وسقط نظام حكم عائلة الأسد، أقدم الأنظمة الاستبدادية في العالم (54 عاما). ويخبرنا سقوطه السريع أن الأنظمة الاستبدادية تبقى هشة وضعيفة مهما استعانت بحماية قوى أجنبية، وأنها مهما طال بقاؤها فإنها تسقط مجللة بعار الخيانة. هرب الأسد من سوريا، لأنه لا مكان له فيها بين شعبها. وتخلى عنه أقرب حلفائه، لأنه أصبح عالة عليهم بلا فائدة، خصوصا أن روسيا وإيران، لديهما ما هو أهم من حمايته.
سقوط نظام الأسد يجب أن يفسح مكانا لنظام يلبي طموحات الشعب السوري، ويعوضه عن معاناة وتضحيات قدمها في كفاحه ضد الديكتاتورية، لمدة تزيد على نصف قرن من الزمان. ما بنته الديكتاتورية في 54 عاما سقط في عشرة أيام، كقشة تذروها الرياح، لكن الحساب مع بشار حافظ الأسد لم ينته بعد، بل إنه بالكاد بدأ. الأنباء التي تتردد في دمشق بشأن سرقة بشار لخزائن ذهب ودولارات من البنك المركزي السوري يجب تدقيقها، وتوثيقها، وطلب إعادتها لأنها ملك للشعب السوري. كما أن ضحايا هذا النظام يجب عليهم مطاردته بدعاوى عن طريق حكومة سوريا الجديدة لدى المحكمة الجنائية الدولية. يجب أن لا يكون للديكتاتور ملاذ آمن في أي مكان في العالم، يختبئ فيه من العدالة، لا في روسيا ولا في الإمارات، ولا في غيرها من البلدان المقهورة بحكم الطغاة المستبدين.
على مدار تاريخ الشرق الأوسط ما حدث في سوريا لم يبق في سوريا، وإنما تجاوزت أصداؤه حدودها إلى ما وراء الشام شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. وبسقوط الأسد فإن حقبة طويلة من تاريخ الشرق الأوسط سقطت أيضا، وسوف تحمل الرياح السياسية أصداء هذا السقوط إلى الدول العربية المجاورة، وقد تتمكن المنطقة من أن تتنفس ربيعا سياسيا جديدا، أكثر نضجا من الربيع السابق، وأقوى سلاحا، وأشد عزيمة، وأصْوَب اتجاها. لقد كان للربيع السابق أخطاؤه، لكن الشعوب تتعلم، وقد تكون تكلفة دروس الماضي باهظة، لكنها لا تروح هباء. وإذا كنا نؤمن بقوة الشعوب وإرادتها، فإننا يجب أن نسلم بأن شعوب المنطقة العربية التي تحلم بالديمقراطية والعدالة والتنمية لن تذهب عنها أحلامها، وأن الشعب الفلسطيني الذي يحلم بدولته المستقلة ذات السيادة الكاملة لن يتنازل عن حلمه، وأن المستقبل هو للشعوب، وليس للطغاة أو المحتلين المتوحشين.
ما يحدث في سوريا بعد سقوط الأسد سيرسم ملامح وطبيعة مسار الصراع الإقليمي لفترة طويلة مقبلة، ربما تُعَدّ بالعقود وليس بالسنين
طبيعة الثورة
الآن وقد هرب الأسد، يجد السوريون أنفسهم أمام فضاء جديد، ربما يخجل منه البعض أو يخشاه، أو يشد به البعض عزيمته لاقتحامه بجرأة، لكننا يجب أن نعلم أن الشعوب في مثل هذه اللحظات تكون هي من يصنع التاريخ. سوريا الآن في ثورة لا تتحدد طبيعتها بالشعارات التي تُطْلَق هنا أو هناك، ولا بطبيعة من قاموا بها، أو ما نعتقد إنها طبيعتهم، وإنما تتحدد طبيعة الثورة بما تحققه فعلا على الأرض من تغييرات، فهذا هو الدليل الحق على طبيعة الثورة ومآلاتها المتوقعة. وتواجه الثورة السورية مباشرة ثلاثة اختبارات أولية جوهرية:
الاختبار الأول، منع حدوث فوضى في البلاد. وتنشأ الفوضى من وجود الفراغ. وقد أحسنت قيادة الثورة السورية بوضع ترتيبات مؤقتة لإدارة مؤسسات الدولة وشؤونها، حتى لا ينشأ فراغ يقود إلى الفوضى. كما وجهت جنود الثورة بالتوقف عن بعض السلوكيات الضارة، مثل الإفراط في إطلاق النار في الهواء، تمهيدا لوضع ترتيبات عملية خلاقة لإحلال الهدوء والاستقرار، الذي يسمح بالانتقال الهادئ للإدارة والسلطة السياسية في البلاد على أساس صلب يكتسب مصداقية لدى المواطنين، ويفتح الأبواب للتفاعل معهم.
