صناعة الشرق وأوهام الغرب

يبدو أن مفاهيم «الجغرافيا» فقدت كثيرا من تأثير تداولها المكاني، لتدخل في انساق مُعقّدة من التحوّل، كتمثيلٍ للمتغيرات الفارِقة في الصراع العالمي، وكتعبير عن تداوليةِ صادمة لمفاهيم متحركة تخصّ أطروحات «الجيوبوليتكا» بوصفها والأيديولوجي، وبفاعليتها في سياق التعاطي مع المسكوت عنه الأنثروبولوجي في تلك الصراعات، فمفهوم «الشرق» لم يعد مفهوما جغرافيا مجردا، وخاضعا لنمطية صورته الذهنية عن السحر والميثولوجيا، بل أضحى مجالا مفتوحا، ومركّبا، له قراءاته وتأويلاته المتعددة، وحتى له «صناعاته» التي باتت تقترح له وجودا ضديا يُخرجه من الحكاية إلى التاريخ، ومن العجائبية إلى الواقعية، ومن الهامشية إلى المركزية، لأن صورة «الشرق المقموع» لم تعد واقع حال في قياس مظاهر التخلّف الحضاري والإنساني، لأن الغرب «الحضاري» فشل في أن يتحول إلى «مجال عام» وفق أطروحات هابرماس، حيث القبول بالحوار والجدل والمكاشفة..

في المقابل فإن صناعة هذا الشرق لم تعد ممارسةً خطرة، ولا خارقة للثابت في أنثروبوجيا المكان، ولا لغموض ما عَلُق به من صورة تكرّست عبر أنموذج التابع، وعبر رثاثته إزاء ما تصنعه مركزيات القوة، واستيهامات ما فرضته سطوة الغرب العسكري والسياسي والأنثروبولوجي، التي دفعت بالشرق إلى أن يكون جزءا من صناعة خطاب الاستشراق، أي جزءا من الصورة التي يصنعها الغرب عن الشرق، بما فيها صورته الميثولوجية وتداولياتها المتعسفة، التي أدخلته في سرديات العجائبية والسحر، وفي تحويل وجوده إلى حكاية لا تخرج عن دائرة التخيّل، التي تُخضعه إلى تمثلات ومخفيات تصطنعها شخصيات ليس لها وجود إلا في الحكايات، وهو ما يجعلها صالحة للفرجة وليس للتشييد، ولمقاربة وجودها التاريخي في مراحل وجود وتطور حضاراته المتعددة، إذ عمل بعض المستشرقين والرحّالة على المغالاة في تسويغ تلك الحكايات، والتعريف بأبطالها بوصفهم كائنات عجائبية، تغيب عنها قيمتها الحضارية، وأدوارها في صناعة «السرديات الكبرى» السياسية والثقافية، فلا يحضر فيها سوى توصيفات الجسد والحكاية والصعلكة والشطارة، وأنموذج الملك الشهواني والسفّاح، التي دخلت وبقصدية إلى مجال سرديات اللذة والفرجة، بوصفها جزءا من متعة الآخر المركزي، التي يتم توظيفها للإسقاط الرمزي أكثر من التعريف بها كنماذج توصيفية لـ»مراحل حضارية مهمة» ولزمانات نشوئية، لها تأسياساتها الكبير في مجال العمران السياسي والثقافي، فضلا عن دورها في صناعة «المركزيات القديمة» كجزء من التمثيل الإمبراطوري للدول القديمة، عبر أنساقها الحاكمة، وعبر علاماتها المهيمنة في المكان، وفي «التاريخ» بما فيه تاريخ الصراع مع الآخر الذي عمد إلى «أسطرة» قوته وسيطرته، مقابل تغييب الآخر وتكريس وجوده داخل ما يمكن تسميته بـ«الأنثروبولوجيا الآمنة»..

صناعة هذا الشرق المُفارق، والنافر عن أساطيره، لا تعني أيضا الذهاب إلى اختراع بطولات ميثولوجية، ولا حتى الذهاب إلى اصطناع مدونات غرائبية، وإلى ما تركته «أدبيات الأسفار والمغازي والرحلات» من مقاربات يتكرّس فيها أنموذج البطل الغازي المتوحش، والمتفرج العالق بفكرة «الجيوسياسة الساكنة» وصولا إلى مرحلة «موت المكان البطل» بعد «سقوط بغداد» من قبل المغول، وبدء مراحل التشظي القومي، وسطوة الدويلات التي انتهت مع الدولة العثمانية، التي تعدّ أنمودجا للمركز الأنثروبولوجي الذي كرس هامشية الهامش، وأحسب أن هذه الهامشية هي التي كرّست صورا متعالية في سحرها للشرق العنيف والمتوحش، مقابل إحياء استشراقي لصورة «الشرق المُتخيّل» بقصوره ومدنه الميثولوجية وبجواريه وقيانه وشعرائه ومتصوفيه وملوكه. الشرق المتخيّل يتقاطع مع النزعة المرآوية التي كرّسها الغرب عن صورته، بوصف هذا الغرب إنسانيا، والشرق متوحشا، أو الغرب برهانيا والشرق عرفانيا، أو الغرب فلسفيا والشرق شعريا، والغرب مركزيا والشرق تابعا.

هذه الثنائيات المفارقة اصطنعت لها خطابات متعددة، انطوت على فهمٍ محدد للشرق، وربما تماهت في مرحلة لاحقة مع أوهام كيبلنغ الأيديولوجية الاستعمارية القديمة، والقائمة على تسويغ فكرة أن «الشرق شرق، والغرب غرب» التي تعني في سياقها الأنثروبولوجي تبريرا لـ»موت التاريخ» الذي صنعه الشرق، مقابل إحياء فكرة أطروحة «هيغل» التي ربطت «موت التاريخ» بصعود الإمبراطورية البروسية، التي مهدت في ما بعد إلى بدء الاستعمارات القديمة، التي حولت الشرق إلى محارق وتوابع، وإلى استفزاز الأنتلجنسيا الشرقية لاستعادة «صورة الشرق الإنسانية» عبر حركات النهضة والتنوير والإصلاح وانتهاء بـ»حركات التحرر» التي سعت إلى الاستقلال عبر العنف، وانتهاء بصحوة الشرق الثقافية عبر توظيف الدراسات الثقافية، لاصطناع مصطلح «ما بعد الكولونيالية» التي مزجت بين الرفض والتمرد والبحث عن الخصوصية، تكريسا لفكرة «التابع الذي يتكلم» عبر أطروحات سبيفالك في دراساتها الثقافية، وعبر «وعي الاستشراق» كما في أطروحات أدوارد سعيد، أو عبر وعي الثورية التي تتمرد على الزنوجة والهامشية و»الشرقية» كما في أطروحات فرانز فانون.. هذه التحولات بدت تأسيسا لصناعة صعبة و»مُهيّجة» ومجالا نقديا، ومختلفا يقوم على مراجعة «ذاكرة القوة» وكاشفا مفهوميا عن « المسكوت عنه» في أطروحات ما كرّسه الغرب عن الاستشراق، وعن أنماط خطابه الحاملة لشيفرات الهيمنة والتعالي والمكر، ولكلّ ما يعلَق بـ»تماثلات النسق» التي فرضها التاريخ الاستشراقي والتبشيري والاستعماري، المغروس في مدونات وأسفار سرديات غنائم الحروب، وسرديات الغزو والاحتلال والمصالح التجارية والأمنية، وهي مدونات إشكالية، فيها من الفنتازيا والغرائبية والشعبوية، مثل ما فيها من العنصرية والقصدية التي جعلت الشرقيين يتماهون مع نوع من «الهابيتوس» الإيهامي والغارق في توصيفات المكان واللغة والوجود والميول.. ما جعل التمرد على فكرة «الهابيتوس» أول ملامح التمرد على « التشيؤ» وعلى التقليد والتعالي، مثلما كان أول الدوافع المُحفّزة على صناعة «الشرق الجديد» الباحث عن تقعيدات توصيفية، على مستوى المكان والهوية، أو على مستوى الوظيفة في إعادة التعاطي مع مفاهيم العالمية والإنسانية، وبكسر هيمنات القوة والسوق والثروة والجغرافيا، وما يحدث الآن من متغيرات في الجيوبولتيكا تكشف عن معطيات يتقوّض معها أنموذج الشرق القديم، شرق الحكاية والأسحار والميثولوجيات، وفي اتجاه بروز صور ضدية، يتمثلها الشرق المسلّح، والشرق الصيني التجاري، والشرق الهندي التكنولوجي، والشرق النووي الإيراني، والشرق الإسلاموي التركي وغيرها، وهي شرقيات أفقدت درس الأنثروبولوجيا القديم في الغرب سطوته في المفارقة، وفي إعادة إنتاج صور الشرق الصحراوي، والشرق الطقوسي، والشرق السحري والشرق العصابي، الذي يعيش عقد التابع والمهزوم والمتخلّف والمخدوع.

مسميات الشرق الجديد، لم تعد تكتفي بحيازة الثروة، ولا بأنموذج «المقاومة النمطية» على الطريقة الفيتنامية، وحرب الأدغال، بل أضحت لها حيازات أخرى أكثر تعقيدا، بدءا من العمل على اجتراح نصوص وأسفار وممارسات أكثر عقلانية ونقدية، وليس انتهاء بالتماهي مع أطروحات «النظرية الرابعة» التي يروّج لها الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين والخاصة بـ»وعي الذات» التي تمثل وعيا بمفاهيم الجماعة والأمة واللغة..

