صناعة الحب الجديدة

حجم الخط
0

من المفاهيم الرائجة والمتداولة في مجتمعاتنا اليوم، نجد ما اصطلح عليه بـ”الحب”. مفهوم يحاصر سمعك وبصرك في الراديو كما في التلفزيون، كما في عالم النت وأمام قاعات السينما. ولن تبخل عليك الروايات والقصص، كما الجرائد بمدك بأخباره السحرية. مريدوه يزدادون وضحاياه كثر ومدمنوه لا ينقطعون.
إلى درجة غدا هذا المفهوم صناعة يساهم العديد في تعلمها وإتقانها في صورة جديدة اتخذت شعار التحديث وطابع العولمة العاطفية.
وغير خاف أن ثمة عوامل تساهم في نشر هذه الصناعة الجديدة في مجتمعاتنا العربية؛ منها الذاتي والموضوعي، كما أن هذا التحول يخلّف تدريجيا آثاره في وعي الأفراد والجماعات، ويؤثر بالتالي في طبيعة التفاعل داخل المجتمع.

الحراك الاجتماعي

إذ أصبحت تشغل ثيمة “الحب” مساحة مهمة داخل الحراك الاجتماعي، ما دامت تحرّكها دوافع ونوازع فطرية في الإنسان، حيث تشكل العاطفة والإحساس إلى جانب العقل مرتكزات التجاذب داخل هذه المنظومة العاطفية. كما أن طبيعة التفاعل داخل المجتمع تقتضي الارتباط بين الجنسين الذكر والأنثى، في شكل علاقات، تتنوع طبيعتها وغاياتها، وتتفاوت بين النبل والسمو والوقار، والخسة والنذالة، والرغبة في تحقيق نزوة عابرة وإيقاع أكبر عدد من الضحايا.
والمتتبع لطبيعة المظاهر التي تسم الجنسين، وكذا الواقف على العديد من السلوكيات التي يعرّيها الواقع بتجلياته، سيقف لا محالة على التغيير الذي أصاب العلاقات الإنسانية في مستواها العاطفي، من خلال التحول الذي أصاب تلك الروابط وحوّلها من رومانسيتها إلى عصر العولمة والسرعة، القائم على الربح بمختلف تجلياته.
ففي الوقت الذي يعتبر شعر فن الملحون “بحر الهوى صعيب أناسي ما صعبها ادزيرة”، أو عندما يرى شاعر آخر أن “الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه”. مثالية قد يعتبرها البعض ضربا من الخيال، بل أكثر من ذلك موضة يجب ركوبها بلغة العصر، من خلال حبك الكثير من أسرار هذه الصناعة القائمة على توزيع الكلام المعسول والوردي لتلبية نزوات ورغبات.

رسائل الإغراء

وقد تتخذ الأنثى من جهة أخرى جسدها مادة إشهارية توزّع الدلال والغنج، وترسل رسائل الإغراء، لكي تلاحقها كلّ نظرات وعبارات المنفلوطي، ويطاردها كلام قباني وألحان الساهر وصوت العندليب.
كل طرف يحاول البحث جادا عن حبيب أو حبيبة، أو أنيس أو أنيسة، وأحيانا زوج أو زوجة، إذ يختلف العزف وتتنوع إيقاعاته، كل واحد وديدنه المحبب. لكن وراء هذه الصناعة تداعيات أخرى، ذلك أن ما يوفره عالم النت، من فضاءات مفتوحة، ومن تجميع لتجارب شعوب القرية الكونية، في مساحات مهمة، يوفرها غوغل كما توفرها مواقع “الشات” بكل تجلياتها، دون أن نغفل الوسائط الاجتماعية “فيسبوك، تويتر، أنستغرام، يوتيوب”.. عالم مفتوح ومغر لكل من أراد التعرف على عالم عاطفي جديد اسمه “الحب الافتراضي”.
فتتحول التقنيات الحديثة إلى قنوات تواصل مباشر صوتا وصورة، نظرا لسرعتها في الإيصال وقدرتها التبليغية المختصرة. الكل يشارك في صنع عالم الحب الجديد المعولم بلغة العم سام، وأحاسيس إمبراطورية نابليون البائدة، وسحر روما وصقيع الدب الأبيض وطول أسوار الصين.

التسويق الإعلامي

وقد نجح التسويق الإعلامي الذي توفّره المسلسلات المدبلجة “التركية والمكسيكية” التي غزت بيوتنا، وزكت مقولة القرية الصغيرة، التي سمحت باكتشاف تضاريس أخرى من لغة القلوب، التي لا تعرف الملل ولا الكلل، لغة جعلت من بضاعتها منتوجا رائجا، لا يعرف البوار ولا الكساد. وعملة تفوق أسهمها بورصة وول ستريت. كل ذلك أرخى ظلاله سواء على العلاقات الزوجية أو الأخرى غير المقننة، وساهم في تبني منطقها القائم على المحاكاة وتقليد تدبير عاطفي جديد لطريقة التعايش بين الطرفين المشاركين العواطف والأحاسيس. وبذلك أصبحت تكسر شيئا فشيئا الكثير من الخصوصيات المحلية، من خلال الترويج لمعطى خيالي تحكمه الرؤية الدرامية بإثارتها وطوباويتها القائمة على الربح والمتاجرة.
لغة أصبحت تتسع دروتها الاستقطابية يوما بعد آخر. دون أن ننسى عاملا آخر، ذلكم المتمثل في تزايد نسبة العزوف عن الزواج، ما يدخل العديد من الإناث طابور الانتظار القاتل، والإحساس بالغربة والتشيؤ. ويقوي من جهة أخرى إصرارهن على التواجد ولفت الأنظار، من خلال التفنن في ابتداع طرق تواصلية جديدة، قد تصل عند البعض إلى درجة تقمص دور العاشقة والمحبوبة، وبالتالي قد تغوص في عالم الحب السريع، بدون تحكيم العقل والمنطق والخصوصية المحلية.
عامل آخر ينضاف؛ ذلكم المتمثل في تغيّر بنية المجتمعات العربية؛ سواء الاجتماعية أو العمرانية، وما تحدثه طبوغرافية المكان من فتح الشهية لمسايرة عالم الموضة والزينة ومغرياتها، إلى درجة يخيل للبعض أن البحث عن الجديد من العلاقات سنّة يجب اتباعها.
فهل وعت المجتمعات العربية مختلف تداعيات هذه الصناعة التي تزايدت درجات حرارتها وتحول مفعولها إلى إدمان عند البعض؟ ثم لماذا تحول الحب من مستواه النبيل، ودخل غمار المنافسة والاستهلاك والإنتاج على غرار باقي السلع؟
وهل تراجع دور الخصوصية والمحلية، وضعف دور الأسرة باعتباره النسيج القادر على القيام بدور التأطير والضبط والمراقبة والعقاب، وهل تعي النساء مقولة المنفلوطي”يجب ألا ينفتح قلب الفتاة لأحد من الناس قبل أن ينفتح لزوجها لتستطيع أن تعيش معه سعيدة هانئة، لا ينغّصها ذكر الماضي، ولا تختلط في مخيلتها الصور والألوان”. وكم يكفي من الوقت لتتحول المدرسة إلى ورشة لتنبيه الشباب إلى خطورة بعض العلائق غير المحسوبة العواقب التي قد تعصف بمستقبل العديد منهم، وتحول بعضهم إلى السجن، وآخرين إلى مصحات الطبيب للعلاج.
وهل ضُعف النموذج يساهم بدوره في تفشي سلوكيات الحب الاصطناعي؟
وهل انتهى زمن الحب الجميل، وأصاب الإهمال صبابة عنترة وغرام جميل بثينة وأنموذجية درويش، وأصبحت لغة “الواوا” نموذجا يغري صناع الحب الجديد؟ لأنه عندما يسقط النموذج “الحب” من برجه الحقيقي ويتجرد من معانيه الرفيعة، فإننا نساهم في إضاعة موروث يعد أقدم ما ورثته البشرية منذ أن وطئت أقدام الإنسان البسيطة. وصدق من قال “عندما نحب نفهم الحياة أكثر، نفهم أنفسنا أكثر ونفهم الآخرين أكثر، وبالتالي نتواصل أكثر”.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية