«صيادو الحكايات»: كيف عبّرت الرواية عن الحرب السورية

إن الأدب بوصفه محاكاة للواقع، نراه متجسداً في الكثير من الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية، وحتى الدراما التلفزيونية التي تكون فكرتها مقتبسة عن واقع حي. والحرب السورية ـ قد يكون التعبير هنا مبتذلاً ـ هي ليست حرباً بل ثورة، ومجازاً (مقصلة الموت السوري) والتي أضحت مادة دسمة لأدباء هذا البلد؛ كانت غابة مليئة بالعصافير، والروائي أصبح صياداً!

«الموت عمل شاق»

يخيَّم على بعض أجواء هذهِ الرواية ملامح رواية «الشيخ والبحر» لهمنغواي. فعل الصيد هو فعل الموت، حافلة نقل الجثة هي السفينة، والجثة هي السمكة، أما الأبناء الثلاثة فهم سانتياغو، والحواجز الأمنية التي تعيق إيصال الجثة إلى مثواها الأخير هي أمواج البحر التي أعاقت وصول السفينة إلى الشاطئ. وصولاً إلى التفسخ الذي التهم الجثة رويدا رويدا، والذي يرمز في رواية همنغواي إلى أسماك القرش التي بدأت بالتهام السمكة حتى وصلت إلى الشاطئ، ولم يبقَ منها إلا كومة عظام، تحمل البعد ذاته والدلالة ذاتها للشاطئ في رواية همنغواي. فقرية العنابية هي الشاطئ. في رواية «الموت عمل شاق» ــ دار نوفل/هاشيت أنطوان 2016 ـ قام خالد خليفة (1964 ــ 2023) بنقل الموت من طابعهِ السلوكي والجامد إلى طابع الحركة والحياة، وجسد الموت كمهنة يومية في حياة السوريين. إنها سيرة الموت السوري من دمشق إلى قرية العنابية. هي مسافة مجازية، لكن في الحقيقة هي سيرة الموت المغفل في جميع أرجاء الوطن السوري. إن تسمية القرى بأحرف (س وص) دون الإشارة إليهاِ بأسمائها الصريحة دلالة وإشارة إلى حقيقة الأحداث في البلد، وخوفاً من الاستجواب الأمني؛ فالرواية مكتوبة من وجهة نظر قريبة إلى الذين سمّوا أحداث سوريا بالثورة؛ إذ إن فكرة العمل مقتبسة من الحرب السورية بمسمياتها الكثيرة التي اختلف السوريون عليها، ميتا سردية النص هي واقعية أحداث التمسها المؤلف عن قرب. إن الرواية المكونة من ثلاثة فصول، تصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً؛ فالمشهد الأول كُتب كسيناريو، ويبدأ الفصل الأول بعنوان (لو أنك أكياس كمّون). هذا الـ(لو) هو حرفٌ للتمني، وكأن المؤلف كان يتمنى شيئاً لكنه يخفيه، ربما خوفاً.

هي رواية بصيغة اعتراف الذات للذات؛ أشبه بفشّة خلق. أبطال الراوية هم ثلاث شخصيات محورية (حسين ــ نبيل ــ فاطمة) التي تجري الأحداث من خلالهم. يموت الأب عبد اللطيف السالم في أحد مشافي دمشق، وتكون وصيته أن يُدفن في قريته العنابية إلى جانب شقيقتهِ ليلى التي انتحرت بحرق نفسها منذ أربعين عاماً. من هنا تبدأ معاناة الأبناء في نقل جثمان الأب إلى القرية وسط انتشار حواجز الجيش وازدحام شوارع المدينة ونقاط التفتيش. مشاهد سينمائية بحتة. كما أن استخدام الميكرو استعارة لرمزية الكاميرا في السينما، تتحدث الكاميرا، تنقل المأساة. ازدحام في ممر المشفى. ثلاجات الموت تكتظ بالموتى نتيجة المعارك الدائرة حول دمشق، الحواجز الأمنية سيئة السمعة، لم يعد للموت رهبة. هذهِ العبارة وحدها تصلح عنواناً لفيلم سينمائي؛ جميعها مشاهد حيّة من سينما البلاد. إن ذلك كله تمهيد يشير به المؤلف إلى أزمة الهوية، لا الهوية بمعناها القومي، أو الديني، وإنما هوية الرأي أو هوية المعارض في ظل الإرهاب والنظام القمعي اللذين يمنعان أن تموت بسلام في البلاد، فحتى الأموات يُحاسبون على أفعالهم؛ جثة الأب المتفسخة المتقيحة تعرضت للحجز بسبب مواقفه السياسية تجاه حكومة بلاده؛ فسابقاً كان صاحب الجثة المتفسخة معارضاً للدولة، فقد كان مطلوباً للأجهزة الأمنية وفروعها قبل سنتين من هذا التاريخ. يقول الضابط لابنه حسين بأنه سيتم اعتقال الجثة، حسب الأصول وتحويلها إلى المشفى العسكري لإثبات أسباب الوفاة، فالأب حيٌّ في سجل الأحوال المدنية. ويستوضح ضابط الحاجز الأمني: «إن البشر بالنسبة إلى الدولة مجموعة وثائق وأوراق، لا كياناً مادياً أو روحياً». هي ليست المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال الجثة، بل مرات كثيرة، لكن اعتقال الأب الميت لم يتم، وانتهى الأمر باتفاق بين الضابط وأبناء الميت بدفع «رشوة» مادية لإطلاق سراح الجثة. هنا إشارة صريحة إلى الفساد المتفشي في مفاصل الدولة حتى النخاع. لاعتقال الجثث دلالات رمزية أخرى منها، السلطة أصبحت تقدس نفسها وتقوم بفعل ملائكة الله؛ كأن المؤلف يريد القول بفانتازية مرعبة قل نظيرها.

المناطقية وأزمة الهوية

هناك إشارة صريحة من المؤلف إلى المناطقية وتأثيرها على هوية الفرد. كما إن الإقامة في المناطق المحررة سيحفز ذهن القارئ بقوة على طرح عدة تساؤلات ومنها هنا؛ هل عبارة «المناطق المحررة» جاءت لضرورة الفكرة المراد إيصالها، أم أن المؤلف كان معارضاً وله قصدية مسبقة بالمناطق المحررة، أم أنها إشارة صريحة من المؤلف ذاته إلى المناطقية وتأثيرها على هوية الفرد، فبمجرد انتمائك لتلك المناطق، ستكون مطلوباً للسلطة حياً أو ميتاً، وبهذا الصدد وضح المؤلف أن الآلاف اختفوا بسبب انتمائهم إلى تلك المناطق التي يعتبرها النظام مركزاً للمعارضة والثورة، أو موالون للنظام، لكنهم يقيمون في مناطق المعارضة. يصوغ لنا الكاتب إشكالية المنتمي واللامنتمي داخل الوطن نفسه، وما نتج عنها من قسوة وعنف دموي، كأنه يقول منتقداً إن ثقافة تقبل الآخر لدى الطرفين قائمة على الجهل، وعلى إلغاء طرفٍ لآخر لمجرد الاختلاف بالرأي. ثم يدفعنا إلى رواية 1984 لجورج أورويل؛ نظرية الأخ الأكبر ونظرية الحزب، ثم ينتقد واقع البلاد تحت مسمى الثورة، فيحثنا على قراءة رواية «مزرعة الحيوان».

