ربما يدفعنا السير مع قول إينشتاين (1879- 1950) «أجمل ما يمكن أن نشعر به هو الجانب الغامض من الحياة» إلى حرف للرهبة مشوب بالخوف واليأس والأمل، وحالة من التساؤل الدائم عن مدى إمكانية أن يحيط الإنسان يوما ما بكل أسرار هذا الكون؟ الذي يبدو للوهلة الأولى دائم الانفلات، وعصيا على الإحاطة والاستيعاب بديمومة أسئلته، ومجراته المترامية، ومقاييسه التي تفوق حدود التصور، وامتداد ليله الأبدي، وإحساس الإنسان بضآلته عندما ينظر إلى الأرض التي تبدو من منظور الكون الفائق الضخامة نقطة مجهولة في محيط شاسع الاتساع. ومن ناحية أخرى تشي رحلة العلم بأن الإجابة على هذا السؤال تبدو مفتوحة للأبد، فكل اكتشاف جديد يرجح من احتمال أن المجهول شاسع وممتد، وربما يكون هو الحقيقة الوحيدة المطلقة في الحياة، لاسيما أن خطوات العلم تقارب الكون في ضوء نماذج للتفسير، وتسير خطوة بخطوة كمن يسير في ضباب كثيف. ما يدفع في اتجاه أن تكون هذه المنطقة من اللاكتمال هي سر الإنسان ومعنى حياته، في كونه يتقصى هدفا لا يمكن الإمساك به، كما سيزيف يدور في رحيل دائم من الأمل واليأس، منجذباً لأسرار الكون وأسئلته المتجددة في صيرورة غموض وتجلٍ، إلى أخرى أعمق.
وفي السياق ذاته ربما المتأمل لرحلات السندباد السبع الذي أعاد كتابتها نجيب محفوظ (1911- 2006) لا يفارقه طعم الندم الذي شعر به السندباد عندما فضل البقاء على الرحيل الدائم مع طائر الرخ؛ يقوده المجهول وآماله واحتمالاته اللامتناهية، مقابل النص الأصلي الذي يشعر فيه القارئ بالانجذاب إلى شعور الأمان الذي اعترى السندباد، وجعله يفضل البقاء في مدينته بعد الرحلة السابعة وكتابة نهايته بيده. فمنطقة الغموض في قول إينشتاين هي المنطقة التي تخلق فيها معاني الحياة…هي الخشوع أمام الكون وأسراره، الناتج عن الشعور بالرهبة، كما أنها سر الخلق الفني التي أرجعها رولان بارت (1915-1980) للذة النص في الولادة من رحم ما قبل الهاوية، من الذروة على حرف اللذة قبل الانجراف والتهاوي.
سيبقي لتلك الصورة أنها نقلت شيئا فائق الكتلة وعصيا على التصور من حيز العقل المجرد والرموز الرياضية، إلى حيز الحواس، مكتملا أمام العين، بالإضافة إلى دفعها لتدفق احتمالات شتى عن المسارات التي سيأخذنا العلم إليها عن الكون واحتمالات تفسير ماضيه والتنبؤ بمستقبله، كون سلطتها تنبع من المواجهة بالعين واليد.
صورة الثقب الأسود
وتأتي مركزية الصورة الأولى للثقب الأسود في مركز مجرتنا «درب التبانة» من الفتح الكبير لمزيد من الأسئلة والإجابات حول فهمنا للكون، انطلاقا من أنها الصورة الأولى «للعملاق اللطيف» والالتقاء به وجها لوجه في مايو/أيار الماضي، الذي تقدر مسافة ابتعاده عنا بـ 27000 سنة ضوئية، ولك أن تتصور النتيجة المهولة من الأرقام إذا حاولت أن تقوم بتحويل هذا العدد إلى الكيلومترات. وربما تأخذ الحيرة الإنسان من قول فريال أوزيل من جامعة أريزونا، في عرضها لهذا الكشف الكبير «قابلت هذا الثقب الأسود منذ عشرين عاما، وقد أحببته وحاولت فهمه منذ ذلك الحين، لكن حتى الآن لم تكن لدينا الصورة المباشرة عنه» وأضافت إنها الصورة الأولى للعملاق اللطيف في مركز مجرتنا» ومنبع تلك الحيرة ليس بالإنجاز الذي تم التوصل له، رغم تفرده، بقدر ما هي للتطلع للمستقبل الذي ينم عنه قول كل عالم علّق على هذا الحدث، فننتفض معهم بإحساس البداية المتجددة واللامنتهية… إحساس أن تلك النقطة الجديدة ستأخذك لآفاق ليست معلومة بعد، لكنها تعد بمزيد من الغموض والاكتشاف. فعندما تبدو الأشياء غامضة أو لامنطقية فلا شك في أن ذلك وعد من المجهول بأن يكشف عن سر من أسراره، أو تكون بمثابة وعد ببداية لعالم جديد لم يُكتشف بعد.
