تجنّبت معظم الفضائيات ووسائل الإعلام الأوروبيّة نقل تفاصيل الغضب الشعبي الفرنسي الواسع من فرض تعديلات على نظام التقاعد في البلاد بمراسيم رئاسيّة ودون المرور بالبرلمان. ولكن الحدث فرض نفسه بشكل أو آخر، لأن الأمور نحت نحو التصعيد من قبل مختلف الأطراف المعنية، وانتقل الجدل من أروقة السياسة إلى الشارع مباشرة: تظاهرات واضرابات وصدامات تواجهها الشرطة بأقصى درجات التشنج، دون بذل أي جهد للاختلاط بالحشود ونزع فتيل المشاكل، وبدلا من ذلك تعمد إطلاق العنان لقنابل الغاز المسيل للدموع والهراوات، ما دفع المتظاهرين لمبادلة العنف بالعنف، وإشعال الحرائق بأكوام القمامة المتراكمة منذ ثلاثة أسابيع، وهكذا في صراعات متنقلة لدرجة أن وسائل الإعلام وجدت نفسها متأخرة عن منصات التواصل الاجتماعي في رصد التطورات، واضطرت في النهاية إلى اللحاق بركبها، مخافة أن تفقد المزيد من جمهورها.
ما الذي أخرجهم من غفلتهم؟
للفرنسيين دون الشعوب الأوروبيّة تاريخ متفرّد من الاحتجاجات الشعبيّة العاصفة، ولذلك فإن المتظاهرين في ساحة «الكونكورد» في قلب باريس هذه الأيّام كانوا بشكل أو آخر يعلمون أنهم يستعيدون تقليداً باريسياً معتقاً، يمتد من عام 1789 (الثورة الفرنسية) مروراً بـ 1871 (كومونة باريس)، وانتهاء بـ(ثورة الطلاب) عام 1968. ويذهب المعلقون، إن سألتهم ما الذي أخرج هذه الروح الثوريّة من القمقم، الذي حبست به منذ عقود، إلى تحميل المسؤوليّة لمشروع الرئيس ايمانويل ماكرون لإصلاح نظام التقاعد (رفع سن التقاعد من 62 عاماً إلى 64، وعدد سنوات الخدمة اللازمة لتحصيل راتب تقاعدي كامل إلى 43).
لكن الحقيقة أن فرنسا كانت في حالة اضطراب مستمر حتى قبل قرار ماكرون الصلف الأسبوع الماضي بفرض قانون ترفضه أكثرية بحدود الـ 80 في المئة من المواطنين عبر مرسوم رئاسيّ – بعد أن لم تعسّر عليه تجميع العدد الكافي من الأصوات لإقراره من قبل البرلمان – وإن كان لعب دور ما نسميه بالقشة التي قصمت ظهر البعير. فالحكاية لم تبدأ بهذا الشتاء الطويل من الإضرابات المتدحرجة، والصفوف الطويلة أمام محطات الوقود، والمسيرات الأسبوعية الحاشدة، وأكوام القمامة المتراكمة في مختلف الأحياء، بل إن الأمر يعود في عهد ماكرون وحده إلى عدة سنوات بعد أن أطلقت مجموعة عريضة من العمال الفرنسيين المهمشين ما عرف بحراك «السترات الصفر»، وقبل ماكرون أيضاً في عهد كل الرؤساء الذين تتابعوا على الإقامة في قصر الإليزيه (المقر الرسمي للرؤساء الفرنسيين) منذ الاشتراكي فرانسوا ميتران.