الاختبار الثاني، الذي تواجهه الثورة هو منع أي محاولة، تحت أي مبرر لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية أو قومية. تقسيم سوريا يمكن أن يغذيه شيوع الفوضى، وشيوع خطاب سياسي قومي أو مذهبي متطرف. هناك مشاريع يتم ترويجها عن إقامة دويلات سنية وعلوية وتركمانية وكردية ودرزية، من الضروري قطع الطريق عليها بحكمة مع تجنب حدوث اقتتال داخلي بين قوى الثورة.
أما الاختبار الثالث، فإنه منع احتلال أي أراض سورية بواسطة أية قوة. وتواجه الثورة السورية منذ يومها الأول تهديدا إسرائيليا بعد أن احتلت قواتها منطقة جبل الشيخ. لقد كانت إسرائيل تريد الإبقاء على الأسد ضعيفا أشد ما يكون الضعف، وأن تدير علاقاتها مع سوريا على هذا الأساس. لكن الانتصار السريع والساحق لقوات الثورة وهروب الأسد من جحره كان السيناريو الذي لم تتوقعه. ومن ثم فإنها بادرت بتعزيز قواتها في الجولان، وسيطرت على منطقة جبل الشيخ أو (جبل حرمون)، من أجل تأسيس حالة صراع مبكرة مع الثورة السورية. وليس من المتوقع أن تنجر الثورة إلى مواجهات عسكرية مبكرة مع إسرائيل، قبل تثبيت أقدامها، لكنها يجب أن تعلم أن دمشق ليست بعيدة عن غزة.
إن حرب الشرق الأوسط التي بدأت في أكتوبر 2023 لم تنته بعد. الحرب لم تنته بعد في غزة، ولم تنته بعد في لبنان، لكن ما يحدث في سوريا بعد سقوط الأسد سيرسم ملامح وطبيعة مسار الصراع الإقليمي لفترة طويلة مقبلة، ربما تُعَدّ بالعقود وليس بالسنين.
وبعد الاختبارات الثلاثة الرئيسية التي تحدد طبيعة الثورة السورية، فإن هناك ثلاثة أسئلة رئيسية تطرح نفسها بقوة سعيا للحصول على إجابات قاطعة. السؤال الأول يتعلق بشروط التغيير السياسي الصحي في سوريا. والثاني عن علاقة انتصار الثورة السورية بمحور المقاومة. والثالث عن تأثير انتصار الثورة السورية على التوازن السياسي في الشرق الأوسط. وسوف نحاول في هذا المقال الإجابة عن السؤال الأول.
شروط إعادة البناء
الثورة الحقيقية لا تقتصر على إسقاط رأس النظام، ولا حتى إسقاط النظام السياسي الاستبدادي، وإنما الثورة هي عملية تغيير شاملة لإقامة نظام سياسي ديمقراطي يحقق للمواطنين حرية الاختيار، والمشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويخلصهم من كل أشكال الحرمان وانعدام المساواة، أي خطأ في عملية التغيير السياسي وإعادة البناء تكون له تكلفة باهظة. وفي الحالة السورية فإن هذه التكلفة قد تعني تقسيم البلاد إلى دويلات هزيلة تعمل كل منها لمصلحة طرف خارجي، وهو ما يتناقض مع الغرض من الثورة. ويجب إقامة النظام السياسي الجديد على أساس تعاقدي متوازن يمنح المواطنين حق مساءلة الحاكم ومؤسسات الحكم، وبناء مؤسسات على أساس الكفاءة والشفافية، وإقامة مؤسسات للرقابة والمساءلة مستقلة في قراراتها. وليس هناك أبدا ما يحول دون إقامة مؤسسات عصرية على أسس إسلامية إذا كنا نؤمن بأن الإسلام هو دين التسامح والمساواة والحرية والعدل والعمل، بلا تمييز أو تحيز، وأن مبادئه الدنيوية التي نفهمها قابلة للتجديد، وفقا للقيم الإنسانية العظمى. إن غياب مثل هذا النظام يؤدي بالضرورة إلى تراكم آثار العلاقات غير الصحية بين الدولة والمجتمع المدني، وتفاعلها في إناء مغلق، تحت غطاء ثقيل ومعتم، ما يؤدي بعد فترات طالت، أو قصرت إلى حدوث انفجارات تعبر عن نفسها سياسيا واجتماعيا في أشكال مدمرة.