الحواس وجاذبية إينشتاين وماهية الثقب الأسود
يُرجع نيتشه (1844- 1900) استمرار الفيزياء لمدة طويلة من الزمن تفسيرا للعالم، لكون ارتكازها على الإيمان بالحواس، أي أنها تستمد استمرارها من الرؤية واللمس، ويقول برتراند راسل (1872 – 1970) «إننا حينما ندرس السماء، نحرم من حواسنا جميعا، فلا يتبقى لنا سوى حاسة النظر فنحن لا نستطيع أن نلمس الشمس، أو أن نسافر إليها» ولذلك لفهم الكون البعيد لا بد من لغة ما نستطيع أن نفهمه من خلالها، وقد أطلق عليها علي مصطفي مشرفة (1898 – 1950) لغة النور»فلا حد لحروفها ومفرداتها، كما أنها تعبر عن أسرار صنع المادة وكنه تركيبها، وما هي عليه من الأحوال مما لا يقع تحت حصر» بمعنى ان كل عنصر له نوع معين من الأطياف تدل عليه. فنشاهد الفهم من التحول من رموز لغة إلى أخرى والعكس.
فالصورة الملتقطة هي للأشعة الصادرة عن المادة المتوهجة حول الثقب الأسود، أي في ما يسميه العلماء منطقة «أفق الحدث» وأن تلك الأشعة هي ما نراه وهي ما نقيسه، وبعدها تأتي نقطة اللاعودة، أو ما يسميها العلماء «نقطة التفرد» وهي النقطة التي تفصل ما بين خارج الثقب وداخله، كما أنها النقطة التي لا يفلت منها أي شيء حتى الضوء ذاته، ولذلك سمي «بالثقب الأسود» وتُعد الصورة نتاج جهد 300 عالم من 13 مؤسسة بحثية، تدير شبكة عالمية من التلسكوبات، شكلت تلسكوبا بحجم الأرض لتستطيع تحقيق هذا الإنجاز. ولتخيل ذلك المعنى يجب تصور الفرق بين جاذبية نيوتن وجاذبية إينشتاين، يقول عبدالرحيم بدر (1920 – 1994) «الجاذبية عند نيوتن قوة وعند إينشتاين مجال». فجاذبية إينشتاين كما يمثلها العلماء تشبه تأثير كرة حديدية على قماش مطاط موضوع على منضدة مفرغة من الأعلى، فمجرد رمي هذه الكرة على القماش فإنه يأخذ الكتلة ويهبط للأسفل، وبالتالي يصبح الجذب ناتجا عن التقوس الحادث في نسيج القماش، وهو مشابه لنسيج الكون، أو ما يسمي الزمكان، وهو اجتماع للفظ الزمان مع المكان، بعد أن أدخل إينشتاين الزمان كبعد رابع في فهمنا للكون، وإذا لم تستطع أن تتخيل شخصا ما دون زمن، فستدرك معنى الزمكان. وفي هذا المثال يشبه كارل ساجان (1934- 1996) الثقب الأسود بأنه «يشبه نوعا من الحفرة التي ليس لها قعر» ومع مشاهدة الصورة تتجلي نبوءة نيتشه في ما وراء الخير والشر، واستمرار نسبية إينشتاين في فهمنا للكون، وربما تكون البداية أيضا لنظرية كل شيء حلم ستيفن هوكنغ.
وإجمالا سيبقي لتلك الصورة أنها نقلت شيئا فائق الكتلة وعصيا على التصور من حيز العقل المجرد والرموز الرياضية، إلى حيز الحواس، مكتملا أمام العين، بالإضافة إلى دفعها لتدفق احتمالات شتى عن المسارات التي سيأخذنا العلم إليها عن الكون واحتمالات تفسير ماضيه والتنبؤ بمستقبله، كون سلطتها تنبع من المواجهة بالعين واليد. ومن هنا ربما المتأمل لرحلة أبو حامد الغزالي (1058 – 1111) الفكرية سيجد هذا المعنى، حيث أربكت الحواس العقل، بحجة ربما تعد من الحجج الشاملة التي لا يدري الإنسان إذا كان العقل الحديث قادرا على تجاوزها، وهي «إن عدم تجلي الإدراك لا يدل على استحالته» فنشاهد خطها لمسارات مستقبلية متعددة للمعرفة، تمتد لآفاق لا نهائية ومفتوحة على كل الاحتمالات، ولاسيما أنها أعطت للمجهول سلطة يستمدها من احتمالات تجليه، وهنا أيضا تصبح روح الطفولة والشغف بالسؤال هي الطريق الوحيد للعبور خطوة إلى الأمام… الطريق الوحيد للمعنى، ويصبح الخُلق الأسمى هو الوقوف على الحياد من كل إجابة واحترامها في الوقت نفسه، ولا يكون التجاوز للإجابات إلا بأسئلة تعد بمغامرة جديدة.
كاتب من فلسطين