تناولت رواية حسن بحراوي «بنات ونعناع « ثيمة تعد من التابوهات في ثقافتنا الاجتماعية، بحيث تابعت سيرة مجموعة من «العاهرات» اللواتي عشن في الستينيات والسبعينيات من النصف الثاني من القرن العشرين .تقوم هذه الرواية على قوة المتخيل الشعبي، وتستند بقوة إلى الحكاية، وتستفيد من الطاقة الدلالية للتعبير الشفهي المغربي في سبك أحداث الرواية وبناء عوالمها. فهي تنطلق من رؤية تعاكس الخطاب السائد، وتصر على تناول الأمور من زاوية أخرى غير تلك المستهلكة. فهي تنبش في التابوهات وتعمل على مساءلة صورة الهوية المكرسة رسميا عبر إعطاء قيمة للمهمش واستحضار صوت المحرم ومعاكسة الثقافة المهيمنة في بعدها السلبي، كما تتناول قضايا القاع الاجتماعي بنفسٍ جديدٍ بعيد عن دعاوي ومقولات الالتزام الكلاسيكي في الكتابة الروائية. وهي مقاربة تزيل الحاجز بين المنطوق الشفهي والمكتوب المدون، وتنفذ إلى صلب الحياة لهؤلاء النسوة الجانحات في نظر سلطة المجتمع ومؤسساته الأخلاقية، ما يمنح شرعية إبداعية لدخول المنفيات خريطة المتخيل السردي الذي يحررهن من الأحكام المسبقة.
وقد احتضنت هذه الرواية التمزقات المجتمعية، كما دافعت عن صوت هؤلاء المنبوذات، ونددت بأخلاقيات المجتمع الزائفة ومظاهر تقوى النفاق والتدين المصطنع. وسنكتفي هنا بالوقوف على بعض مرتكزات المتخيل الشعبي في رواية «بنات ونعناع» التي أثرت في تشكل هذا الخطاب الروائي وعمقت دلالاته. كما اعتمدت على مركزية الحكاية وتبئير القاع الاجتماعي، حيث ظلت هذه الرواية وفية للحكاية، بل جعلتها مرتكزها الأساس في تشييد خطابها الجمالي. وهذا يشكل نوعا من المصالحة مع المرجع (المجتمع) تلك المصالحة التي تستدعي العودة إلى الذات والمجتمع والتاريخ والذاكرة، وتقضي أن لا تبقى الكتابة منشغلة بذاتها وحسب، بل أن تعيد الاعتبار للمرجع الاجتماعي، أي اصطدام الذات بمعضلات الواقع الشرس. وهي عودة أيضا جعلت هذه الرواية تنفتح على التراث المكتوب والشفهي، ووفرت مشتلا خصبا للنهل مما يوفره من طرائق سرد وأشكال حكي وأبنية تخييل، وهو ما يغني النص ويطعّم رؤيته ويعمق دلالاته.
حتضنت هذه الرواية التمزقات المجتمعية، كما دافعت عن صوت هؤلاء المنبوذات، ونددت بأخلاقيات المجتمع الزائفة ومظاهر تقوى النفاق والتدين المصطنع.
ويتجلى احتفاء الروائي حسن بحراوي بالحكاية في ذلك التتبع التفصيلي لحيوات متجاورة لخمس بنات يعملن في البغاء في دار كائنة في حي يسمى القصبة، في مدينة لا تحمل اسما في الرواية، ومع ذلك تسهل معرفة أنها مدينة المحمدية ويتمحور السرد بالأساس على شخصية الزاهية، التي تدير بيت الدعارة وتتحكم في علاقاته الخارجية، بعد أن ورثت الحرفة والبيت معا عن معلمتها الخوضة. والملاحظ أن السارد قد تتبع حياة كل امرأة في ذلك البيت، منقبا عن مختلف الأسباب التي دفعتهن إلى عالم البغاء، بحيث يبدو أن الروائي كباحث سوسيولوجي متمرس يستقرئ الدوافع والمراحل والمآلات في مهنة ترمز إلى العار والخطيئة، وتهدم مفهوم الشرف الذي يعتبره المجتمع مركزيا في تصوره لهويته. والراوي يحاول أن يرصد مختلف العلاقات الاجتماعية التي تربط بين النساء المشتغلات في هذا المجال على المستوى الداخلي، من حيث البنية التراتبية السلطوية، بين الزاهية وبناتها وأشكال اتخاذ القرار وصيغ التدبير، كالتفويض والتعاون وتوزيع المهام والتخصصات. ثم تلك العلاقات الخارجية مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي، ليشير الكاتب إلى تمثلات المجتمع والسلطة إزاء هذه الفئة المهمشة والمرفوضة، بل المقصية تعبيريا وإن كانت موجودة وحاضرة في المجتمع. كما أشار من خلال النص إلى طموح هذه الفئة للمشاركة في الحياة العامة كمشاركة الزاهية وبناتها في الحملة الانتخابية، ومسيرة الفاتح من مايو/أيار العمالية، ودعم الفريق الكروي المحلي، والتفاوض مع السلطة، وحضور موسم الولي الصالح سيدي موسى المجذوب. وكلها كانت خطوات تتغيا انتزاع الاعتراف بالوجود والوظيفة الاجتماعية لهؤلاء النسوة المغبونات، لكن قدر التهميش هو الحكم النهائي بالنسبة لهن «فهؤلاء سلالة أخرى من الكائنات المحلقة في ملكوت الظلام». ومع اختفاء ثلاث بنات بعد ليلة أنس مع بعض الشباب الغرباء، اتخذت الحكاية بعدا تشويقيا مع توظيف بعض تقنيات الرواية البوليسية.
لقد سيطر الاهتمام بهذه الفئة المنتهكة اجتماعيا واقتصاديا على عوالم الرواية، وصيغة بنائها السردي، بحيث بدت شبه مرافعة اجتماعية حول هذه الشريحة من النساء مع التركيز على الجوانب الإنسانية بشكل أبعد الرواية عن التناول النمطي لمسألة الدعارة، بحيث تخلو الرواية أو تكاد من المنزع الفضائحي وتترفع عن تناول الجسد النسائي في بعده الإيروتيكي «الجنسي» ما يشي بأن السارد يبتعد قدر الإمكان عن ذلك التوظيف الاستهلاكي للمرأة المشتغلة في مهنة تتركز أساسا على الجسد في بعده الجنسي «سوقنة الجسد الأنثوي». ولعل هذا المنزع لا يجعل من الرواية ذات أبعاد أخلاقية، بقدر ما يسم الثيمة المتناولة بميسم عصرها، حيث ساد الرمز عوض الكشف والإيحاء، عوض الإدلاء والتلميح عوض التصريح والتورية عوض التعرية، بالإضافة إلى تلك الرغبة الجامحة التي تظهر عند صاحب النص في تقديم صورة إيجابية عن هؤلاء النسوة ومصدر عيشهن. إنه عالم بنات الهوى اللواتي يعشن على هامش المجتمع وليس لهن أسر تسأل عنهن سواء اختفين أو ظللن ماثلات للعيان، ولا من يأبه لوضعهن بعد أن صارت سيرتهن إلى سوء، ومصائرهن إلى غموض، ثم ما يلبث هذا الخطاب أن يمتد إلى باقي البؤر السوداء التي صارت هي الطابع العام لهذه المدينة الصغيرة «هذه ليست مدينة إنها جهنم الحمراء» فدور الدعارة تنتشر فيها بشكل مخيف، ومهربو البضائع والبنزين من الميناء وباعة الخمور غير المرخصين وتجار المخدرات وتجمعات اللصوص والنشالين وسراق الأسواق والحافلات. لقد هيمنت الثقافة الشعبية في هذا النص واستندت إلى بناء متخيل يمتح معينه من المخيال الثقافي الشعبي ومن الغرائبي والعجائبي عبر تجذره الوجداني، بالإضافة إلى وصف المحافل الشعبية، ثم ظاهرة الأساطير «فيلا الجمل حيث يظهر جمل كل ليلة يخرج من فيلا الطبيب» ناهيك من توظيف المعتقدات الخرافية، ما يشكل فرصة للإفادة من البعد الفانتازي في بناء المخيال الشعبي «الانتقام العجائبي الذي نزل بأفراد من السلطة تجاسروا على التحرش بحجاج موسم الولي الصالح سيدي موسى المجذوب» «ولعله الولي سيدي عبد الوهاب قد أشفق لحالها فغشى أبصارهم وصم آذانهم عن مكان وجودها». ومن أجل تعميق تناوله لهوية القاع الاجتماعي عمل الكاتب حسن بحراوي على توظيف المعرفة السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية لتصوير الكيان النفسي والاجتماعي لهؤلاء الشخوص. لقد رسم حسن بحراوي لوحة للعراء الداخلي لهؤلاء النسوة البائسات المنزويات في غياهب النسيان والتهميش والحكم الاجتماعي الجائر في حقهن كما نسج ملحمة وسمفونية حزينة عن الفقر، حيث ينتهي صراع الطبقات ويبدأ صراع البقاء.
كاتب من المغرب