الغضب الشعبي الفرنسي عام، طويل الأمد، ومتراكم ضد الدولة ورمزها الأعلى، الرئيس. إذ كان العقد الاجتماعي للمواطن الفرنسي مع دولته بعد ركام الحرب العالميّة الثانية وتأسيس الجمهوريّة الخامسة في 1958 على يد بطل التحرير الجنرال شارل ديغول، يقوم على مبدأ الخضوع للقانون وبيروقراطيّة النّظام النخبوي، والتخلي عن جزء مهم من المدخول الشخصيّ لمصلحة الخزانة العامّة، ذلك مقابل الحصول على نعيم اشتراكيّ تام: التعليم المجاني والرّعاية الصحية والمعاشات التقاعدية والمساعدات الاجتماعية ،عند العجز أو البطالة، وهكذا. وقد نجحت هذه التركيبة بشكل عام لغاية التسعينيّات من القرن الماضي بالاستفادة من فورة البناء والانجاز وإعادة التعمير خلال الثلاثينية الذهبيّة بعد الحرب العالميّة، وما أنتجه تلك الفورة من تعزيز لمكانة فرنسا على الساحة الدوليّة، وقدرتها على استقطاب الاستثمارات، وبناء قاعدة صناعيّة متينة.
رئيس بصلاحيّات ملك متوّج
وفي أزمنة الوفرة تلك، والبحث عن الاستقرار، لم يلحظ كثيرون الصيغة التي بنى عليها الجنرال ديغول رئاسته، أو لم تعنهم كثيراً. لقد اشترط وقتها الزعيم مبعوث العناية الإلهية لفرنسا لكي يتولى المنصب أن يقبل الفرنسيون بكفّ يد الأحزاب السياسية ونقاشات البرلمانيين البلهاء عن مساحة صلاحيّات الرئاسة. ولذلك جاءت الجمهوريّة الخامسة وفق دستور يمنح الرئيس سلطات تنفيذية كبيرة، مع بند خاص (49.3) يسمح له بتجاوز البرلمان، وفق رغبته وتقديره، وبالتالي فرض التشريعات دون تصويت. ويمكن حينها لأحزاب المعارضة طلب التصويت بحجب الثقة عن الحكومة في البرلمان، فإن فشلت في ذلك اعتبر مرسوم الرئاسة قانوناً سائداً في البلاد.
ومع أن ماكرون لم يكن أوّل رئيس فرنسيّ يلجأ لتلك الصلاحية الاستثنائية الموكلة إلى صاحب المنصب، الذي اختصر الدّولة في شخصه، فقد كان قانون إصلاح نظام التقاعد المرة الحادية عشرة التي تلجأ إليها إليزابيث بورن، رئيسة وزراء ماكرون، لتمرير التشريعات في أقل من عام واحد.
حساب سنوات الوفرة وحساب سنوات القحط
لكن أيّام ديغول ليست مثلها أيّام ماكرون. إذ لم يصل عقد التسعينيات إلا وكأن فرنسا فقدت قوتها الاقتصادية الدافعة، وأصبح الرّكود وضعف النموّ الأمر الغالب. لقد بدأ الفرنسيون بالتململ حينها بسبب القلق من تعالي مستويات البطالة والهجرة، وعبروا عن ذلك بإيصالهم زعيم أقصى اليمين جان ماري لوبان في 21 أبريل/نيسان 2002 إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسيّة، قبل أن يخسر أمام جاك شيراك. لقد كانت تلك إشارة صريحة إلى قلق الفرنسيين من تراجع قدرة الدّولة على الوفاء بواجباتها وفق العقد الاجتماعي، وهو قلق استمر عبر العقود التالية، كما يظهر من مستويات تأييد الرؤساء المتعاقبين، لا سيما آخر ثلاثة منهم: نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند وماكرون، الذي بالكاد وصلت أعلى مستويات التأييد للرئيس إلى 40 في المئة – وهي نكتة بمقاييس الجنرال ديغول – فيما وصلت إلى دون الـ5 في المئة في عهد هولاند، وهي الآن في عهد الماكرون في أجواء الـ 28-26 في المئة، لكنّها مرشحة للمزيد من الهبوط مع استمراء المزاج السائد حالياً في البلاد.
بالطبع لم تعد فرنسا تلك الإمبراطوريّة العظيمة، التي تقاسمت لوقت خلا العالم مع جيرانهم البريطانيين، بل وحتى أنها شرعت في خسارة كثير من المستعمرات القديمة، التي طالما احتفظت فيها بنفوذ قوي، وذلك لمصلحة الأمريكي وقوى أخرى صاعدة مثل الصين وروسيا، كما تقلّصت الفوارق في الأجور بين العمال في العالم الثالث وعمّال أوروبا، بعد تفجّر العولمة وتقسيم العمل الدولي، الذي سمح بنقل كثير من الصناعات إلى خارج المركز الغربيّ، وبالتالي تحسن دخول العمّال في تلك الأماكن، ولذلك لم يعد ممكناً بشكل كبير تمويل رفاه عمال بلاد مثل فرنسا، فيما يمكن دائماً نقل الصناعات منها إلى بلاد تكون تكلفة الانتاج الأساسي فيها أقلّ بشكل عام. كما وساهمت الانعكاسات السلبيّة للحرب في أوكرانيا في تعميق متاعب الاقتصاد الفرنسي ودفعه رويداً رويداً إلى حافة الركود.
والحال هذه، بدا أنّه من الضروري لمنع تفاقم الدّين العام – الذي في الحالة الفرنسية يتجاوز الدخل السنويّ للبلاد – البحث عن طرق لتقليل الإنفاق، ومنها زيادة سنوات العمل قبل التقاعد كي يغطي الفرنسيون العجز المتوقع في صناديق المعاشات من خلال مساهماتهم خلال سنوات العمل الإضافيّة، ودون اللّجوء إلى الميزانية العامّة. وتلك بالطبع مسألة لا يُتوقع لها أن تحظى بتأييد جارف، بحكم أنها ستمس بالمصالح الفردية لكثيرين، ولكن لسان حال الفرنسي يقول «أن تسلبني حقوقي المكتسبة أمر، وأن تتعجرف في نقل تلك الأخبار السيئة لي لأمر آخر تماماً».
يوم لتصفية حسابات عالقة
وهذا تحديداً ما تجاهله ماكرون، ولذلك فإن الفرنسيين صبوا كل مشاعرهم الغاضبة والمصابة بخيبة الأمل في تظاهراتهم الثورية الأحدث ضدّه. لربما كان الأفصح لو أن السلطات التزمت بالطرق البرلمانيّة والترغيب والترهيب لنواب الأمة لتمرير قانون التقاعد. أما وقد اختار سيادة الرئيس لعب ورقة صلاحيات رئاسيّة ثيابها واسعة عليه بشكل جليّ، مقابل ما يمكن للدولة دفعه، فقد يكون هذا الوقت مناسباً للفرنسيين لتصفية حسابات جيل كامل مع الدّولة الفرنسيّة، واستعادة الديمقراطيّة المسروقة على الأقل – بإلغاء الصلاحيات الاستثنائية للرئيس – إن لم يكن ممكناً الحفاظ على مكتسبات (دولة الرعاية) التي كانت.
كاتبة وإعلاميّة لبنانيّة مقيمة في لندن
قبل أشهر خرج السفير الفرنسي السابق بالجزائر و صرح أن الجزائر ستنهار،. فكتبت ردا على جريدة القدس الغراء بأن فرنسا هي التي ستنهار، والرد كان مبنيا على معطيات حقيقية موضوعية وها قد صدقت توقعاتي ولله الحمد والفضل والمنة ????
“للفرنسيين دون الشعوب الأوروبيّة تاريخ متفرّد من الاحتجاجات الشعبيّة العاصفة” سمعت زملاء ألمان أيام العمل في شركة تقنية يلومون أنهم ليسو بجرأة الفرنسيين والطليان في الاحتجاج على الإجراءات الحكومية والرأسمالية الخاصة.