لا تقتصر الأشياء التي تذهلنا ولا نجد تعريفاً لها في عالمنا، على الروح، وعلى الله الذي بيده قيدَ أمرها، ويحيّرنا أنه مذكّر في الخطاب رغم أنه «ليس كمثله شيء»، وعلى الإنسان نفسِه كذلك؛ الذي تحيّرنا مقاربة تعريفه بحيوان ناطق على السوء الذي لا يكف عن ارتكابه. إذ يمكننا إضافة ما لا يعدّ مما يَعصى على التعريف، بدءاً من كيمياء الحب التي تخرج من العين برقاً وتصعقنا في ما نسمّيه الحب من النظرة الأولى، والجاذبيةِ الكونية التي تتركز في عين فتاة أرضيةٍ شاردةٍ تخطفنا، والزمنِ والقدَرِ اللذيْن لا نتوقف عن بحثنا أين هما.
إلى ما هنالك من غامض يصل إلى تعريف مدينة بيروت التي لا تُعَرَّفُ في رؤية درويش لها أنها: «تفّاحة للبحر نرجسةُ الرخام/ فراشةٌ حجرية بيروت/ شكل الروح في المرآة/ وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام». وإلى الأخير والأول الذي تنبض بإيقاعه مشاعرنا كجوهر للفنون التي تعبّر عن استجاباتنا لبعضنا ولما حولَنا من أشياءَ وكائناتٍ، ونسمّيه الشعر، ما غيره الذي كلّما عرّفناه اختفى سراباً في صحارى تمتدّ إلى ما لا نهايةٍ أمامنا، الشعرُ الذي يقول لنا أنّ من الأيسر علينا في تعريفه الذهاب مع الصوفيين وترك حيرة العقل إلى يقين ولا يقين القلب.
والشعرُ الذي تفتتح لتعريفه الشاعرة السورية فاتن حمودي مجموعتها الشعرية الجديدة «طائرٌ في الجهة الأخرى»، بعد قصيدة العنوان التقديمية، بقصيدةِ «وأخيراً أخرج إلى الشعر» التي تفضي إلى رؤيتها عن الذي لا يُعَرَّف، الذي هو «الشعر… وكفى»، والذي يموت الشاعر تناصاً مع مفهوم موت المؤلف، بعد بزوغ وجوده، حيث:
«لا ضجيج للشعر لا خلاخيل ولا أساوِر، بهارُ الغياب/ أهيم في فراغ الورد/ الشعر حياةٌ، انتظارٌ، شغفٌ عالقٌ في حرير اللغة، نيرفان الوجود/ غداً خريفٌ، وغداً أسير مع الغيم حتى يُمطر الوجودُ كلُّه/ تنهض الأرض، تدنو السماء/ وأنا غطاءُ البرد العظيم/ أشمُّ رائحة طين الغياب/ الشعر حريرُ الوقت/ فراشةٌ على كفّي/ من مدينةٍ سقطتْ سهواً، من الجنة طُردتُ/ ومن يومِها العشب داشرٌ/ ابن براري التيه/ مرايا الخلود/ الشعر لوحة الوجود كلِّهِ/ لا مكان للشاعر هنا، كيف يسير العالم حافي الروح؟».
طائر التشافي والتجديد:
لا يخفى على القرّاء ما لممارسة الفن وبالأخص الشعر وقرينته الموسيقى، كتابةً وقراءةً، من قدرة على تفعيل تشافي النفس، وانتشالها حتى من مستنقع الكآبة المُفْضِية إلى الانتحار. كما حدث بالترجيح مع غوته في «آلام فارتر»؛ ويحدث مع الشاعرة فاتن حمودي بملاحقة طائرها في الجهة الأخرى من المنفى المكاني والوجودي البالغ القسوة بالغياب رغم أمانه، بعد قصف ظهور السوريين بحرب الديكتاتورية عليهم، كما تفصح مجموعتُها، من خلال مجاز استشهاد حبيبٍ ذهب إلى الحرب، وحبيبٍ غرق في بحار طرق اللجوء.
مثلما لم يعد يخفى تسامي وارتقاء الشعراء الذين يحملون همّ ضياع العالم بارتكابات الإنسان لخطايا الحرب المهولة، ومنهم الشاعرة حمودي التي يكرّسها طائرها كذلك، إلى التجديد حين يُشابكون قصائدَهم بالحديث عن الشعر، تركيباً ومعانٍ يحاولون فيها، بما امتلكوا من روح الإبداع، جعل التجديد مُجدياً بخصوصيتهم، إذ هم يدركون أن لا مكان للتجديد بالتقليد.
وتفعل حمودي ذلك ببساطة وفطرية وغنى ثقافي، مع مرافقة الإدراك بما تفعل كما يبدو من تداخلات القصائد بفنانين وشعراء مبدعين، مثل تداخلها مع قصائد الشاعر باشو رائد قصيدة الهايكو القديمة، والروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل جوزيه ساماراغو، والفنانين نذير نبعة وخالد الخاني، والموسيقي شوبنهاور، على سبيل المثال، وكما يُفصح تركيب قصيدتها المحلّقة بأجنحة طائرها في مختلف جهاتها أساساً.
وفي ذلك، تُشكّل حمودي مجموعتها بستٍّ وثلاثين قصيدة ضمن ثلاثة فصول، كل عنوان منها قصيدة: (وأخيراً أخرج إلى الشعر، ليليت القصيدة، نصوص العزلة)، وتكملها إلى سبع وثلاثين بقصيدةٍ تقديمية تتضمن عنوان المجموعة «في الجهة الأخرى». وتهدي مجموعتها «إلى لاما/ العاصفة../ ومن غيركِ في القلب». هذه التي كما يبدو أنها هي نفسَها إن لم تكن، من خلال وصف نفسها بالعاصفة ليليت، مع تقديم المجموعة بما لم يأتِ عبثاً، إذ يعكس أبديّة الحب فيها بـ: «لا أبحث عن الزمن الضائع/ الأبديةُ أنتَ وأنا».
وفي بنية الفصول هذه، لا يُرى خط الفصل بين قصائدها، إذ تتولّى ثيمةُ «الشعر» الكبرى (المفصحةُ عن همّ التجديد أساساً بتخلّلها جميع القصائد تقريباً بثيمات صغرى، رغم تخصيص الفصل الأول لها)، ربطَ جميع الفصول، بخصوصيةٍ في الأسلوب، لا يدخُلُها الشعر غريباً، وإن تخلّل معظم القصائد المنسوجة بأسلوب الكتابة الآلية السوريالية.
ويمكن للقارئ الضليع المتناغم مع قصيدة نثر ما بعد الحداثة لمس الجِدّة والخصوصية في أسلوب حمودي، ورؤية ذلك في جميع القصائد تقريباً، ومنها كمثال في مقطع قصيدة «وأخيراً أخرج إلى الشعر» الذي أوردناه كنموذج عنها. وذلك في نسج القصيدة بأسلوب رشقِ جملٍ اسمية، تبدو وصفيّةً لكنها أعمق وأكثر ارتباطاً خفياً ببعضها، ويأتي بعدها فعل الحاضر الذي يغلب على الخطاب في المجموعة بصيغة المتكلّمة الرائية، عن نفسها وعما يحيط بها أو عمّا تستخلصه ذاكرتُها من أماكن الجهة الأخرى/ الوطن الغائب. لكي يكوِّن تشابكُ الجملة الاسمية وفعل الحاضر مشهديةً آسرةً مدركَةً بالإحساس وإن اكتنفها غموض الارتباط ببعضها، حيث نقرأ في القصيدة الابنة «ارفعي صوتكِ»، من القصيدة الأم «متتابعات ليليت»: «أقرأ عزلتي/ التشيلو يدخلُ القصيدة/ قمرٌ مُدمّى/ ضحكةٌ مدويةٌ/ أرسم قواربَ بحجم القلب/ أكتب دمشقَ/ منسيةً وسط بساتينها/ ألتمُّ على صوتي/ مصابةٌ بدوار النص أنا/ لم نسمع… لم نسمع/ ارفعي صوتك/ صوتك».