السيادة ووحدة الأراضي
من أهم مستلزمات تحقيق الاستقرار: إقامة سلطة انتقالية مؤقتة تكون مهمتها السيطرة الكاملة على الحدود، وإقامة نظام فعال للأمن الداخلي وتطبيق القانون، وإدارة أجهزة الدولة ومؤسسات البنية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، تجسد في أدائها نوعا جديدا من الحكم غير الذي اعتاده السوريون لأجيال سبقت. هذا مهم جدا حتى تستطيع الإدارة الانتقالية كسب ثقة المواطنين، والشعور بأن اليوم التالي لسقوط نظام الأسد يحمل معاني جديدة للحياة والحكم، تبشر بمستقبل أفضل. ولا شك أن تجربة الحكم التي خاضتها (هيئة تحرير الشام) في إدلب، و(قوات سورية الديمقراطية) في دير الزور، و(الجيش الوطني السوري) في مناطق شمال سوريا، و(جيش سورية الحر) في الجنوب، وغيرها في المناطق التي بقيت فيها قوات الثورة خلال السنوات العشر الماضية، تتيح لها جميعا رصيدا ثمينا من الخبرات في الإدارة والتعامل مع المواطنين وعملية اتخاذ القرارات وأساليب إدارة العلاقات بين المراكز الإدارية المختلفة. التقارير المتداولة عن تجربة (هيئة تحرير الشام)، وهي بلا شك كبرى قوات الثورة السورية، تفيد بأن طريقة الحكم في إدلب تحتاج إلى دراسة دقيقة، حتى يتم تطويرها عند التطبيق على كل الأراضي السورية، بما في ذلك تلك التي يغلب عليها السنة، أو الأكراد، أو العلويون، أو التركمان أو الدروز. إن سوريا ليست أفغانستان، ومن ثم فإن (هيئة تحرير الشام) يجب ألا تكون نسخة من (طالبان)؛ فكل بلد له خصوصيته. إن كل ما يحدث في اليوم التالي للثورة سيترك بصمته بسرعة على لبنان وفلسطين والأردن والعراق، وما وراءها جميعا.
كاتب مصري
ألم يكن جديراً بقيادة الثورة السورية أن تصدر موقفاً سياسياً تسجل فيه اعتراضها بل وشجبها للإعتداءات الإسرائيلية المرعبة على سيادة سوريا سواء باحتلال أراض سورية إضافية (جبل الشيخ ومناطق أخرى محاذية للجولان المحتل وتدمير مقدرات البلاد العسكرية بمئات الغارات الجوية؟) فكما يقول كاتب المقال أعلاه “ما يحدث في سوريا بعد سقوط الأسد سيرسم ملامح وطبيعة مسار الصراع الإقليمي لفترة طويلة مقبلة، ربما تُعَدّ بالعقود وليس بالسنين.” من الواضح أن الثورة السورية غير قادرة على مواجهة إسرائيل عسكريا وليس مطلوبا منها ذلك، لكنها عينت رئيس وزراء لإدارة الفترة الانتقالية. فهل سكوته وسكوت قيادة الثورة السورية عن اعتداءات إسرائيل منذ نجاح الثورة في دحر نظام الأسد (وأنا لست من المدافعين عنه) ينبئ بالتقصير فقط أم أن الثوار يريدون دولة منزوعة السيادة؟
مقال جيد . اعتقد ان مطالبة الحكومة السورية الجديدة من مجلس الأمن للامم المتحدة لوقف العدوان الاسراءيلي والطلب من محكمة الجنايات الدولية وكذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن للتدخل من اجل استرداد حقوق الشعب السوري مهمة جدا ً. الملاحظ لا هناك نوع من القلق لدى بعض الدول العربية بان قادة الثورة السورية لهم توجهات اسلامية. المهم ان قادة الثورة السورية اكدوا إجراء الانتخابات وحذروا من الاعتداءات لاي سبب. اعتقد ان الاولوية العربية والاسلامية والعالمية هي كبح العدوان الاسراءيلي على سوريا.