تكشف علاقة الموسيقى بالحرب عن سرديّة مُعقّدة بعض الشيء، فهي تعكس ثنائية الخلق والدمار.
أدرك فلاسفة مثل نيتشه القوة الخلاصيّة للموسيقى، واعتبروها وسيلة لمواجهة فوضى الوجود.
في أعقاب الحرب، يمكن للموسيقى أن تُحوِّل الألم إلى فنّ، مما يُمكِّن المجتمعات من إعادة بناء وإعادة تعريف نفسها.
لكن ماذا لو كانت الموسيقى تُعزَف أثناء الحرب، صوتها يختلط بصوت الصواريخ والزنّانات، تارة تسمع صوت الحياة وتارة يطغى صوت الموت! لم أتخيل يوما أن مقولة تحكي عن أولئك الذين نراهم يرقصون، ثم يظنّهم الذين لا يستطيعون سماع الموسيقى مجانين، قد تَعبُر الزمان والمكان إلى أن تسقط كصاروخ في غزّة! لتصبح غزّة موسيقى، لن يسمعها من يعتقد أنّ العزف على إيقاعها فعل رفاهية.. ما دفعني لتأمل تلك المقولة أنني توقّفت كثيرا عند صورة حديثة للمصور الفوتوغرافي الفلسطيني فادي ثابت، التي يُظهر فيها صبي يافع فقد يده في غارة إسرائيلية على محيط منطقة نزوحه، هذا الصبي هو عازف كمان بارع، لم تقتنع معلّمته بأن فقدان اليد قد يكون سببا مقنعا لانطفاء شغفه أو نشاز عزفه، فأنبتت له يدا من خشب.
لا يتعلّق الأمر بالتساؤل حول إن كان عزف الموسيقى، أو الاستماع لها هو أمر أخلاقي، بينما تتعرّض مدينتك لإبادة ويتعرّض شعبك للتنكيل، ولا ما إذا كانت الموسيقى فعل رفاهية عديمة الجدوى عندما يعاني الكثير من الناس حولك من الاضطهاد؛ فهي ليس «كماناً بينما تحترق روما». ولا عن الموسيقى كفنّ يحفظ تراث الشعوب، بل عن الموسيقى في خضمّ حرب قد يذهب ضحيتها مئات في اللحظات التي أكتب فيها هذه الكلمات. هذه الصورة ذكرتني بمقولة «لا يمكن أن نخسر المعركة الثقافيّة» لجورج حبش، وإن اختلفت التفاصيل بعض الشيء. لم تكن مقولة حبش هذه إلا دعوة كفاح ضد كل محاولات الكيان طمس الهوية الفلسطينية، وإعادة الحياة بكل تعبيراتها وتجلياتها. في الواقع، فإنّ للفنّ طريقته الخاصة في أن يكون سياسيّا. ولكلّ شكل فنّي طريقته المميّزة، وكلّما كان أكثر إبداعا وإصرارا كانت فرصته أفضل وأقوى في نقل رسالته، التي تبدأ إنسانية ثم ما تلبث ان تتحوّل لسياسية. وإن يسمح لي جورج حبش بالتصرّف بمقولته قليلا، فإننا لا يمكن أيضا أن نخسر المعركة الإنسانية. فالإسرائيلي يرفض أن يُمارِس الفلسطيني إنسانيّته الطبيعيّة. ومن خلال فعل التطهير العرقي، والإبادة والمجازر اليوميّة التي تُلاحق الغَزّي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن في لحظة القمع الكبرى لتلك الإنسانيّة يُمارس الفلسطيني أعلى درجاتها عبر العزف والفنون، فيُعرّي بذلك المحتلّ من إنسانيته. يخشى الاحتلال أي حركة نهضويّة للفلسطيني على اختلاف درجاتها. يُربِكُه ذلك، ويرى فيه اختراقا للقمع الذي يمارسه. هذا الإصرار على التواصل مع الحياة يعني استعادة الذات وهذا يُزعج المحتل ويستفزّ أهدافه.
لا أنكر أن الحال أسوأ مما هو عليه، وأن اليأس والخوف والخذلان أعظم وأعمق من أن يُعالَج بأي شكل من أشكال الفنون، لكن فجأة، تأتي تلك الّلحظات التي يخرج بها فتى أو صبيّة بفعلٍ خارج عن العادة ليُعيد بعض النبض لكلّ القلوب المُثقلة. تُعزَف الموسيقى عند انتهاء الكلمات، وكأنّها كما وصفها جبران خليل تُعلِّم الإنسان أن يرى بسمعه ويسمع بقلبه. أعتقد أن التسامي هو أكثر ما لفتني في صورة عازف الكمان! عندما «يأتي الفنّ في مواجهة الرعب الناشئ عن غياب أي معنى للحياة، ليبرّر الوجود نفسه». ذلك الخلق الإيجابيّ في مواجهة السلبية، أو هو توجيه الأفكار والمشاعر والاندفاعات السلبيّة، نتيجة الصدمات إلى سلوكيّات أكثر إيجابيّة. كأنْ يتجه الواحد منّا بقلقه واكتئابه إلى الكتابة بهدف تقنين غضبه لا تفريغه. تثير تلك الحالة أسئلة من الممكن أن تخلق وعياً وتحريضاً بوجه العدو من خلال الموسيقى، بحيث تُفصح عن تلك الأشياء التي لا نستطيع الحديث عنها لفظاعتها، وليس بمقدورنا السكوت عنها لقساوتها، فتستعيد أشياءنا التي تشوّهت حالتها الأصليّة، فتنبت من ذراع الطفل يد، وتبزغ من روح الطفلة أجنحة وتنمو من ساق طفل قدم.
هي آليات لا تهدف للوصول إلى الخلاص، بل إلى التعايش مع الواقع الصعب وتفادي ضائقاته ومحنه.
لذا بالنظر إلى الطرق التي تكتسب بها العواطف معنى في الموسيقى ومن خلالها، فإنها تبني الذات الفردية والجماعية التي تُنتِج رغبة متصاعدة في الحياة تتطلّب السلام أو تسعى إليه.
لعلّ الكاتب البرتغالي ساراماغو كان من أفضل من طرح فكرة تجسيد الموت ليكون كائنا بشريّا، يفكّر ويتأثّر ويتعاطف مع بعض ضحاياه أحيانا، ويستمتع بساديّته أحيانًا أخرى، وكأنه يشير إلى عبثية هذا القدر، فلا يلتزم بقوانين محدّدة. فشخصية «موت» أحبّت عازفًا، وخلخلت مسار القدر وحساباته، وكأن الفنّ والموسيقى حين تكون جيّدة قد تشوّش على رنين جرس النهاية! افتراضات قد تتحقّق بتفاصيل صغيرة، عشوائية تجتمع لتبعد موتا محقّقا عن شخص ما بطرفة عين! هكذا.. بلا أسباب واضحة، أو منطقيّة في الظاهر، بينما محاولات مستميتة قد يقوم بها أحدنا لينقذ حياة آخر فيعجز. تتجلى عبثية الحياة بأن يفقد العازف يده ولاعب الكرة قدمه، ويتجلّى معنى الحياة في المقاومة والإرادة.. وكما أن الموت لا يستثني أحدا، فالحياة لا تستثني أحدا.
كاتبة أردنية
شكرًا السّيدة دانا جودة على هذا المقال…آخر ما قرأت لحضرتك مقال مترجم بعنوان { الشرّ من الخارج } للكاتب مارتن
جنكينز.أتمنى لك المزيد من التوفيق والسؤدد.
كل الشكر والامتنان
لا احد بمقدوره ان ينزع حب الحياة من شعبنا…ولا احد يمكن ان يكتب مقالاً رائعا كهذا سواك استاذة دانا
نهنأ الاردن على بطولة أحد النشامى ضد إسراءيل هو الشهيد ماهر الجازي.