وفي هذا النسيج يعيش القارئ غِنى المجازات، مع عدم غياب الحديث عن الثيمة الكبرى/ الشعر، والتداخل مع الموسيقى، والنص، والحرب المقيمة، وجِهات المنفى، ومعالم الوطن/ دمشق، بنفس أسلوب المزاوجة بين الجملة الاسمية وفعل الحاضر. حيث: «صخبٌ من كل الجهات، عربٌ وكُردٌ، شركسٌ وسريان». و«أسمع صوت لهاث القصيدة/ أروي الحربَ/ وجهُ أمي على طرف اللوحة يبكي». و«أسمع موسيقى الهنود الحمر/ أقرأ الأرضَ اليباب، وبخفّة أعبرُ/ يسيل صوتي، يتوه/ مصادفةً جئتُ إلى الشعر على شفتيَّ توتٌ شاميٌّ»/… «مونولوج داخليٌّ لا ينتهي/ لم نسمع/ ارفعي.. ارفعي صوتك».
مثلما يعيش القارئ الدهشة، ليس في قفلات القصيدة كما يفعل الكثير من الشعراء المدهشين، وإنما في استبدال القفلات المدهشة، بقفلات السطر حيث تتولد جمل متباعدة يربطها حبلٌ سرّي يدهش القارئ حين اكتشافه، مثل ما يأتي في قصيدة: «أُطرِّز يومي بالغناء»، حيث: «يسألني عن سرّ الفرح في خطواتي/ يلتفتُ الشجر».
وإضافةً إلى ذلك، تتجلّى الخصوصية، في لغة الشاعرة التي لا يبتعد عن مفرداتها الشعر والكتابة والنص، والليل والنهار، والورد والبستان وتمظهرات الطبيعة التي يأتي في مقدمتها المطر والصحراء والأنهار، وتفاصيل الحياة اليومية التي تغلب عليها تفاصيل الحبّ، والحرب التي تقطع أوصاله، وتتركّب لها أجنحةَ البقاء في الترابطات التي تخلقها حمودي بذات أسلوب المزاوجة. مثلما تتجلّى هذه الخصوصية بتشابكاتها مع الثقافة الأسطورية التي لا تفارقها تراجيديا الإغريق، مع ليل زيوس وغزواته وخوفه، وانتظار بينلوب التي تتحول إلى أوليس في ابتعاد إيثاكا عنها وهي فيها. ولا تفارقها كذلك الثقافة الفنية والأدبية الإنسانية الشاملة للفن التشكيلي، والغناء والمسرح والموسيقى والرواية والنصوص والكتابة التي يمثلها الشعر، وتخصص لها حمودي قصائدَ بأسمائها، مثل «أخيراً إلى الشعر، كونشيرتو اللقاء الأخير، شوبنهاور، أطرّز يومي بالغناء، أنا في كوخكَ ناي، الكتابة، والرواية باب العدم».
وأكثر من ذلك، ومما لابد للقارئ الاطلاع عليه والإلمام أكثر بأسلوبها، يمكن للقارئ اكتشاف أسلوب ربطها عِقْد القصيدة الطويلة بلازمة، مثل ما تفعلُ في قصيدة: «وأخيراً، أخرج إلى الشعر»، بورود جملة اللازمة «لا شيء على حاله»، في المقطع الرابع، كما في المقاطع قبله، حيث: «أدخل النصَّ/ أطاردُ فراشات المعنى/ أنا الطفلة اليتيمة/ يدي تمسك الفراغ/ لا شيء على حاله/ لم تعد الأشياء تأتي/ ما الذي يبقى في العدم؟».
