ضد الجسد والكتابة: قانون المصنفات الأدبية والفنية

النظام الديكتاتوري هو نظام أبوي صارم شمولي منغلق على ذاته، يعتمد في استمرارية وجوده على القوة المفرطة التي تتمثل في السيطرة على جسد الإنسان، ثم السيطرة على المجتمع والأفكار. وألد أعداء الأنظمة الديكتاتورية، الجسد والثقافة والمعرفة.
فيسيطر على الجسد بالتعذيب والسجن والجلد والنفي والاغتصاب والقتل، ونفي الوجود بقطع الأشجار في المدن، ومحو الذاكرة في تدمير المتاحف وتزييف الهُويات وحرق القرى في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وحرق النخيل في الشمالية، وإغراق الأرض بالمياه، وتغيير أسماء المدن والقرى والمدارس وإهمال البيئة، إلى جانب تطبيق سياسة التجويع عن طريق تدمير المشروعات الزراعية، وعدم الصرف على مرافق الصحة والتعليم، بينما يغدق الصرف على المؤسسات الأمنية والعسكرية، مستخدما القانون، أو الدين أو الأيديولوجيا بمعناها العام كظل أخلاقي، ففي محاربة الجسد رمزية لقتل الوجود والكينونة.
في حالة السودان حيث انكشف عن الديكتاتور السابق غطاء الأيديولوجيا، حينما أخذ الإخوان المسلمون يتخلون عنه، فاعتمد على قوة السلاح والقبضة الأمنية والمليشيات المسلحة مثل مليشيا الجنجويد، وما أطلق عليه قانون النظام العام ـ الذي ورثه من ديكتاتورية سابقة – كمدخل للسيطرة على الجسد والمجتمع في الوقت نفسه، ثم وضع قانونا صارما من أجل السيطرة على المعرفة والثقافة، وهو قانون المصنفات الفنية والأدبية لعام 1991 المعدل في 2001، ولم يكن ذلك القانون سوى أداة مفضوحة لقمع الكتاب والأدباء والمفكرين، بالسيطرة على إنتاجهم الأدبي والفكري. سنقوم بمعاينة سريعة للمادة 15:
المصنفات المحظورة
لا يجوز استيراد أو إدخال أو نشر أو طبع أو تداول أي مصنفات، أو التعامل فيها في أي من الحالات الآتية:
(أ ) الإخلال بالقيم الدينية أو الآداب العامة
(ب) الإساءة إلى المعتقدات أو الأعراف أو الأديان
(ج) الإساءة إلى اللون أو الجنس أو تمجيد أو تفضيل جنس على آخر
(د) التعارض مع سياسة الدولة وأمنها القومي
(هـ) الإنتاج المشترك إذا كان مع دولة معادية أو دعاية لدولة معادية
(و) المصنفات التي يصدر قرار من المجلس بمنع دخولها.
بالنظر إلى هذه النقاط مع وضع المجتمع السوداني متعدد الهويات والثقافات والديانات، يبدو واضحا مدى العنف الاجتماعي الذي يختبئ بين السطور، ومدى القبضة الحديدية المطلقة على الكِتاب والكُتاب معاً.

ـ إذا رأى المجلس أن أي مُصنف يخالف أحكام المادة 15 فيجب عليه أن يأمر بمصادرته فوراً، وذلك بدون الإخلال بأي عقوبات أخرى فى هذا القانون أو أي قانون آخر.

على سبيل المثال، المادة رقم (أ)، تتحدث عن الإخلال بالقيم الدينية والآداب العامة، ولم تحدد القيم الدينية لأي مجتمع أو قيم أي دين، وهل تلك القيم الدينية للمسيحيين هي القيم الدينية للمسلمين ولأصحاب الديانات الافريقية الخاصة ولليهود مثلاً، بل ما هي تلك القيم الدينية، ما المقصود بها بالضبط، تلك مادة فضفاضة، الهدف منها إدانة كل نص لا يتماشى مع التوجه للمُشرع نفسه الذي لا يستطيع هو تفسيرها بل إنها تعني له المادة (د) أي التعارض مع سياسة الدولة، والدليل على ذلك أن كل الكتب التي تمت مصادرتها لا تتماشى مع سياسة السلطة المعلنة، كما سنرى لاحقاً. اما النقطتان (ب) و(ج) فهما مادتان ذرائعيتان وضعتا كحق أريد به باطل، حيث أن الإساءة إلى المعتقدات أو الأعراف أو الأديان، والإساءة إلى اللون أو الجنس أو تمجيد أو تفضيل جنس على آخر، تعتبر جنحا تضع من يقوم بها تحت طائلة القانون وينظمها القانون الجنائي السوداني، حيث يقوم المتضرر برفع دعوى قضائية ضد من يتهم بالاساءة، كاتبا كان أو مواطنا عاديا، أو شخصية اعتبارية. ولكن أهم نقطة في هذا القانون وهي أقرب للنصوص السيريالية، أو العبثية هي المادة (و) من الفقرة (15) التي نصها: يتم حظر المصنفات التي يصدر قرار من المجلس بمنع دخولها. أي إذا رأت المصنفات لأي سبب كان أن تمنع المصنف، فلها الحق في حظره، إذن كل ما ذكر سابقا لا معنى له، بالتالي المعنى المستبطن هو إذا ما صادرت المصنفات أيا من الكتب، لا حق للكاتب الاحتجاج أو الدفع، وفقا للمواد السابقة، فيكفي أن إدارة المصنفات رأت ذلك، والشاهد هنا أن كل الدعوات التي رفعت ضد المصنفات كسبتها المصنفات وخسرها الكُتَّاب.
حظر المصنفات
ينص القانون في هذا الشأن :
ـ إذا رأى المجلس أن أي مُصنف يخالف أحكام المادة 15 فيجب عليه أن يأمر بمصادرته فوراً، وذلك بدون الإخلال بأي عقوبات أخرى فى هذا القانون أو أي قانون آخر.
وهنا يصبح المشرع أكثر وضوحاً معتمداً على أحكام المادة 15 التي تحتوي على الفقرة السيريالية رقم (و). هذا القانون تسبب في إعاقة الحركة الثقافية والفكرية في السودان نتيجة لحظره ومصادرته لمئات الكتب الفكرية والأدبية، مما كان له الأثر السلبي في العملية الثقافية برمتها على سبيل المثال:
تشريد الكتاب والمثقفين، السجن والاختفاء القسري، وحالة الشاعر أبوذر الغفاري الذي تم اعتقاله منذ 25 عاما ولا يدري أحد اين هو إلى اليوم، وفي الذاكرة المفكر السوداني محمود محمد طه، الذي شنقه الديكتاتور جعفر النميري، كما أن عشرات الكتاب والمثقفين السودانيين فضلوا المنافي الاختيارية، بحثا عن حرية يصعب الحصول عليها في وطنهم، والبعض تعايش في الداخل مع المنع والاعتقال والمطاردات الأمنية. كما صاحب المنع دعاية إعلامية مضادة تجاه الكتاب وتشويه سمعتهم في المجتمع وتكفيرهم والربط بين ما يكتبونه وحياتهم الخاصة، كما أن الناشرين أصيبوا بخسائر فادحة نتيجة لمصادرة الكتب وسحبها من المعارض لتحل محلها الكتب المزورة التي يسوقها أفراد ينتسبون للنظام نفسه، سعيا وراء المكاسب المالية، كما أن تداول الكتب الممنوعة عبر الشبكة العنكبوتية أضر أيضا بمصالح الناشرين والكتاب على حد سواء.
تأثر أيضاً القراء ورواد الأدب والثقافة سلبياً، حيث أن السلطات ألغت تصديق بعض الأنشطة الثقافية مثل جماعة مفروش، وأحجم كبار الناشرين العرب مثل مدبولي عن المشاركة في معرض الكتاب السنوي في الخرطوم، الذي أطلق عليه البعض في سخرية معرض الكتاب الممنوع، كما أن السلطة الديكتاتورية أغلقت دار اتحاد الكتاب السودانيين، وفي ديكتاتورية جعفر نميري صادرته وحولته إلى دار اتحاد الطلاب الذي يتبع للنظام، وحجّمت دور المسرح وفرضت رقابة عنيفة على المسرحيات التي يتم عرضها، بالإضافة إلى الرقابة القبلية على الصحافة ووسائط الإعلام، وسحب تراخيص الصحافيين وإيداع بعضهم غياهب السجون، لقد كان خوف الديكتاتوريات من الكلمة عظيماً، وأيضا كان أثره السلبي أعظم على مسيرة الثقافة والوعي في السودان، لا أدري هل سيبطل رجال ما بعد ثورة إبريل/نيسان 2019 هذا القانون؟

٭ روائي سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    المسألة يا أخ عبدالعزيز لها وجه آخر. العساكر الجهلة يفيدون من أشباه الكتاب والأدباء ليكتبوا كلاما لا وزن له يركز على الجسد مادة إغراء وإلهاء بعيداعن الجسد المعذب المنتهك في السجون والأقبية، ويشيد العسكري الأبله الجبان بالموضوعات الخائبة مثل التجديف، والدعوة إلى نظريات عقدية بائسة أو تشويه الإسلام باسم الإرهاب تارة أو الجمود وما يسمى الرجعية والظلامية تارةأخرى. الإنسان العربي المسلم المقاوم للظلم ولاضطهاد لا مكان له في كتابات هؤلاء المرتزقة الذين يمنحهم العسكري الجاهل جوائز لا يستحقونها، وأوسمة لا تشرفهم، ووظائف أكبر من قدراتهم!

  2. يقول عثمان عبده ابومغفرة:

    سوف يتبدل الحال
    نعم لحرية الاقلام

اشترك في قائمتنا البريدية