عادل عبد السلام لاش
لم يكن الوصول للمنزل صعباً، فالتعليمات كانت بسيطة وواضحة. وبكل الأحوال، يمكنك إن تُهت أن تسأل أياً من سكان البلدة: «وين بيت الأستاذ عادل لاش؟» وسيدّلك دون تردد، فجميع من يعيشون اليوم في قرية مرج السلطان في قلب غوطة دمشق الشرقية، يعرفونه.
يستقبلني بوجه بشوش وابتسامة عريضة وهو جالس على كرسيه، وإلى جانبه زوجته، ووسط الغرفة ذات البرودة المنعشة، رغم الحر خارجاً، طاولة وُضعت عليها الفطائر الشركسية الساخنة، التي تسمى «الحلفة» أو «الحلجة». أفكر: «أخيراً، وبعد شهور من البحث والتواصل، ألتقي عادل عبد السلام لاش، بعد أن قرأت له وعنه الكثير». وكما قد يكون متوقعاً، كانت تلك الفطائر الشهية المحشوة بالجبن، مدخلاً كي أكسر أول الحواجز مع لاش، الذي يصنف نفسه على أنه «جغرافي شركسي سوري» ويطلق عليه البعض وصف المؤرخ، وهو اليوم وقد أتم عامه الواحد والتسعين، يبدو أشبه بصندوق من الكنوز والمعارف التي يحفظها بذاكرة مُبهرة، ويشاركها بكل رحابة صدر، لتغدو المهمة الأصعب ربما، إنهاء ساعات من الحوار الشيق معه وتوديعه.
يقول عادل لاش لـ«القدس العربي» إنه ابن الجبال والقرى، وقد ولد في قرية عسال الورد في القلمون في ريف دمشق، وتنقل بين عدة محافظات سورية مع عمل والده في سلك الشرطة، لكنه أمضى معظم حياته في قرية مرج السلطان التي تُعرف بأنها مركز للمكوّن الشركسي في سوريا وريف دمشق خصوصاً، وقد قدموا إليها وبنوها في أواخر القرن التاسع عشر. أكسبه هذا معرفة كبيرة بخصوصية المناطق السورية وسكانها، وفي الوقت ذاته تمسّكاً بهويته ولغته الشركسية، التي كانت أول لغة تحدث ودرس بها، إلى جانب العربية، وانعكست هذه الهوية على رؤيته للأحداث المفصلية التي مرت بها سوريا. مثلاً، يذكر بالتفصيل عدد الطلاب الشركس الذين شاركوا باحتفالات استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي، حين كان طالباً في مدرسة ابن خلدون في دمشق، وساهموا برفع العلم السوري على المدرسة. عندما أنهى دراسته الثانوية توجه نحو معهد إعداد المعلمين، رغم أن قسماً كبيراً من أفراد عائلته كانوا يميلون نحو دخول الكلية الحربية، إذ كانت حينها البدلة العسكرية «حلماً لكثيرين» لكن عائلته قررت بالإجماع: «خلي يطلع من عيلتنا واحد يكسب خبزه مو من تم البارودة» وفق تعبيره. تخصص بالجغرافية وعمل مدرّساَ قبل أن يحصل على بعثة لإتمام دراسة الماجستير في رسم الخرائط والدكتوراه، بتخصص العلوم الجغرافية الطبيعية من جامعة برلين الحرة. وعاد ليعمل بالتدريس في جامعة دمشق مستمراً في هذه المهنة رغم تقاعده حتى عام 2019 نتيجة لخبرته النادرة، كما درّس في جامعة تشرين في مدينة اللاذقية، وعمل مشرفاً على عدد من البعثات العلمية في بلدان مختلفة، وألّف عشرات الكتب ومئات الأبحاث والمقالات العلمية والتاريخية واللغوية.
الهوية واللغة
إلى جانب تخصصه في مجال الجغرافيا، شغلت حكايات المكون الشركسي في سوريا بال عادل لاش، واهتم بتأريخ كثير من الأحداث التي مروا بها. فكتب مقالات عن مختلف المناطق التي عاشوا فيها من الجولان جنوباً حتى ريف حلب شمالاً، وعن نزوحهم من مكان لآخر، إثر أحداث تاريخية مفصلية مثل احتلال إسرائيل لهضبة الجولان، وعن شخصيات شركسية عملت وبرزت ضمن أكثر من مجال علمي وتاريخي وثقافي وسياسي. واليوم يخصص وقتاً للكتابة والنشر عن عادات وطقوس تميز هذا المكوّن، والكثير من التفاصيل المرتبطة بثقافته، التي تساهم بتعريف غير الشركس بها بطريقة مشوّقة وسلسة، إلى جانب حفظ الهوية الشركسية من أي طمس أو اندثار. وفي هذا الصدد يقول: «عملت لعقود طويلة لكل السوريين عموماً، واليوم أخصص عملي للشراكس، خاصة أن المحتوى الموثوق الذي يتحدث عنهم وعن ثقافتهم باللغة العربية قليل للغاية». مثلاً، يمكن أن نقرأ اليوم على صفحته الكثير من الأمثال الشعبية الشركسية مع شروحاتها، وعادات الزواج، واحترام الكبار، واستقبال الضيوف وتقديس واجب الضيافة، وبعض قواعد اللغة الشركسية، وغيرها من الأمور. كما يعمل لإتمام كتابه الخامس عن تاريخ هذا المكون، إلى جانب نشره سابقاً لقاموس شركسي إنكليزي، وآخر شركسي عربي يضم نحو 29 ألف كلمة، وهي تعتبر من القواميس النادرة لهذه اللغة.
أسأله: «كيف تصنّف نفسك؟» فيجيب: «الموضوع معقد قليلاً. أنا شركسي سوري، دمي وجيناتي شركسية، وسوريا هي الجغرافية التي عشت فيها مع الناس، كما أن دراستي وثقافتي عربية، واللغة العربية بالنسبة لي مهمة للغاية، إذ يقال: «من أراد محبة قوم تعلم لغتهم». إلى جانب هاتين اللغتين، يتقن الأكاديمي الألمانية والإنكليزية ويلمّ بالروسية والتركية والفرنسية واليابانية وإحدى اللهجات التشادية. يأسف لاش لاختفاء كثير من العادات والتقاليد الشركسية بين من ما زالوا يعيشون في سوريا اليوم، وهي نتيجة قد تكون طبيعية لتغيّر شكل الحياة وكذلك تبعثر الناس بعد سنوات الحرب. يذكر بعينين لامعتين تلك العادة المتعلقة بالأعراس، حين يحصل اتفاق سري بين الشاب والفتاة للزواج في الليل، ثم تحصل مفاوضات بين العريس وأهل العروس وصولاً لاتفاق على كل التفاصيل ذات الصلة، وكذلك تقاليد الرقص الشركسي مثل وجوب عدم تلامس الراقصين ووجود مشرف على الرقصة لتحديد مكامن الخلل فيها. ويذكر تعبير «تحماتا» الذي يعني كبير القوم، وأكثرهم خبرة ومعرفة والمسؤول عن حل الخلافات، وكذلك الحفاظ على التقاليد والطقوس، وهي مرتبة ما زالت موجودة اليوم لدى الشركس لكن بفعالية أقل من الماضي.
مرج السلطان… الوجهة الدائمة
رغم تجواله في أصقاع العالم، يعود عادل لاش كل مرة إلى بلدته الأم، مرج السلطان وسط الغوطة الشرقية، ويحفظ تاريخها وجغرافيتها عن ظهر قلب، ويملك الكثير من الحكايات عنها. فمنذ سنوات الدراسة اختار أن يكون مشروع تخرجه بعنوان «المرج في حوضة دمشق وقرية مرج السلطان الشركسية» وكتب الكثير من المقالات والأبحاث عن المياه والزراعة والعمارة والسكان فيها. ومن الذكريات التي يسردها عن المرج: «كنا دائماً نأتي في العطل لمنزل العائلة هنا. كانت البلدة عبارة عن بيئة طبيعية فيها الكثير من الطيور والحيوانات والمستنقعات والأدغال الصغيرة، وكانت لدينا كشباب مهمة اصطياد الثعالب التي تهاجم الدجاج، وكنا نستعين بالكلاب التي نناديها باللغة الشركسية». ويذكر اصطياد الإوز من بحيرة العتيبة، وهي مصب نهر بردى الذي يعاني اليوم من تراجع كبير في منسوبه، وأسراب طيور الزرزور التي كانت تغطي السماء في موسم الهجرة، والسهرات الليلية والحفلات الراقصة والألعاب بين أهالي البلدة. كما يفخر بكون مرج السلطان من أوائل بلدات الغوطة التي امتلكت مكتبة عامة، كان هو من المساهمين فيها في خمسينيات القرن الماضي، ونادياً رياضياً، ودخل إليها الهاتف. ويعزو الأمر لمستوى التعليم المرتفع والأعداد الكبيرة للطلاب في مختلف المراحل ومنذ عقود طويلة.
لم تسلم كل هذه الذكريات من نيران الحرب، فعائلة لاش كما معظم عائلات البلدة تركت منازلها نحو دمشق، أو مناطق أخرى مع اشتداد وتيرة المعارك في الغوطة عام 2013، ويحزن الرجل لأنه لدى عودته منذ نحو عامين، وإلى جانب الدمار الهائل الذي لحق بالمنزل، فقد مئات الصور الأرشيفية، وأكثر من ثلاثة آلاف كتاب هي الجزء الأكبر من مكتبته، ومعظمها باللغة الشركسية.. ويحاول مع عائلته اليوم، كما كثير من عائلات مرج السلطان، إعادة بناء حياتهم في قريتهم التي يحبونها، وترميم ما تبقى من منازلهم. ونحن في منتصف جلستنا الممتعة، يدق جرس الباب لتدخل إحدى الجارات وهي تحمل طبق «سكبة» أو هدية من الفطائر الشركسية الساخنة. يخبرني مضيفي مبتسماً بأن عادات الضيافة والتشارك بين الجيران والسكان عموماً، هي من الأمور التي لا يمكن أن تتغير مهما تبدل الزمن.
ما هو سر ذاكرتك؟
السؤال الأكثر إلحاحاً وأنا أستمع إلى حديث عادل عبد السلام لاش، وأنبهر بكمية التفاصيل الدقيقة التي يحفظها عن مختلف مراحل حياته: «ما هو سر ذاكرتك الحديدية هذه؟». يبتسم ويقول: «لا أعلم تماماً، لكن لعلها القراءة المستمرة والاطلاع. اعتدت القراءة لعشر ساعات على الأقل يومياً معظم أيام حياتي». وبروح مرحة يضيف: «صحيح أنني تجاوزت التسعين، لكني مستمر بهذه العادة قدر الإمكان. ليست لديّ مشكلة بسبب العمر. فقط بعض الآلام في القدمين. ما يحزنني فقط هو خسارتي لكل أصدقائي، ووفاتهم واحداً تلو الآخر». يمضي لاش اليوم أيامه في قريته الصغيرة التي يحب، يستفيد من حاسب محمول أهداه إياه أبناؤه الثلاثة ليستغل وقته بكتابة ما في جعبته بالاستعانة بذاكرته، وما تبقى لديه من كتب وبعض المراجع الإلكترونية، ويشاركها إما بكتب أو مقالات أو منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، وبات اليوم يعتبر مرجعاً لكثيرين بكل ما يتعلق بالشركس عموماً، وفي سوريا خصوصاً، ولا يزعجه سوى الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي التي تحرمه أحياناً من متابعة العمل، إذ يستمر بالكتابة «حتى يخلص شحن البطارية». يخبرني بابتسامة عريضة بأنه سيحتاج خمسين عاماً أخرى فقط كي ينهي العمل على ما يحفظه ويملكه من معلومات وحكايات.
كاتبة سورية