هوة في باب عتيق

كثيرة هي المرات في حياتنا التي نكون فيها منحازين لطرف تبعاً للفكرة التي نؤمن بها، إذ إننا لا نستطيع إمساك العصا من المنتصف، والأمر متعلق بقناعاتنا ومصالحنا الشخصية عن الحرب السورية، أو الثورة السورية. هناك الكثير من الأعمال الروائية التي كتبت في ظل الأزمة السورية؛ فهناك من كتب روايته من وجهة نظرهِ كمعارض لسلطة الدولة، وهناك من كتب روايته من وجهة نظرهِ كمؤيد للدولة السورية. لذا فإن رؤية خراب سوريا روائيَّاً لها قناعات ووجوه متعددة. ربما كان على الروائي تجاهل بعض الأحداث أو إخفاؤها عمدا، أو نسبها إلى الجهة الأخرى دفاعاً عن قناعاته، أو التلاعب بها مستفيداً منها في تشويه صورة الآخر المعادي له، دون الاكتراث بالموت الذي حلّ في وطنه، وحوّل بلاده إلى مقبرة كبيرة.
«هوة في باب عتيق» ـ دار آس 2018 ـ هي رواية الخراب السوري من المبتدى إلى المنتهى، الذي لم ينتهِ القتل والقهر فيهِ بعد، فمؤثرات الحرب ما تزال ملامحها ظاهرة، وإنها رواية تصور الدمار والقتل والاختطاف في ظل سنوات الحرب، التي قلبت البلاد رأساً على عقب وحولتها إلى مملكة للموت وجمهورية للفجيعة، على حد تعبير كاتبها علي محمود؛ فتحولت البلاد إلى مناطق ساخنة اشتد فيها القتال، وشبح الموت التهم مدينة تلو الأخرى، وكما ينبت الفطر في الأرض يظهر فيها المسلحون تحت مسمى الثوار، فتهرع قوات الدولة السورية إلى تحريرها منهم ليهرع المواطن السوري هو الآخر حفاظاً على حياته إلى مدينة سورية أخرى، فيصور معاناة المجند في قطعته العسكرية المحاصرة من انقطاع سبل العيش، فيضطر إلى المخاطرة بحياته بحثاً عما يبقيهِ حيّاً كما فعل يعرب عيسى حين سرق بقالية وحافظ على حياتهِ بعد محاصرة المسلحين لمعمل السكر في منطقة جسر الشغور. وفجأة تختبئ البنادق وتخرج السيوف المصقولة لتبدأ بحصد الرقاب بعد معركة دامية بين قوات الجيش وفصائل المسلحين، وهنا عندما يصور الروائي معركة بين جيش الدولة وجيش تشكل حديثاً ـ الجيش الحر ـ كأن الذي حصل في سوريا كان مدروساً، لتحصل انشقاقات في صفوف جيش الدولة، ويتشكل جيش يسمي نفسه بالجيش السوري الحر، من خلال مقطع فيديو يظهر على شاشة قنوات مغرضة، كما سمّتها الدولة السورية.

على مداخل ومخارج المدن وتحسباً لامتداد شبح الحرب أو الثورة انتشرت الحواجز العسكرية بكثافة؛ حواجز كانت نيتها حماية المدينة، لكنها أيضاً أذلت سكانها. إشكالية هذهِ الرواية تكمن في أن كاتبها يقف على خط الحياد، جلّ همهِ تصوير خراب سوريا دون أي رتوش، هو بذلك يؤكد بشاعة الحرب ومدى تأثيرها على الحياة السورية والإنسان السوري، من خلال شخصياته المحورية، كأنه يقول علناً إن كان الذي حصل ثورة، أو حرباً أو أيّ شيء آخر، لا يهم، الأهم أن سوريا في طريقها إلى الخراب. في تصويره خراب سوريا، يتساءل الروائي كيف يكون الثائر ثائرا، وهو يقطع خطوط الكهرباء ويحرق المدارس ويفجّر المستشفيات وخطوط النقل، ويتصل بعدو تاريخي، ويواجه الروح بالساطور، إنه بهذا يطعن بالذي حصل في سوريا تحت مسمى الثورة، دون أن يطلق على الذي يحصل صفةً ما!
الحيادية لم تكن مجرد رأي آمن به كاتب العمل تجاه ما حصل في سوريا، بل كانت الصيغة الأوضح والأمثل لتقديم صورة عن الذي يحارب السلطة تحت مسمى ثائر وثورة، فيلتقط صورة عفوية لحوار يجري بين ثلاثة ثوار، أحدهم قائد بلحية حمراء يلبس درعاً مضاداً للرصاص ويتكلم العربية الفصحى، وهم يخططون لعملية تفخيخ شارعٍ بأكمله، كما أن نيتهم تصوير جثث المدنيين على أنهم من ضحايا مجرزة ارتكبها النظام، وإن الجيش الحر هو من حرر المدينة؛ وذلك أثناء قيام المجند يعرب برفقة ثلاثة شبان بتعفيش أحد البيوت في المناطق الساخنة. صورة التعفيش ليست مجازية، بل توكيدية رمزية ذات مغزى عميق يشير بهِا الكاتب إلى حالة الفقر الذي يعانيه المجند يعرب، والمواطن المدني كصفة عامة، فهو يسرق بيتاً على خط تماس مباشر مع طرفٍ منازع له، ذلك البيت الذي تعود ملكيتهِ لرئيس الحزب. إن تعفيش منزل رئيس الحزب له دلالة تصويرية يشير بها إلى حالة النعيم الذي يعيش فيه مسؤولو الدولة، والآخر الذي يدافع عن السلطة وما يعانيه من ويلات في قطعته العسكرية، كأن الكاتب أراد أن يقول لطرفي النزاع: «أنتم لا تختلفون عن بعض بشيء»!