تجديد قلب المتعارف عليه:
في ما يثير دهشة القراء، وربما صدمتهم وحيرتهم في اتخاذ موقف من القصائد التي تلعب بأساطير الدين المتشكّلة حقائقَ في وجدانهم، وتقلِبها إلى ما يهزّ معتقداتهم، لا تقتربُ حمودي مباشرةً من هذا المنزلق الخطر. ولكنّها في ذات الوقت لا تكفّ عن هزّ المسلّمات التي قدّمها المجتمع الذكوري عن المرأة، وأدخَلها في التحليل النفسي على صورة «عقدة ليليت»، حيث ترسم حمودي في قصيدة «متتابعات ليليت»، صورة أخرى متناغمة مع عصرنا الذي استطاعت فيه المرأة فرض وجودها والخلاص من عقد الذكورية التي تولّدت فيها. وذلك منذ بدء انتصار الذكورية على مجتمع الأمومة، وتدمير صورة الإلهة الأم، وإخفاء ليليت التي خُلقَت من طين الألوهة مثلها مثل آدم في المساواة، بالتركيز على حواء التي خلقتها الذكورة من ضلع آدم لتكريس دونيتها.
فعبر الحزن الكثيف الذي يتحوّل إلى شِعرٍ شفيف، في ظلّ الفقد المقيم الذي لا يكفّ عن التكرار في حياة الشاعرة الخاصة والعامة، وتفصح عنه قصائدُ حافلةٌ بالحب وحنان ضم الفقد وإطلاقه إلى أبدية بيضاء بحنانها. وعبر تصويرٍ مشهدي يضجّ بالتضاد الظاهر والتآلف الخفي ويُحضر التراجيديا الإغريقية بازغةً كما فينوس بوتيشللي؛ يشهد القارئ ويعيش شخصية «ليليت»، شيطانة التمرّد على الذكورية، المُغوية العابثة بالرجال والمتمرّدة على الأمومة، وفق حصر الذكورية لها بهذه الصورة، «ليليتاً» حديثةً طافحةً بالأنوثة ومستقلّة عن رجلها بإبداعها من جهة، وأماً تحتضن رجلها في مرضه، حاميةً له من كوابيسه عن الحرب والمرض، وابنةً تُولَد قبلَ جدّتها وتحتضن ألم أمّها من الفقد في ظلّ الحرب التي تأكل الأبناء والأحباب. حيث نقرأ في «كونشيرتو اللقاء الأخير»، المكوّنة من ثمانية مقاطع، سيطرة المرأة بالحنان في اللازمة التي تخاطب بها رجلها: «لا تخف»: لا تخف/ أمضي إليك…/ إنه الطريق/ والطقس كما أول المطر/ السفرجل وتين الغواية وخوابي الزمن العتيقة/ من أنا خلف أبواب مدينتي؟/ أقول مدينتي سقطت سهواً من الجنة/ لم تقلْ/ ضحكتَ حتى البكاء، حتى الصراخ. عضضتَ على قميصكَ/ لكْ آآآآآآآخ/ وكنتُ خريفاً غامضاً أنتظر أول الحبِّ/ وكانت دمشق ترتدي معطفَها، تتوارى، تعصبُ رأسها بمنديل جدّتي، وتبكي علينا».
وختاماً، يمكن القول إنَّ طائرَ الحزن، طائرَ الشعر، طائرَ الشاعرة، طائرَ الحبِّ، وطائر الثورة الباحث عن الحرية والكرامة في الجهتين، تحت نار الحرب، يحلّق كذلك فوقَها بالحبّ والشِّعر والحياة.
فاتن حمودي: «طائر في الجهة الأخرى»
رياض الريس للكتب والنشر:
بيروت 2025
152 صفحة.