ضرورة الكليشيه

في حوار مع الكاتب والمخرج المسرحيّ المجري جيورج تابوري، الذي تتلمذ على يد العملاق لي ستراسبرج في أستوديو الممثّلين في نيويورك، ذكر عبارة مهمّة عن المدارس الفنيّة قائلاً: «إنّ الخطورة تكمن في الكليشيه»، ولعلّني أوافق على ذلك بشكل عام، لأنّ الكليشيه ضدّ الإبداع، وضدّ الحريّة، وضدّ الفرديّة، لكنّه يكون ضرورة ثقافيّة وتعليميّة وتذكيريّة في أكثر الأحيان، لذلك لا بدّ من أن أحكي هذه الحكاية، حتى لو تضمّنت عبرة مباشرة، مثل تلك الحكايات التي حكاها تشوسر قبل حوالي سبعمئة عام عن حجّاج كانتربري.
حدث ذلك في زمن ليس ببعيد، أيّام الحجر بسبب كوفيد، حيث أعلن قانون الطوارئ، ومنع التجوّل، وصرنا حبيسي البيوت، وتحرّرت الكائنات الأخرى، وصارت تتجوّل بثقة وحريّة في الشوارع التي حرمنا من أن نخطو فيها بعدما كنّا أسيادها، نهشّ القطط، ونلوّح بالحجارة للكلاب، ونطأ النمل بأرجلنا، ونتجبر على مخلوقات الله. خرجت الكائنات تبحث عن طعامها من غير سلطة الإنسان، فوجدت أمامها الفضاء مشرقاً، أغنى بالشمس، وأغنى بالمطر، وأغنى بنور القمر، لا مركبات، ولا تلوّث سمعيّاً أو بصريّاً، والشوارع التي كانت مزدحمة تعيق الحركة وتسبب القلق غدت نظيفة وحرّة من أكياس البلاستيك وأعقاب السجائر وعلب المشروبات المعدنيّة وحافظات الطعام الورقيّة، وغيرها من المخلّفات المؤذية التي يتسبّب بها البشر وحدهم. لعلّ قطط الشوارع وكلابها تحديداً هي من عانى في زمن الحجر أكثر من الكائنات الأخرى، إذ لم تعد تجد الكثير من بقايا الطعام بسبب نقص الاستهلاك، لكنها كانت غالباً تتدبّر أمرها.
كنت أجلس إلى الشرفة ذات عصر، وأفكّر في تبادل السلطة بين الكائنات، وتغيّر الأدوار، وتحوّل الأحوال، فلاحظت فجأة مجموعة من القطط وسط الشارع تتقافز مذعورة بعضها حول بعض، وكان صوت موائها موجعاً ومخيفاً، وكأنّها تشير إلى خطر وفي الوقت ذاته تعبّر عن ألم، ثمّ لاحظت الصوت صار أكثر إنسانيّة، امتلأ بالتفجّع والاستغاثة، وتكاثرت القطط حول دائرة الحدث، وصار بعضها يروح ويجيء مصدراً عويلاً طويلاً أو متقطّعاً، وكانت إحدى القطط تخمش وجهها بأظافرها مثل نساء البشر في المآتم، وأخرى تهرول نحو رفيقة قادمة من بعيد، وكأنها تحمل لها الخبر، وتنعى القطّة الميّتة وسط الشارع، فتذعر الأخرى، وتموء كاستجابات البشر على الصياح بالصياح. لقد ماتت إحدى القطط، كما اكتشفت، والتفت الأخريات حولها، لعلّها مرضت! مددت جسدي أكثر كي أرى المشهد أوضح، فوجدت القطّة الميتة ضئيلة جدّاً، وقدّرت أنّها ماتت من الجوع. قطّتنا المدلّلة قفزت نحوي بوجل، يبدو أنّ الصوت استفزّها، وأنذرتها جيناتها القططيّة بالخطر، إنّها تبقى قطّة حتّى لو كانت من طبقة أخرى، فتسلّقت الإفريز الحجريّ وراحت تحملق في المشهد أمامها مذعورة، تنقّل عينيها بارتباك، وتطلق مواء غريباً رغم أنّها نادراً ما تموء. صوتها أخافني حقّاً، وكذلك حركات جسدها، وتفاصيل وجهها، كلّ شيء فيها تغيّر، وكانت تمدّ جسدها نحو الأسفل، وقد ثبّتت يديها بعصبيّة على القضبان الحديديّة الحاملة لأصيص نبتة خضراء، وراحت تردّ على العويل بعويل، وكأنها تشارك قبيلتها المصاب الأليم. لاحظت بقيّة اليوم أنّها لم تتناول طعامها، لقد بقي على حاله، فلم ألق بالاً للأمر، لكن حين نمت واستيقظت وجدتها حزينة، لم تقترب من الطعام، ولم تقبل عليّ كعادتها، فقلقت، وحين دعوتها لتأكل كما أفعل دائماً، رفضت ولم تلتفت إليّ. قدّرت أنّها حزينة على بنت نوعها، تمارس طقساً من الحداد، وتحتجّ على موت قطة الشارع جوعاً، وتشارك القبيلة حزنها.
مرّت أيّام الحجر بعجرها وبجرها، و(تنذكر ما تنعاد)، لكنّني استعدتها بالأمس حين تجمّعنا مثل أيّة عائلة لتناول وجبة طعام، وكانت تغطية الأخبار في غزّة مستمرّة، والمحلّل العسكريّ يصدح بتحليلاته، ويؤكّد على قصديّة سياسة تجويع نتنياهو لأهالي القطاع، وتظهر جثث لنساء وأطفال في أكفان مثل المومياءات، عظام خدودهم ناتئة، وعيونهم تغور في جور المحاجر، ووجوههم صفر مثل المكبودين، لقد قضوا جوعاً، فترتفع أصواتنا محتجّة، بالحوقلة والتكبير والاحتساب، وبمفردات التعبير عن الأسى والقهر، ثم نحوّل أنظارنا إلى المائدة، نبسمل، ونمدّ أيدينا إلى الزاد أمامنا. نظرت حولي، فلم أجد القطة، ربّما كانت نائمة في مكانها في الغرفة الأخرى، صدّقوني لو قلت إنّ غيابها حرّرني قليلاً، وأنّنا قرّبنا الأطباق أمامنا، وبدأنا بتناول ما فيها، وبعد ذلك توجّهنا للنوم، ونمنا!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ماجدة:

    ليت عبارتك الختامية كانت توجهنا للنوم فحلمنا بدل توجهنا للنوم فنمنا.تشكراتي.

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      أختي ماجدة، اسمح لي أن أذكر سيءما عن “حلمنا”. ربما لايمر يوم إلا وأحلم به والليل بالنسبة لي هو امتداد للنهار والحلم كالقمر في الليل هو امتداد لشمس التفكير في النهار (عمل الدماغ في الحقيقة حلمنا أو لم نحلم). لكن من خلال حديثي مع كثير من الناس حول هذا الموضوع تبين لي أن الأمر فردي حيث أن هناك ناس قلما تحلم وتنام بهدوء دون اكتراث لما حصل لها وماعاشته في النهار (بطفئون المصباح وانتهى). فهل الحلم مجرد حلم! برأيي هو حلم و/أو تعبير عن حالة وامتداد لواقع!

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أختي شهلا العجيلي. صدقاً لو أني قرأت هذه القصة أو الحماية في الفيسبوك أو منصة X لما صدقتها! سألت نفسي لماذا. هل هو عجزنا عن الشعور بما يدور حولنا فأصبحتا لامبالين بما يحدث لشدة مايحدث لنا ولأن مدنيتنا صرفتنا بعيداً عن مشاعر الطبيعة التي تكمن في داخلنا. ربما، لكن تعقيدات الواقع أصبحت تتطلب جهداً أكبر منا وهذا يدوهنا إلى الإقتصاد في توجيه انتباهنا لما يدور حرلنا ومايحدث لنا. لكن عليّ أن أضيف أن المقال أيضاً يقع في هذه الدوامة فغزة اليوم ليست إلا امتداداً لما خصل في سوريا وفي الربيع العربي عموماً. أذكر تماماً كيف يكن السوريون في مغاور وأكلوا الأعشاب أو أكلوا لحم حيوانات لاتؤكل إلا في ظروف قاسية. في الغوطة وريف حمص الرقة ومخيم اليرموك قرب دمشق … فاشية النظام السوري وبشارون أسدوف وشبيحته وبراميله واسلحته الكيماوية ليست إلا جزءاً لايتحزأ من فاشية إسرائيل ونتنياهو وحرب إبادة غزة وحكومته المتطرفة.

  3. يقول الناقد الثقافي:

    بعض من الملاحظات النقدية في هذه العجالة:
    أولا، عبارة تابوري بـ«أنّ الخطورة تكمن في الكليشيه»، ليست مهمة حصريا في واقع الشأن فقد عبر عنها بجد الفلاسفة القدامى منذ قديم الزمان، سواء وافقت كاتبة التقرير على ذلك بشكل عام أم لم توافق.
    ثانيا، حتى في عالم المجاز، فإن العمل الإنساني الحقيقي، إن جوبه المرء بكل من معاناة الحيوانات ومعاناة البشر أيام الحجر، هو بالطبع أن يميل إلى المعاناة الأخيرة إذ لكل شأن أهميته في قرينته الخاصة.
    ثالثا، حتى في عالم الحرف، إن جوبه ذات المرء بمعاناة الحيوانات بمعزل عن معاناة البشر أيام الحجر أو غيرها، ليس هناك شيء اسمه “طبقة” أو حتى “صراع طبقي” إلا من المنظور الخاص “للمرأة” المعنية.
    رابعا، الآن كاتبة التقرير قلبها على ضحايا غزة، ولم يحدث لهذا القلب قط أن كان على ضحايا سوريا (البلد الذي وُلدت فيه، للأسف)، لا بل كان قلبها دائما مع الجلاد وما نُشر لها في هذا المنبر ما زال شاهدا على ذلك!!

  4. يقول Darin Salih:

    تحيات اجلال للناقد
    وما اكثر الاتجار بفلسطين
    تشكرات !

  5. يقول د.درغام قاسيون:

    تحية للدكتورة شهلا العجيلي على حضورها
    الثقافي الفاعل حيثما تكون في سورية والأردن وفلسطين والخليج..فهي مبدعة شامية

  6. يقول عبد الله العقبة:

    ربط جدلي بين صراعات المكان وفق نظرية
    التعاطف السيكولوجي.. لامس الإنساغ الصاعدة والنازلة بمبضع وقلم خبير..أنه الانتصار لفلسطين تختلف عن التقليد..
    وهذا أزعج البعض

  7. يقول الحسين بن صالح - السويد:

    رحم الله نزار قباني حين قال
    اللاهثون على هوامش عمرنا … سيان إن حضروا وإن هم غابوا
    يتهكمون على النبيذ معتقا … وهمو، على سطح النبيذ ذبابُ

    1. يقول الحسين بن صالح - السويد:

      تحية للاخ الناقد الثقافي وللاخ اسامة كلية وللاختين دارين صالح وماجدة –
      وطبعا تحية للاخت المحررة

    2. يقول تماضر:

      أحسنت أخ الحسين

  8. يقول طرزان دبلن:

    اختي الكاتبة استمتعت بمقالك الوافي..وهو من المقالات التي لامست الذوق بقلم كاتبة لها باع في تنضيد الأفكار الجديدة برشاقة وفصاحة..رحم الله والدك الذي كان مبدعا.
    ننتظر المزيد والجديد منن حضرتك.

اشترك في قائمتنا البريدية