عمتِ صباحاً أيتها الحرب!

«عشت لأروي» هذا ما قاله غابرييل غارسيا ماركيز، الذي ورد في الصفحات الأولى من رواية «عمتِ صباحاً أيتها الحرب» ـ منشورات المتوسط 2017 ـ إذ كلما أعدت قراءة تلك العبارة؛ خُيل إليك أن كاتبها يحمل ثقلاً على كتفيه، أنزله لبرهة كي يخفف من وطأة التعب الذي أحدثه ذاك الحمل آخذاً قسطاً من الراحة، فيتحدث إلى المصادِف له في لحظة التقاط أنفاسهِ ثم يتابع سيره. ورود هذهِ العبارة في مستهل الرواية، فيه دلالة توكيدية على صيغة المتخيل الذاتي، الذي كُتبت في أجوائه. تتحدث الكاتبة مها حسن، نيابة عن شخوصها حكايا سيرهم الذاتية، فمن خلالهم تستوضح مفهوم البيت في زمن الحرب، ليكن صاحب الثقل هو ذاك الإنسان الخارج من معمعة الحرب، فبمجرد أن تكون هناك حرب يوجد القتل والتشرد والأنقاض، في الحرب قد يكون الموت أهون من البقاء، أن تكون شاهداً على ما تؤول إليه الحياة اليومية، إذ يأخذنا واقعها إلى البحث عن قيم الحياة البدائية من القاع والمتمثلة في البيت الذي يوفر الحماية والراحة ويحمي النفس من الذل والإهانة، فالبيت مرادف لحفظ الكرامة وعزة النفس، ودونه يكون الإنسان ذليلاً مهاناً؛ فالبيت على حد تعبير الراوية «حضن من الجدران دافئ وحميميٌ وخلاص من ضجر الآخرين» حتى إن كان الشخص يقيم في بيت العائلة أقرب البيوت بالنسبة إليه، لأنه سيشعر بالاختناق والضيق بسبب الحرب، فيحن دائما إلى مكانه الثاني (بيته) مكان حريته رغم أنه عاش لسنوات كثيرة في مكانه الأول وتركه لأسباب خاصة كالزواج مثلاً، ليصبح مكانه الثاني خياراً حراً هندسه كما يحب ويرغب من أبسط الأشياء فيه إلى أعقدها؛ وليس قسراً كما مكانه الأول؛ قسراً فيزيولوجياً، فالوالدان كانا في ذلك المكان وهو الابن لهذين الوالدين، إذ هكذا وجد الابن نفسه في ذلك البيت المهندَس مسبقاً، وذلك الحي دون أن يكون له خيار الإقامة فيه.
الوطن والبيت كلمتان مترادفتان في الفكرة والمعنى، فالوطن هو تكبير لفكرة البيت والحنين إلى البيت معضلة لا يدركها إلا من عاشها وغادرها قسراً؛ هي عتبة هذهِ الرواية البوليفونية لأصواتها العديدة بخطيّها المتوازيين والمتعارضين بين أخ معارض لسلطة الدولة «حسام» والآخر المؤيد «لؤي» اللذين يلتقيان في فكرة البحث عن مكان آمن متمثل بالبيت. ترصد الرواية معاناة الناس في الحرب السورية تحديداً في مدينة حلب السورية، في زمان معين ومكان معين من هذه الحرب، وهذه هي إحدى سمات الرواية البوليفونية، التي تشبه عملية الحفر من القاع إلى القمة بسنَّارة الذاكرة تحيك الكاتبة خيوط روايتها عن الحرب السورية، فتستحضر شخوصها وأحداث قصّتها من أوجاع الماضي ونزيف الذاكرة!
إذن الرواية في سوريا في زمن الحرب أثبتت أنها ليست مجرد جنس أدبي فحسب، بل آلة تصوير متنقلة كما في الروايات الثلاث السالفة، ويمكن القول أيضاً إنها أشبه بغرفة العناية المركزية في المشافي، وقد استطاعت أن تراقب بدقة مكمن الألم.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية