عرفت السنوات الأخيرة عدة محاولات لإعادة قراءة تاريخ الموسيقى العربية في المئة سنة الأخيرة. وعلى الرغم من أهمية بعض الكتب التي صدرت في هذا السياق، إلا أن ما يسجل على معظمها أنها بقيت تحصر كتاباتها في النصف الأول من القرن العشرين، أو لنقل في زمن أم كلثوم وجيلها، بوصفه الزمن الجميل للأغنية العربية، وهو ما نلاحظه بشكل واضح في كتابات المؤرخ الفلسطيني فيكتور سحاب، الذي أصدر عددا من المجلدات المهمة عن سيد درويش، وأغاني أم كلثوم. ولن تقتصر هذه الملاحظة فحسب على سحاب، وإنما شملت جهود باحثين كثر، ممن فضلوا عدم التورط في قراءة الموسيقى والمجتمع في فترة ما بعد الخمسينيات في العالم العربي. ولذلك يمكن القول إن هناك أجيالا من الموسيقيين والمطربين العرب، ممن لم يدرسوا بالشكل الكافي ليومنا هذا، ونعني هنا بالتحديد جيل التسعينيات وما بعد حميد الشاعري وعمر دياب، أو التي تلت هذا الجيل، وبالأخص مع ظهور ألحان وموسيقى أخرى شابة، مثل موسيقى الراب العربية بعد الحروب التي عرفتها المنطقة، أو في المهجر.
ومن بين الاستثناءات العربية الساعية لقراءة زمن ما بعد أم كلثوم، الجهود التي يبذلها اليوم عدد من الباحثين في موقع معازف، الذي يحسب له تركيزه في بعض الجوانب على قراءة نوع معين من الأغاني الشعبية، التي ظهرت بعيد حرب العراق 2003، من خلال أغنية (البرتقالة) قبل أن تتطور لاحقا في سوريا ولبنان مع ظهور جيل آخر أيضا من مطربي المطاعم والملاهي الليلية، وديع الشيخ، ريم سواس. كما يحسب لبعض الكتابات العربية في هذا السياق أيضاً، أنها كشفت لنا عن تواريخ موسيقى مغايرة للصورة السائدة، وهو مثلا ما وجدناه في كتاب الناقد والكاتب العراقي علي عبد الأمير (يا أم الفستان الأحمر) الذي تناول فيه تاريخ الأغنية العراقية، منذ أيام الملا عثمان الموصلي إلى جيل كاظم الساهر ولاحقا مهند يوسف. وما يحسب لأمير في هذا الشأن، أنه كشف لنا عن سردية تقول إن الموسيقى العراقية لم تكن بالضرورة موسيقى حزينة، وإن هذا النفس الشجي، الذي انطبعت به الأغنية العراقية، هو في أحد جوانبه وليد فترة ما بعد الثمانينيات في العراق، وبالأخص بعد حرب خليج الأولى 1980 ـ 88، حرب الخليج الثانية 1991 ـ غزو العراق 2003.
كما يمكن الاشارة للحفريات المهمة التي بذلها الناقد الموسيقي فادي العبد الله، الذي نشر في العقدين الماضيين مجموعة من المقالات التي تناولت تاريخ الموسيقى العربية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى زمن حميد الشاعري. وقد فعلت دار كتب خان المصرية خيرا، عندما أعادت نشر مجموعة من هذه المقالات في كتاب بعنوان (في إثر الغواية.. عن الموسيقى والنقد).
بلبل المنصورة
يحسب للمؤلف في هذا الكتاب ، أنه لم يركز في قراءته للتاريخ الموسيقي العربي على الألحان فحسب، وإنما أيضا حاول ربط الألحان والكلمات الجديدة بالواقع الاجتماعي والسياسي الذي عرفته الأغنية العربية على مدار مئة سنة. يعتقد المؤلف أنه مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بدا أن هناك مساحات لتشكل الهويات الوطنية في عدد من دول المشرق العربي، ما أدى إلى أن تتأثر الموسيقى أكثر من السابق بالتغيرات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها المنطقة. في الأربعينيات، نرى بعض الملحنيين وهم متورطون أكثر من السابق في قراءة الأمزجة وصراع الاستعمار والنخب المحلية، كما في مثال الملحن المصري رياض السنباطي. كان الأخير قد تعرف على أم كلثوم عام 1935، ويومها لم يكن فقط مقلدا مجيدا للقصبجي، بل لنده الأسبق شهرة محمد عبد الوهاب. يظهر هذا التأثر بوضوح في نتاج السنباطي الاول، منذ أغنية (النوم يداعب) لأم كلثوم، انتهاء بمحاولته السينمائية لمنافسة عبد الوهاب.
مع انتصاف العقد الخامس من القرن العشرين، بدا وكأن المزاج العام عزف عن الرغبة في الاستماع إلى مونولوجات القصبجي ورامي، المستوحاة من مناخات أوروبا القرن التاسع عشر، وأبدى نفورا من الغرب ورغبة في تأكيد التمايز عنه، والوقوف بوجهه. ولذلك بات السنباطي رمزا للأصالة، وربما كان لاختيار الفصحى دور أيضا في ذلك، مع ذلك فقد كان السنباطي يشيع جوا من الحساسية المرهفة الرومانتيكية، ويبدي قليل الاهتمام بالطابع الإيقاعي للتطريب العزفي القديم.
زمن صبوحة وحمدي
من بين المحطات التي يقف عندها المؤلف في ستينيات القرن العشرين، فترة ظهور المطربة اللبنانية صباح، اذ بدت السينما المصرية آنذاك تبحث عن امرأة مغنية قادرة على أن تكون النجمة الجديدة، وكانت اللبنانيات مرشحات دائمات، فاشتهرت صباح ونور الهدى، وظهرت نجاح سلام قليلا مع محمد سلمان. والحق أن صباح جسدت تماما صورة المرأة اللبنانية في عيون المصريين ببياضها وشقرتها، كما بتحررها وغنجها وجرأتها. بدت صباح لا تهاب أحدا، واعتمدت على الغناء الزجلي، مع خلق مجال أوسع للضحك والنكات في أغانيها، كلاما ولحنا، على عكس فيروز، التي جعلت من جنوب لبنان أرضا أسطورية موهومة، فإن صباح كانت إن غنت لبيروت، عددت أحياءها حيا حيا، من البسطة إلى الأشرفية مرورا بالصنائع وباب إدريس، كذلك كانت صباح عاشقة وغلبانة في مصر. كانت الصبوحة دائمة الصراحة ومفاجئة الجرأة، في إعلان حبها لنفسها ولأغانيها، وفي حديثها عن الجنس والنزوات وإعجابها بجمال الرجال، ولذلك فإن الجماهير أحبت صباح أكثر من أغانيها.
وفي سياق مقارنتها بفيروز، يعتقد المؤلف، أن الاخيرة تمكنت من حسم المعركة لصالحها، إذ لم تتمكن صباح من أن تكون منزهة عن الزمن، كما أن مزاج لبنان الستيني، الساعي الى البحث عن هوية تدمج بين تيارات متنازعة (من البيزنطي إلى الحلبي إلى الأوروبي، فضلا عن المصري واللبناني الجبلي) ودمجهم في مشروع واحد، وقدوم زمن الحرب خلق حاجة إلى صورة أم حاضنة مثلما كان زمن الحاجة إلى التراجيديا الفيروزية، وهو ما كان يعني انتهاء عهد الدلع (زمن صبوحة) كما لا يمكن نسيان الدور الذي لعبه الرحابنة مع عدد من شعراء العامية اللبنانية في ظهور عالم فيروز. يقف المؤلف في جوانب أخرى من الكتاب، عند ألحان وتجربة بليغ حمدي، الذي جاء في فترة الستينيات والسبعينيات، وهي فترة غالبا ما صورت الفنان في الخيال الشعبي والسينمائي المصرية، بوصفه شخصية بوهيمية وانفعالية وغير مستقرة، بخلاف زمن السنباطي والقصبحي. مع ذلك بدا حمدي حاجة سياسية واجتماعية في وقته، خاصة أنه نجح في الإنتاج والتجريب وشراء آلات جديدة وإطلاق أصوات ومواهب وحتى ملحنين مثل حلمي بكرا وصولا إلى جيل حميد الشاعري.
حميد الشاعري… في الحاجة إلى المرح
ومما يحسب للمؤلف أنه ركز في قراءته على فترة أغاني الثمانينيات والتسعينيات، وهو ما نراه مثلا من خلال قراءته لدور المغني المصري حميد الشاعري، الذي لم ينتشر بصوته، بل بالنجوم الذين صنعهم مثل محمد فؤاد، مصطفى قمر، هشام عباس، إيهاب توفيق حكيم وحتى عمرو دياب. ولعل ما ميز هذه التجربة استخدام مزيج التراكات المضاعفة، والجيتار، والتصفيق والإيقاع الصريح. وكان من الطبيعي للشاعري، العازف على جيتار لا على العود، أن يدخل الجو الهارموني وإن في أبسط صوره، ما خلق مناخا موسيقيا مختلفا عن المعتاد في الشرقي، مع الاعتماد أيضا على شطرات كلامية قصيرة لا تتجاوز الثلاث كلمات في الاغلب، يضاف إليها العامل الكبير الذي أدخله، أي المرح. ففي كل ثنائيات الشاعري يبدو مهموما بالتركيز على المرح، والاهتمام بالضحك، والابتعاد عن الموضوعات الأثيرة لشعراء الأغنية الكبار، ممن تابعوا أحمد رامي في طريقه الرومنتيكي. ولعل هذا يعكس كما يعتقد المؤلف مزاج جماهير الطبقة الوسطى، التي كانت لا تزال تبحث عن جزء من عالم الأمل، قبل أن تنهار لاحقا. ومما يلاحظ في تجربة حميد الشاعري وشلته: الصوت الضعيف، هلامي الخامة مثل مصطفى قمر، الذي يجد قوته في ضعفه، وبالتالي في إذابة الفارق بينه وبين المستمع، الذي يستطيع أن يتخيل نفسه فيه. مع ذلك لن يكتب لهذا الجيل الاستمرار، باستثناء عمرو دياب الذي نجح في تجديد نفسه وراكم رأسمال كافيا لتأمين الدعاية والاستمرارية لأيامنا هذه.
كاتب سوري
وهل الموسيقى العربية هي موسيقى المشرق العربي فقط ، اين تاريخ الموسيقى العربية بالمغرب العربي ،،،، لنا خصوصياتنا وطباعنا الموسيقية المتعددة،،، وفي الاخير،،، من أوصل الموسيقى العربية الى العالمية
بالمناسبة حميد الشاعري ليبي الأصل وليس كما يقول المقال مصري فقط.