متغيرات السياسة.. متغيرات المفاهيم

ما حدث في الشرق الجديد هو الضد النوعي للشرق القديم، لاسيما بعد فشل الاستعمارات والهيمنات من تكريس فكرة «موت التاريخ» فما جرى بعد انتهاء حرب فيتنام، وحرب الهند الصينية الأخرى، وصولا إلى انتهاء حرب أفغانستان وحروب الخليج، وبروز الصين الجديدة ذات الاقتصاد الانفجاري، أسهم إلى حدٍ كبير في صياغة فهم جديد للشرق، ليس بوصفه الجغرافي والتاريخي، بل بدوره السياسي والاقتصادي، وبالطاقات الكبيرة التي يملكها، والتي عجزت «منظومات الغرب القديمة» عن احتوائها، وهو ما تبدى أيضا عبر سلسلة من المتغيرات، التي جعلت العالم يقف أمام خيارات صعبة، وعلى رهانات الصعب.. هذه المتغيرات ـ رغم صعوبتها- بدت أكثر شراسة في التعبير عن «خطابها» وعن تمثلاتها المفهومية للتعبير عن مسارات التداول، واصطناع مصادر أخرى للقوة، بوصفها الصياني/ الحمائي، أو بوصفها الأكثر تمردا على السياق، من خلال تبنّي سلسلة من السياسات والتحالفات والتجمعات – تجمّع شنغهاي، تجمع بريكس- انكسرت فيها هيمنة الغرب القديم، وصولا إلى التجاوز نحو تأسيسات فاعلة في الجغرافيا السياسية، وفي الجغرافيا الاقتصادية من خلال الاتفاق على إيجاد ممرات بحرية وبرية خارج سيطرة التاجر الاستعماري القديم، المسؤول عن «بخور الهند» وعن «رز أدغال جنوب آسيا» التي تبدأ من «طريق الحرير» الصيني، ولا تنتهي عند «طريق التنمية» العراقي، وهي طرق استراتيجية تتبدى فيها هوية الشرق اللاحكواتي، الذي يواجه الزمن عبر نصوص/ إجراءات تموت فيها السحرية، لتحيا واقعيتها عبر «نصوص ضدية» تنسحب من التاريخ الذي صنعه الآخرون، ومن الجغرافيا التي صممها الآخرون.

حرب غزة وبداية الشرق

قد تبدو هذه الثنائية مقاربة مُقترَحة، أو مُفترَضة، لكنها ليست بعيدة عن موت «أنسنة الغرب» وبدء ظاهرة « أسرلة الغرب» التي استنفرت اللاوعي الجمعي، وبعثت على تحريك جديدة للمفاهيم، فالغرب، كما كشفت المعطيات والمواقف ما زال مخلصا لذاكرته الاستعمارية، ولعل موقفه اللاإنساني من الحرب على غزة أعادنا إلى أطروحاته عن الحروب العنصرية، وإلى توظيفاته لمفاهيم القوة والسطوة والمركزية، مقابل رثاثة فهم مفاهيم أخرى تخصّ العدالة والمساواة والحق، وهي قيم تجوهرت في أهداف تأسيس «منظمة الأمم المتحدة» و»مجلس الأمن» بوصفهما مؤسستين ينبغي أن يكفلا الأمن العالمي، لكن العقل الغربي/ الأمريكي وتعالقاته مع ذاكرة الغازي والمُبشّر والمستشرق رفض هذه الكفالة، وتصرّف عبر نزعته «الإسرائيلية» لتكريس منطق اللاوعي المركزي في النظر إلى الشرق، ومنه الشرق العربي نظرة دونية، لا تؤمن بحرية شعوبه بالاستقلال والسيادة والتحرر، لاسيما ما يتعلّق بإنسانية القضية الفلسطينية، التي هي قضية شعب أكثر من كونها قضية حرب عابرة، أو صراع إقليمي..

هذه السقطة الأخلاقية للغرب جعلت الثقة بـ»الحداثة» وقيمها عن الإصلاح والتنوير مثارا للسخرية، فازدواج المعايير تحوّل إلى نوع من «العور» الإنساني، وجعل من التصديق بحكاية هوسرل عن «الغرب الإنساني» مجالا للمراجعة، وباعثا على النقد، وهو ما ينبغي أن تعمد إليه مؤسسات أكاديمية عربية، وحتى شرقية، للتحرر من عقدة الخوف من الغرب، ومن العقوبات الأمريكية، التي هي عقوبات مسلحة وليست تعبيرا عن وعي بالمسؤولية الحضارية، وعلى نحوٍ يُذكرنا بشجاعة أدوارد سعيد الذي جعل من «أطروحة الاستشراق الغربي» فكرة ضدية، وجاهر بفضائحية الغرب الذي ما زال يصنع الحروب أكثر مما يصنع قيم الجمال والتقدّم والتحضّر.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية