في عام 1992 تم إنتاج فيلم «ضد الحكومة» المأخوذ عن قصة الكاتب وجيه أبو ذكري، الذي كتب له السيناريو والحوار السيناريست الراحل بشير الديك، وقد جاء العنوان الجريء لافتاً للغاية، وكأنه انعكاس لحالة ديمقراطية استفادت منها السينما في تسعينيات القرن الماضي، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك بالضبط، وإنما ما قصده النظام الحاكم في تلك الفترة كان محاولة لتفريغ شحنات الغضب المُتراكمة لدى الشعب آنذاك، جراء تعدد الحوادث واستفحال الفساد وكثرة التجاوزات.
ولعل الاستغلال الأمثل للقصة الإنسانية الاجتماعية التي كتبها أبو ذكري للتعبير عن حادث القطار المشؤوم الذي راح ضحيته العشرات من تلاميذ المدارس، كان دافعاً للاهتمام بالفيلم وسبباً مباشراً في نجاحه، فالسيناريست بشير الديك طوع القصة تطويعاً ذكياً لخدمة الغرض الأساسي في نقد الحكومة واتهامها بالإهمال. فالحادث المروع الذي ألقيت مسؤوليته على عامل مزلقان السكة الحديد، لم يكن سوى حلقة منفصلة متصلة بسلسلة من الجرائم والكوارث والحوادث، التي ذهب عدد من المواطنين المصريين ضحيتها على مدى سنوات، وقيد أغلبها ضد مجهول.
من هنا جاء العنوان الصريح الواضح «ضد الحكومة»، ليؤكد أن الفاعل ليس مجهولاً وإنما هو معلوم تمام العلم للخاصة والعامة، ولكن المشكلة أن هذا الفاعل مُحصن ولا قبل للشعب بمحاكمته إلا بوجود قانون رادع مُنصف لا يفرق بين حاكم ومحكوم.
تلك هي الرسالة التي حاول المخرج عاطف الطيب تضمينها في الأحداث، لتُصبح هي الإشارة والعلامة الدالة على تورط الحكومات في مُعظم الأزمات، فمن دون مُحاسبة الحكومة أمام الشعب لا يُصبح هناك وجود حقيقي للديمقراطية، حيث الشعارات وحدها لا تكفي لبناء دولة ديمقراطية يتساوى الجميع فيها أمام القانون.
لعب الفنان أحمد زكي دور البطولة، وقد جسد شخصية المحامي المُستهتر، المتخصص في قضايا الآداب، على الرغم من ذكائه ونبوغه وتفوقه في مهنته، وهي مفارقة استهدفت الإشارة إلى حالة الاستهتار التي طالت الشخصيات العامة، من فرط اليأس وفقدان الثقة في تحقيق العدالة بمعاييرها الدقيقة المنصوص عليها في الدستور والقانون. فالمحامي المُهمل الفوضوي المُنفصل عن زوجته، العائش حياته يوماً بيوم من دون استراتيجية أو خُطة مستقبلية، يستنفره حادث القطار المروع، فيُقرر بوصفه مُتخصصا في قضايا التعويضات، وله باع طويل فيها، إلى جانب مهاراته المختلفة في القضايا الأخرى أن يتصدى للدفاع عن حقوق الضحايا.
وبينما هو يواصل البحث في ملابسات الحادث وتفاصيله ويجمع التوكيلات من الأهالي المنكوبين بموت أبنائهم وذويهم، يُصادف طليقته عفاف شعيب مع ابنها «سيف» محمد نجاتي الذي أصيب إصابات بالغة ضمن من أصيبوا. وفي مواجهة قوية وعنيفة مع كبار المسؤولين يُصر المحامي (أحمد زكي) على التصعيد مُتجاهلاً تهديدات أبو بكر عزت، أحد المسؤولين الكبار، ضارباً عرض الحائط بتحذيرات زميلته المحامية (لبلبة)، التي تحاول التأثير عليه كي يتنازل عن القضية، خوفاً من العواقب الوخيمة التي تنتظره. وبشكل فردي يمضي المحامي في مرافعاته بإصرار، مُحتمياً بأهالي القتلى والمُصابين، الذين يرمزون إلى الشعب في مواجهة الحكومة، لكن أمام الضغوط القاسية والتهديدات يتراجع الأهالي ويُصبح المحامي ممثل القانون والعدالة وحيداً فريداً في مواجهة غير متكافئة من حيث القوة والنفوذ، فيُضرب ويُسجن وتُمارس عليه كل ألوان التهديد والتنكيل، لكنه يُصمم على الاستمرار في المواجهة حتى النهاية.
قوة يفترضها مؤلف القصة وجيه أبو ذكري في الشخصية المحورية التي يرمز بها للقانون، وينقلها كاتب السيناريو بشير الديك، ويعتمد عليها المخرج عاطف الطيب كنواة صُلبة للعناد والمقاومة، أمام السُلطات المتواطئة، حسب السياق الدرامي، باعتبار القانون هو الملاذ الأول والأخير للمواطن والضمانة الحقيقية للحماية من الغدر والبطش وإهدار الحقوق.
في النصف الأخير من الفيلم يكتشف المحامي، أن الطفل المُصاب الذي رآه مع طليقته عفاف شعيب هو ابنه سيف، الذي تربى في بيت زوج الأم (أحمد خليل) الرجل المُرتعش الخائف على منصبة القيادي الحساس، فأمام هذا الاكتشاف يزداد إصراره على المُجابهة والمواجهة، فلم تعد القضية قضية رأي عام فحسب، وإنما باتت قضية شخصية، ومن ثم يُقرر فضح الحكومة المُقصرة في حقوق الشعب على الملأ، فيُطالب في ساحة المحكمة وأثناء واحدة من مرافعاته القوية المُجلجلة بمثول جميع المسؤولين المتورطين في حادث القطار بحكم مناصبهم أمام المحكمة، بمن فيهم رئيس الوزراء.
واعتبر مشهد المرافعة تلخيصاً وافياً لكل تفاصيل الفيلم ومعانيه، إذ تم وضع كل مسؤول أمام مسؤولياته بلا تضليل أو تدليس، أو أي محاولة لإعفاء أي شخص مهما كانت حيثيته من المسؤولية الضمنية أمام القانون، وقد تألق أحمد زكي في أدائه لمشهد المرافعة، حيث تقمص شخصية المحامي المسؤول والأب المأزوم، وعاش بصدق لحظات الألم والوجع نيابة عن أهالي الضحايا، الذين عادوا للتضامن معه بعد أن استشعروا قوته القانونية، وفي مقدمتهم طليقته عفاف شعيب التي قلبت بشهادتها أمام القاضي موازين القضية، ورجحت كفة العدالة فقضت المحكمة بضرورة مثول جميع من تم ذكرهم أمام هيئة القضاء في الجلسة المقبلة تمهيداً لمحاكمتهم محاكمة عادلة.