواه، هو الصمت، يضيف إليه المؤلفُ البحرَ، كي يشاركه الهدوء الظاهر، الذي يوحي بالتأمل وإيقاظ الروح؛ والانفتاح على جمال كوني، مثلما يشاركه اضطراب الأعماق، التي تموج بالمشاعر والأفكار والأحلام.. بالإضافة إلى هذا العنوان الموحي برفض الأسرة الفرنسية وقلقها، حين اضطرت لاستقبال عدوها، اختار (فيركور) فضاء روائيا آمنا (البيت) يدخله العدو الألماني ساكنا طارئا على حياة سكانه الأصليين، حتى إنه يعتذر لاضطراره الإقامة فيه! في حين يدّعي الصهيوني أن له حقا تاريخيا في فلسطين، فهي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض! هنا نتساءل: ما سمات الشخصية الروائية التي تجدي معها المقاومة السلمية؟
نلاحظ أن فيركور رسم (الضابط الألماني، الذي ينتمي إلى الجيش النازي) في هيئة مسالمة مريحة، فهو شاب، «نحيف، باسم الطلعة» كما أنه مثقف، يتقن لغة التواصل (بفرنسية سليمة) مع الجد والحفيدة، ما يوحي للمتلقي برغبة المؤلف في مدّ جسور التفاهم بين هذا الضابط، وأصحاب البيت، رغم غلاف الصمت، الذي تلوذ به، لتنفي المحتل عن فضائها النفسي الحميمي، بعد أن عجزت عن نفيه عن فضائها المكاني، لكن سماته الودية وثقافته الواسعة، التي منحته اتساع الصدر والانفتاح على قيم عليا، تجعل الحياة أكثر معنى وجمالا! لهذا أنطقه المؤلف لغة مرهفة، تكثر فيها مفردات الأسف والأمنيات الطيبة للأسرة، ما أوحى للمتلقي باحترامه خصوصية البيت وحرمته؛ كما تعمّد رسم حركته بعناية شديدة: كان يقف أمام الأسرة متحدثاً، دون أن يبيح لنفسه الجلوس على أي مقعد، فقد أحس، حين شهرت في وجهه سلاح صمتها، برفض الأسرة لأي علاقة حميمة معه! رغم ذلك عبّر عن مشاعره الإيجابية لبيت العائلة، إذ رآه أفضل من قصر، فهو ممن لا يهتمون بالمظاهر الجوفاء! فالبيت بسكانه لا بزخارفه! فقد كان يبحث عن التواصل الإنساني، بعيدا عن منطق القوة والعنف، لهذا وجد في اللغة (التي هي نقيض الصمت) إحدى وسائل هذا التواصل.
لا يكتفي الروائي برسم شخصية مثقفة، تتقن لغة تواصل فكري وأدبي (مع المغلوب) وتحترم منجزاته، بل بدا عاشقا للغة تواصل روحي أيضا (الموسيقى) التي ترتقي بالإحساس، فتلغي مشاعر العداء بين الألماني والأسرة، إذ كليهما يجيد العزف على الأرغن، مما يعزز لغة، تخاطب القلب، وتكسر حاجز الصمت، فتشيع فضاء منفتحا على ما هو سامٍ وجميل؛ لهذا تعمّد المؤلف أن تكون مهنته التأليف الموسيقي.
رسم المؤلف ملامح شخصية غير نمطية للعدو، ينطقها بلغة المثقف الحساس، الذي خَبِر الثقافة الغربية المنفتحة، التي لا تؤمن بمركزيتها وقوتها، بل ما يدهش المتلقي هو إعجاب الضابط الألماني بتميزّ الثقافة الفرنسية على ثقافته القومية، فإذا كان للإنكليز شكسبير وللإسبان سيرفانتس وللإيطاليين دانتي وللألمان غوته، فإن للفرنسيين (موليير، راسين، هوغو، فولتير…) إنه لا يكتفي باحترام إنسانية الموروث الإنساني الفرنسي وغزارته، بل نجده معجبا بجمال الطبيعة الفرنسية (أشجارها تمتاز بالرقة، أما الثلج فيشبه الدانتيلا) في حين رأى الطبيعة الألمانية أشبه بثور هائج قوي، لا يعيش دون استعراض لقوته، لهذا شتان بين جمال يرتقي بالروح، ووحش، لا يتقن سوى لغة القوة والتدمير! إنه يبحث عن الجمال بعيدا عن أي انتماء ضيق! هنا نكاد نسمع صوت المؤلف الفرنسي، يسقطه على صوت الألماني (حين يمدح الأنا الفرنسية) وبذلك حاول المؤلف أن يخالف أفق أي توقع للمتلقي، حتى إن هذا الضابط يحترم حرية هذه الأسرة، ومقاومتها الصامتة له، ويعلن احتقاره لقرية (سانت كنت) التي استقبلت قومه الألمان دون أي مقاومة! لهذا لن نجد في رواية «صمت البحر» لغة العنف والإلغاء لمن هو ضعيف محتَل، بل لغة ودودة، تحترم المقاومة الصامتة للأسرة، التي يراها مجسدة لروح فرنسا (بلد الثورة والحرية) التي أسست لقيم إنسانية!
لا يكتفي الروائي برسم شخصية مثقفة، تتقن لغة تواصل فكري وأدبي (مع المغلوب) وتحترم منجزاته، بل بدا عاشقا للغة تواصل روحي أيضا (الموسيقى) التي ترتقي بالإحساس، فتلغي مشاعر العداء بين الألماني والأسرة، إذ كليهما يجيد العزف على الأرغن، مما يعزز لغة، تخاطب القلب، وتكسر حاجز الصمت، فتشيع فضاء منفتحا على ما هو سامٍ وجميل؛ لهذا تعمّد المؤلف أن تكون مهنته التأليف الموسيقي، فبدا راغبا في ابتكار مقطوعة على مقاس إنسان جديد، يقاوم كل ما هو بشع، ليزيل مشاعر العداء التي تورثها الحروب بين البشر! رغم أننا نفتقد في «صمت البحر» المعنى التقليدي للحوار؛ لأنه بين طرفين (متحدث وصامت) لكن المؤلف عوّض عنه بحوار الأعماق، فاستخدم لغة تفصح عن مشاعر الأسرة، حين دخل الضابط بيتها في افتتاحية الرواية، استقبلته بـ(نظرة معتمة، قاسية) وفي الخاتمة، حين ودعها، تحولت إلى (طيف ابتسامة راضية) كما استطاع أن يجسد عواطف الفتاة تجاه الشاب عبر حركة يديها، أثناء حياكتها لخيوط الصوف أو التطريز (تسرع قلقة تارة، وتبطء هادئة تارة أخرى) كل ذلك أن يمنح الفضاء السردي حيوية المشاعر الإنسانية، رغم لغة الصمت، التي تفصح عن رفض منطق الحرب، فتبدو متفاعلة مع لغة حضارية، نطق بها من هو عدو للأسرة، التي تمثل وجهة نظر المؤلف، الذي استطاع أن ينقل العدو في مخيلته إلى موقع الصديق! لهذا جعله يصرّح بكراهيته لمهمته الحربية، التي لا تناسب طبيعته ومزاجه المرهف! لكنه اضطر إلى تنفيذ وصية أبيه أن يكون ضابطا في الجيش! لهذا لن يستغرب المتلقي احترامه للصمت، الذي قاومت به الأسرة، فلم يسعَ إلى قهرها أو إجبارها على الإجابة عن أي سؤال يطرحه! لهذا بدا حواره أشبه بمونولوج داخلي، ينقل عبره أدق مشاعره وأفكاره وذكرياته ورغباته!
إنه يرغب في هدم كل مظاهر الحرب (القتل، الاغتصاب والظلم، والإلغاء) التي تخلق هوة، تسقط فيها أي محاولة للحوار، لهذا تنتهي الرواية دون أن يتبادل الضابط والجد (الراوي) وحفيدته سوى كلمة واحدة في الخاتمة (وداعا) فهي الرسالة الوحيدة، التي يتوجب على المحتل أن يرسلها إلى صاحب الحق (في البيت أو في الأرض أو…) عندئذ يستحق الرد: كلمة (الوداع) نفسها! من هنا بدت المقاومة السلمية للأسرة الفرنسية مجدية ومؤثرة، فقد أفصح الضابط الألماني عن رغبته في إنهاء مهزلة الاحتلال، ليتمّ الزواج بين ندين (فرنسا وألمانيا) يحققان توحدا حضاريا، يرقى بالبشرية!
ألا يحتاج هذا النوع من الكتابة إلى نضج فكري، وقدرة على التحكم بالمشاعر؟ تُرى هل يمكن إبداع حوار مع محتل، يعلن عصمته أمام الملأ، ويبيح دم الأغيار الحيوانات!؟ هل يمكن أن يلتقي من اغتُصب بيته، وشعور الظلم يلاحقه، مع من اعتدى عليه؟! ألا يستحيل النظر إلى الفضاء الفلسطيني، وقد أمطرته دماء أهله، دون تقديس وإعجاب؟ أعتقد أنه من العبث إجراء أي حوار ندي دون البحث عن مشتركات قيمية، تعزز العلاقات الإنسانية (حرية وعدالة وأخوة واحترام الاختلاف، إلخ) وتستبعد لغة الاستعلاء، ونفي الآخر، المخالف في الدين أو العرق.. لهذا سيكون الحكم الأخير هو للتقدم الحضاري لذلك هزيمة إسرائيل لن تكون انتصارا عربيا، ستكون انتصارا للتقدم الإنساني، وستكون هزيمة لأكثر مظاهر الحياة العربية على حد قول الشهيد غسان كنفاني!
كاتبة سورية
ياسيدة ماجد: قرأت مقالك بهدوء تامّ…من دون مجاملة حضرتك منْ يصلح لكتابة الرّواية التي تبحثين عنها أو تتمنين أنْ
تُكتب وفق المواصفات التي ذكرت في المقال…فقلمك سلس شفاف؛ ولغتك سليمة الحروف؛ ورؤيتك محيطة بالظروف.
فتوكلي على الله؛ وباشري الكتابة بثقة نفس وقدرة ذاتيّة لتحقيق المنجز الموصوف.